في منتصف التسعينات، لاحظ مدربو الطيران في الغرب أن تلاميذ القوة الجوية يتعلمون التحليق والمناورة بسرعة قياسية تفوق الأجيال السابقة بكثير. شيء ما تغير في أدمغة الشباب جعلهم أكثر تأهيلا. إنها ألعاب الفيديو التي كبروا وهم يلعبونها. أصبحوا طيارين "بالفطرة". عقولهم أعادت ترتيب العصيبات الدماغية لتقوم بهذه المهمة. كانوا أيضا أكثر جرأة وإقداما. في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة تطور الأمر كثيرا. كان تلاميذ التحليق والطيران اللذين لم يعودا حكرا على الطيارين، أفضل من جيل التسعينات. طيارو الطائرات من غير طيار الذين يقودون الطائرات المحلقة فوق أفغانستان والعراق واليمن كانوا أكثر براعة. ولكنهم كانوا أيضا منعدمي الإحساس بالخوف. العصيبات الدماغية لم تتغير فقط لتكون أكثر سرعة واستجابة للمشهد البصري الذي توفره الألعاب الإلكترونية، إلا أنها منحتهم إحساسا بالمنعة من الخطر. الحياة بالنسبة إلى هؤلاء من الجيل الأول والثاني لعصر ما بعد الألعاب الإلكترونية شيء بسيط. ما إن "تقتل" على شاشة الكمبيوتر أو التلفزيون المربوط على جهاز الألعاب، حتى يبادر الجهاز إلى منحك حياة إضافية أو أكثر للاستمرار. عدوك على الشاشة أيضا لا يموت بسهولة. وإذا مات، فإنه ينط بعد دقائق واقفا ويطلق النار أو يواجهك بسيفه. الحياة اكتسبت معنى جديدا. أنت على شاشة ألعاب الفيديو "قط بسبعة أرواح". حياتك رخيصة لأن في جعبتك خزينا من الحيوات. وحياة الأعداء رخيصة لأنهم لا يموتون بل يتجددون. أطلق النار ولا تتردد. هذا الرخص صار سمة ثقافية حياتية نعيشها. لا أحد يحصي عدد "القتلى" على شاشات الألعاب. لا أحد يحصي عدد القتلى على شاشات الهجمات الحقيقية التي ينفذها طيارون يجلسون في تامبا في فلوريدا الأميركية في حين أن طائراتهم المسيّرة عن بعد تقتل في وزيرستان. بمرور الوقت صار عداد القتل لا يهتم بالتبرير أبدا سواء أكان القتيل عروسا في زفاف أم إرهابيا يفجر نفسه في الآخرين. وكالات الأنباء صارت تورد الأخبار في سياق مبسط وما عادت المؤسسات الإعلامية بأشكالها الورقية والتلفزيونية والإلكترونية تهتم بنشر الخبر. هذه ثقافة خطيرة. عندما نفقد الإحساس بحيوات الناس، ماذا يبقى ذا قيمة؟ هكذا نكون قد رصدنا المشكلة. إنها ألعاب الفيديو الملعونة إذن. هذا لا شك تبسيط مخل. المشكلة أعمق بكثير وتتعلق بثقافة الوفرة والإنتاج وثقافة ابتذال القيمة كذلك. في الستينات والسبعينات مثلا، كان العريسان يشتريان أثاث المنزل بحرص لأنه سيعيش معهما العمر كله: الثلاجة الأميركية والتلفزيون الهولندي والراديو الياباني والغسالة الألمانية والأثاث المصنع محليا من خشب الصاج أو البلوط. التلفزيون قطعة أثاث مهمة جدا كان يتم تخصيص قطعة قماش مزركشة تغطيه خلال النهار حفاظا عليه من الغبار وترفع عنه عند استخدامه مساء (نعم كان البث التلفزيوني في المساء فقط). الهاتف يوضع على رف عال جدا لكي لا يصله الأطفال. السيارة ثروة عائلية عابرة للأجيال. في الثمانينات وصل جهاز الفيديو. كان جهازا مثيرا ولكنه كان هشا جدا كثير الأعطال. كان يزور محل تصليح الأدوات الإلكترونية كثيرا لكنه يعود معززا مكرما. التصليح، للفيديو وغير الفيديو، كان شيئا عاديا جدا ومهنة محترمة. لم نكن نرمي الأشياء. كنا نصلحها ونعتز بها. كان ضروريا أن تبقى "حية". ثم جاء الإنتاج الرخيص القادم من شرق آسيا: هونغ كونغ وسنغافورة وماليزيا وأندونيسيا أولا ثم الغولان الصناعيان الصين وكوريا الجنوبية. فقدت الأشياء قيمتها. صار كل شيء رخيصا، بل أرخص. لم يفكر أحد أن يصلح مشغّل الأقراص الفيديوية العاطل. كان يرمى. حاول البعض تصليح أجهزة الكمبيوتر. انتهى الأمر بأنك تستبدل الكمبيوتر حتى من دون أن يعطل. هذا كمبيوتر "قديم" رغم أن عمره لا يتجاوز عمر طفل في الروضة. انظر كيف صرنا نتعامل مع الهاتف المحمول. صار عمر الهاتف المحمول "الذكي" سنة لا أكثر، في حين كانت الأجيال الأولى "الغبية" منه تعمر لسنتين. الذكاء مشكلة. صرنا نستبدل السيارات ونرمي الأثاث (نشارة خشب مكبوسة لا قيمة لها) ونغير من تلفزيون الشاشة الكريستال إلى شاشة أل إي دي لأن الأخيرة أكثر بريقا. هذه الوفرة في كل شيء زحفت على المنتج الثقافي. استبدل التلفزيون الكتاب أولا، ثم غرق التلفزيون نفسه بعدد كبير من القنوات. حيرتنا كبيرة في اختيار مسلسل رمضان المفضل الذي سنتابعه. الفضائيات أمطرتنا برامج منوعة وترفيهية. ما نذكره من الأغاني هو ما تختزنه ذاكرتنا من أيام الراديو أو الكاسيت الذي لا ينفكّ عن التكرار.