"زحف الكلس"، هذه القصص القصيرة جدا، هذه الومضات المنتزَعة من متخيَّل المحكي، على صغر حجمها وشدة اختزالها، تتطلب قدرا محترَما من اليقظة النقدية. إن القصة القصيرة جدا أشبه ما تكون بومضات البرق؛ فهي تضيء لك المكان برهة من الزمن ثم تنطفئ، لتتركك وحدك كي تواصل الطريق وسط دياجي الرموز، وتضاريس الحكي الوعرة. تأتي هذه المجموعة القصصية إذاً، وكما يكشف صاحبها في فاتحة عمله، تحت مسمى: "قصص متوترة جدا" لتعبر عن التوتر الهادر والقلق الفوار، نائية بنفسها عن جغرافيا الحدود؛ فقد طافت بصاحبها وبنا بعده في عوالم متراحبة وأبحر متلاطمة من مفارقات لا تنتهي، وكانت تخرج به كل مرة من الصدامات مثخنا بالجراحات. وبناء عليه، ينبغي أن يتسلح القارئ بدوره لمواجهة هذه النصوص القصصية التي تتعالى على النسق السردي التقليدي. إنها تتطلب متلقيا مشاركا قادرا على ملء فراغاتها أمَلاً في ملامسة أرضها العذراء عبر آلية التأويل. الحمولة الدلالية للمتن الحكائي في "زحف الكلس" يبدو جليا لمتلقي هذه المجموعة القصصية أن المتن الحكائي فيها جاء محكوما بالتنوع؛ وذلك لكون الحمولة الدلالية للمحكي في هذه القصص قد توزعت بين مجالات عدة، ممثلة في ما هو اجتماعي، وما هو ثقافي، وما هو سياسي، وما هو كوميديّ؛ وهو تنوع له بُعْده الدلالي والجمالي. بيد أن اللافت للانتباه تربُّع المجال الاجتماعي وسيادته على بقية المجالات؛ ولهذا الاعتبار، سنحاول رصد تمظهرات المحكي في صورته الاجتماعية، عبر إعادة تفكيك ملامح الرمزية في أقوى القصص إيحاء. تكشف البعد الواقعي الاجتماعي للأضمومة قصص: "لم يمت القط"، و"مناديل حمر"، و"موت في الزحام"، و"ثمن الرقصة"، و"آخر الخراب"، و"ضياع"، و"تعادل سلبي"، و"تنازع البهاء"، و"المصروع"، و"ضاقت فاتسعت"، و"تشريح آخر"، وحسبنا من هذه العناوين ما يفي بالحاجة، وإلا فالمقام لا يسمح بدراسة كل القصص المحمّلة للمتن الحكائي المحيل على الحياة الاجتماعية بكل مظاهرها السلبية؛ ولهذا الاعتبار وقع اختيارنا على بعض القصص دون غيرها. "مناديل حمر" عنوان يحيلنا على المتن الحكائي الآتي: ضوء أحمر: توقفت عجلات سيارة رباعية الدفع. مد إلى سائقها الطفل الأسمر الأغبر علبة مناديل؛ فتكرم عليه بدارهم دون أن يستلم منه العلبة، وعيناه مشدودتان إلى الأضواء: ضوء أخضر: "ارتفعت أصوات أبواق السيارات، وانطلقت السيارة الرباعية الدفع. لحقها الطفل الأسمر الأغبر، وفي يده علبة المناديل، وهو يصيح: خذ علبتك، لست متسولا. سمع دوي اصطدام، وشوهدت علبة المناديل مغموسة في الدم". "تتحول المناديل البيض إلى مناديل حمر، ويصير الدم، تبعا لذلك، ثمنا للعفة والكرامة.. هكذا تأبى النفوس الكريمة إلا أن تظل شامخة ثابتة، تواجه الأعاصير ونوائب الدهر والفقر في غير ما تفريط في القيم الفاضلة، إنه طفل في عمر الزهور، تعلم من دروس الحياة كيف تكون عفة النفس..." وعلى النقيض من هذه الأقصوصة، تستوقفنا قصص أخرى تكشف صورا مخزية لا مكان فيها لكرامة الإنسان! ومن ذلك ما نقرأه في أقصوصة "يومية منجل "، وقد جاء فيها: "بعد الزوال، رأيت المنجل ذاته على الحصير، وصاحبه المسوس الأسنان يزعم للمتسوّقين بأن جميع أمراض العظام والمفاصل يبرئها هذا المنجل الحقير. قبل الزوال، أوقفني في مدخل السوق رجل مسوس الأسنان مستجديا: جئت من بعيد للحصاد، وهذا منجلي شاهد، لكن ما لي نصيب." ما أعظم الفرق بين هذا (الرجل) وبين ذلك الطفل الشهم. إنه اختلال في القيم، وتباين في معادن النفوس! لقد هوت النفوس الرخيصة