يشكل المقهى، الفضاء الأثير لدى أدبائنا - كتاب القصة بالأخص- بمختلف أجيالهم.حيث لا تكاد تخلو مجموعة من مجاميعهم القصصية،من تناول هذا الفضاء وما يحبل به من وقائع ونزوات. هناك من يعتبر المقهى عالمه الأدبي، بحيث أنه لا يستطيع الكتابة عن شيء آخر، خارج هذا العالم بالذات. نلتقي هنا إذن، مع المقهى في مختلف تلاوينها ومسمياتها: الحانة، المقشدة، الكافتريا، المثلجات، المطعم، البوفيت، النادي الليلي..من هذه الفضاءات، ما هو وضيع، ومنها ما هو باذخ، أو حسب تعبير أحد الأدباء:»مكان نظيف وجيد الإضاءة». من هذه الفضاءات كذلك، ما هو محترم، ومنها ما يشكل بؤرة فساد. كل ذلك يجسد غنى وثراء لذخيرة السرد المغربي. *** تقاطعنا عبر بهو المقهى، «الجاكيط» البنفسجي المفتوح عند الصدر، والسروال الرمادي، والحذاء الواطئ، استمالني هذا الجسد الأنثوي الجميل الذي ينسكب على صدر صاحبه. وهي تعبرني التفت خلفي، لأتعقب هذا الشكل الهيولي، استوقفتني الحروف المكتوبة بالأسود على ظهر «الجاكيط» تو سي آرت لم أفهم ماذا تعني عن ببالي ذلك الرجل الذي تساءل يوما: كيف هو الرجل الذي تريده المرأة؟ صورة لامرأة أخرى تطلع مني، تتحرك الأشياء قبالتي، الطاولة التي جلست إليها في مقهى «ميلانو» أحسستها تتحرك. ملت بجذعي كله عساني أمسكها، أو أمسك نفسي عن السقوط، الطاولة لم تتحرك. أنا التي كنت أتحرك. تدركني حالة التساقط من الداخل فتميل الأشياء كلها في عيني. أتساءل: كم يلزمني من نبتة خشخاش لأتوازن؟ وضع النادل فنجان القهوة، وأنا أحرك قطع السكر، كنت أحرك ما ترسب داخلي فيطلع، همست لنفسي بذاك الذي حدثت به آدمية جنية ممرورة، تبكي حبيبها الجني الذي غاب اذكر حبيبك واهواه تذكر مرارته وانساه ما الذي تذكرته الجنية فكفت عن البكاء؟ وما الذي تذكرته أنا التي لم تكف عن التذكر؟ عدت أنظر إلى فنجان القهوة قبالتي، إلى ما ترسب في قعر الكأس، أفكر على طريقة العرافة. قرأت أحلاما ذابلة. ورأيت غرفا خالية، وهشيم ذاكرة، وكلمات على الورق تركها زادا لي ورحل: سيدتي جئت من رصيف غير رصيفك عائلتك ترغب في التجانس لنترك لجسدينا حرية التنقل بين الموتى دعينا نكتفي بقلبينا تذكرت نصيحة الآدمية للجنية تذكر حبيبك واهواه اكتفيت بالحد الأول في كل ردهات المقهى كان الآخرون يعرون صمتهم يتحدثون بجمل جاهزة، يسألها: ألست الرجل الذي تودينه؟ قالها بكثير من الرقة والهدوء