تشتعل الساحات العربية طولا وعرضا بصراعات تراجيدية دامية ومذابح يومية تجهز على عشرات وأحيانا مئات من البشر المتصارعين من ليبيا إلى اليمن مرورا بسوريا والعراق في مشهد مزر ومؤسف وبالغ الغثاثة. في وسط هذا تفتح وسائل الإعلام الأبواب والشبابيك على مصاريعها بحثا عن الخبر من الموقع والميدان، أخبار تساعد على مواكبة المشاهد لما يجري بل واقترابه من الحدث إلى حد التوغل في تفاصيله وجزئياته، الكلام يتعلق مرة أخرى بالميدان الحربي وعمل المراسل الميداني الحربي، ذلك الذي سبق ووصفناه وهو يرتدي السترة الزرقاء الواقية من الرصاص والشظايا ويرتدي أيضا الخوذة الزرقاء وعليها كلمة صحافة. هاهي صحفية بريطانية تقرر أن تذهب بنفسها ومباشرة إلى ميادين الحرب اليمنية وفي جبهتها الأكثر سخونة وتصعيدا في صورة حرب أهلية طاحنة تشهدها اليوم مدينة عدن، تبحث تلك الصحفية عن زورق يقلها من جيبوتي إلى عدن فلا تجد غير زورق مخصص لنقل الحيوانات بين مينائي البلدين، وبالفعل تبحر في تلك الرحلة التي تستغرق قرابة 24 ساعة كاملة. في الطريق إلى عدن ووسط موج البحر يقطع الطريق عليهم شبه قراصنة ومسلحين يشهرون أسلحتهم في اتجاه ركاب الزورق وما بين لحظة الضغط على الزناد وبين الموت الجماعي تطلق كلمة "صحافة" في الهواء مثل رصاصة طائشة، يتصارخ الراكبون على زورق نقل الحيوانات: نحن صحافة، صحافة .. وساعتها تنزل فوهات البنادق وصواريخ آر بي جيه التي كانت تنتظر لحظة الأمر بالانطلاق إلى مراميها في إبادة من كان على ظهر الزورق. المراسلة الحربية الشجاعة هذه هي امتداد لمراسلين حربيين ذوي قلوب شجاعة دخلوا أتون المعارك وما خرجوا إلا في نعوش مكتوب عليها: ذلك الصحفي ذو القلب الشجاع وبعضهم لم يمت ميتة عادية بل تم حز رأسه والتمثيل به في واحدة من أبشع ما مر على البشرية من عصور ظلامية غير مسبوقة. نحن واقعيا أمام نمط من الأداء الصحفي الفريد من نوعه ذلك الذي يتمرد على "غرفة التحرير" ويخرج إلى مكان صنع الحدث وزمانه رغم أنه يعلم أنه قد ركب المركب الأصعب والأخطر على الإطلاق، لكنهم يفعلونها منذ الحربين الكونيتين وامتدادا إلى الحروب التي شهدها العالم وخاصة الشرق الأوسط فأنهار الدم لم تتوقف عن التدفق في هذه الأرض المليئة بالفتن والصراعات والأحقاد والكراهية التي لا يبدو أن ثمة أملا في الشفاء منها وقد تطورت إلى نزعات انتقامية ونيران ثأر لا تنطفئ. المهنية العالية والاحتراف ظلا علامة فارقة لرحلة المراسل ذي القلب الشجاع، لكن الشجاعة وحدها لا تكفي فنوع الخطاب وصدقيته ظلاّ يشكلان هاجسا آخر وذلك بسبب تفاقم ظاهرة الاستقطاب والانقسام السياسي والأيديولوجي بين أن تكون معي أو أن تكون ضدي مما أثقل المراسل ذا القلب الشجاع والنية المخلصة وأوقعه في مأزق لجهة نقل الحقيقة كما هي أو نقل الحقيقة كما يريد مدير القناة أو الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية وتلك هي العلة.