تحت وقع الماديات، ولم يعد الأمر يقف عند حد التسول، وإنما تجاوزه إلى احتراف النصب والاحتيال. لقد بات هؤلاء يُمْعنون في ابتكار أساليب جديدة من شأنها أن توقع الآخر في الشرك والخداع. ولعل تفشّي هذه الظاهرة وخطورتها كان من الأسباب التي دفعت القاصّ إلى إثراء إبداعه بنماذج أخرى تكشف هذا الوجه البَشِع لأهل التسول، ومن ذلك ما تحكيه أقصوصة "ثمن الرقصة"، والتي جاء فيها: "قال لها ممتعضا: الله يسهل.. ردت عليه منتفضة: لكن رأيتك بأمّ عيني تتكرم على عازف العود بورقة نقدية من فئة عشرين درهما. رد عليها بهدوء زائد: ولكن الرجل غنى لي أغنية "ستّ الحبايب"؛ فأطربني حتى كدت أجهش بالبكاء. أخذت ترقص رقصة مائعة، ثم قالت له: هات حالا ثمن الرقصة". إن اللافت للأنظار في هذه الأقصوصة أن وضع المتسولة المحتالة هو أقرب ما يكون من وضع الزبون المتصدق؛ إذ يتساوى في ميزان القيم الهجينة الرقص المائع والمتابع المتلذذ، فكلاهما شاهد على صور الحياة المبتذلة الفارغة من معانيها السامية. وفي معترك الحياة الاجتماعية دائما، ينقلنا القاص إلى مَناحٍ أخر ترتسم فيها أوضاع المجتمع في صور سلبية متعددة. ومن ذلك ما نقرأه في أقصوصة "وجهان ولسان"، وقد جاء فيها: "ظنّ أولَ الأمر أنها دعابة سمجة من دعابات ابنه المشاكس؛ فأحجم عن فتح فمه، وامتنع عن إخراج لسانه. ألح الطفل على طلبه .. أريد أن أرى لسانك. فقد صادفت جارنا البارحة، وهو يغادر بيته، وطلبت منه أن ينحني لأتصفح وجهه؛ لأنني سمعتك تقول لأمي: جارنا له وجهان. نهرني الجار، وقال لي: "لسان والدك أطول من ذراعي." فالأقصوصة تكشف، بجلاء، الملامح السلبية للعلاقات الاجتماعية، حين يغتاب الجار جاره، وعلى مرأى من الصغار ومسمعهم، وهو ما يكتسي بعدا خطيرا على مستوى تربية الأبناء؛ حيث ينبغي أن تتوفر التربة الاجتماعية والأسرية الصالحة لتلقي هذه التربية. وهذه الظاهرة تطّرد في الأضْمُومة القصصية في أقصوصة "حدبات"، وأقصوصة "طبقات"، وأقصوصة "أطوار"، وأقصوصة "نصب واحتيال... إلخ. ثم يمعن القاص في رصد صور أخرى للوضع الاجتماعي السيئ، وفي فضاءات متعددة: داخل البيت؛ كما هو الحال في أقصوصة "انفجار"، وفي مقر العمل؛ كما تشير إلى ذلك أقصوصتا "هكذا تؤكل البرتقالة"، و"جحود"... أما في أقصوصة "ميزان"، فيأتي كشف القاص للفوارق الاجتماعية من خلال استعراضه نماذجَ بشريةً تمثل الطبقات الاجتماعية. فقد جاء في هذه الأقصوصة: "50 كلغ. امتعض الشاب، وقال: سبحان الله، كأني لا آكل الطعام. 70 كلغ. امتعضت الشابة، وقالت: هذا كثير. علي بالحمية .. علي بالرياضة. درهمان. امتعضت صاحبة الميزان، وقالت: مضى نصف النهار، ولم أحصل بعْدُ على ثمن كلغ واحد من الدقيق." يُستشفّ من رمزية الأقصوصة الإحالة على ثلاث طبقات اجتماعية؛ بحيث يمثل الشاب الطبقة المتوسطة، وتمثل الشابة صاحبة السبعين كيلوغراما الطبقة الغنية، بينما تمثل المرأة صاحبة الميزان الطبقة الفقيرة. إن البَوْن شاسع بين مَنْ يطلب الحمية والرياضة سعيا إلى التخلص من زيادة وزن الجسم، وبين من يقضي سحابة يومه بحثا عن ثمن الخبز "مضى نصف النهار، ولم أحصل بعد على ثمن كلغ واحد من الدقيق"! وشبيهٌ بهذا الوضع ما يكشف عنه القاصّ في أقصوصة "المصروع"؛ حيث يطول الانتظار بالرجل في الموقف، دون أن يحصل على عمل، وهو ما يؤثر على صحته ليصاب بالصرع والإغماء "حين زحف النهار، واضمحلّ حظه في العمل، انتابته نوبة الصرع، فسقط على الأرض يتخبط... تفقد جيبه الداخلي، فلم يجد درهما واحدا مما ادخره من كدح الشهور..". رهان القاص في "زحف الكلس" ستظل الأعمال الإبداعية تراوح مكانها بين استهداف وظيفتي الإمتاع والإفادة، على الرغم من وجود من يحاول إسقاط الوظيفة الثانية بحجة أن الإبداع قد وُجد لتحقيق الجمالية الخالصة التي لا يرجى من ورائها الإصلاح في ناحية من مناحي الحياة، وهذه هي فلسفة مدرسة "الفن للفن"! والحق أن المنطق يقتضي ضرورة إخراج العملية الإبداعية من هذه النظرة السلبية؛ فما يضر المتلقي أن يستمتع بجمالية النص، وأن يستفيد من أفكاره وحكمه أيضا؟! إن للأديب رسالةً، وما أعظمها من رسالة! إنه يرى الواقع، ويحتك بأناسِه، ويؤلمه ما يعتمل فيه من مظاهر التردي والآفات؛ فيتطلع إلى واقع أفضل. وتتأكد هذه الرسالة على نحو أقوى حين يتعلق الأمر بالأعمال السردية. إن هذه الأعمال تستمد قيمتها الحقيقية من رهان أصحابها ومقصدياتهم. طبعا، إلى جانب المكوّنات الفنية التي لا ينبغي التفريط فيها. ومن المعلوم أن الرهان يتباين تبعا لقناعات الأدباء ومواقفهم وطرق تناولهم للإشكالات والقضايا؛ فمن الأدباء مَنْ يكتفي بتشخيص الواقع دون تقديم حلول لمعضلاته، ومنهم من يتجاوز هذا الحد ليطرح حلولا يراها ناجعة للمشكلات المطروحة، ومنهم من يسلك طريق الإدانة والرفض أو التصالح والتريث... ويكون ذلك كله وَفق طرائق متعددة ما بين رمزية وواقعية وسريالية وعبثية.. ونحن نتساءل في هذا المقام عن رهان القاص عبد الله زروال في مجموعته "زحف الكلس". ولنتحقق من هذا المعطى، لا بد من فحْص بعض القصص على سبيل الاستدلال. ففي أقصوصة "يومية منجل"، قدّم لنا القاص نموذجا من محترِفي التسول (الرجل المسوس الأسنان)، وأوضح كيف تتعدد أساليب هؤلاء لابتزاز الناس والإيقاع بهم. وتبعا لذلك، فإن الأقصوصة كشْفٌ لهذه الظاهرة الاجتماعية السلبية. وهنا توقف دور القاص ليبدأ دور المتلقي لمَلْء هذه الفراغات، ومشاركة القاص في البحث عن الحلول والمواقف تماشياً مع التيار الجديد في العمل الروائي والقصصي، والذي يقضي أن يكون المتلقي حلقة مهمّة من حلقات الإبداع، خلافا للمنحى التقليدي في الأعمال القصصية الكلاسيكية، وكأن رهان القاص، وفق المنظور الجديد، قد تخطّى النص وصاحبَه إلى متلقيه عبر البحث عن الموقف الصحيح والوضع اللائق اللذيْن ينبغي أن يتحققا. ويحذو القاص الحذو نفْسَه في قصص أخرى، ومن ذلك ما يتجسد في أقصوصته "شهادة"، التي هي كشْف لمعاناة ساكنة البادية، ولاسيما الأمّهات؛ حيث تعاني المرأة كثيراً أثناء مرحلة الولادة؛ إذ تتم – أحياناً – هذه الولادة خارج المستوصف والبيت؛ أي لحظة التنقل من القرية النائية إلى المستوصف؛ كما يتجلى ذلك في هذه الأقصوصة حيث تتم الولادة داخل سيارة هَرِمة؛ ما أدى إلى وفاة الأم بعد أسبوع! إن القاص يقف مرة أخرى، عند حدّ تشخيص الظاهرة، فاتحا المجالَ أمام المتلقي ليمْعِن النظرَ في هذه الظاهرة، بحثا عن الحل الممكن. إن القاص هنا يراهن، وكما هو واضح من خلال النماذج المدروسة، على وعْي المتلقي ومشاركته أيضا لتحقيق الرهان المرْجُو من وراء المجموعة القصصية "زحف الكلس". هكذا نأتي في خاتمة هذه المقاربة النقدية إلى الإقرار بأن القاص عبد الله زروال، ومن خلال مجموعته "زحف الكلس"، قد استطاع حقا أن يوفر لإبداعه شروط النجاح، وهو ما من شأنه أن يُطَمْئِن المتلقي على أنّ الأفضل آتٍ إن شاء الله. إن هذا الصوت يؤسِّس لعالَم قصصيّ موعود بالجِدّة، التي من شأنها أن تستفزّ القارئ، وتدفعه إلى مَلْء فراغات النص، والمشاركة في خلْق رهاناته وتأويلاته الممكنة.