الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    تقرير إسباني يكشف مفاجأة بشأن اعتراف الصين بمغربية الصحراء    التوقيت والقنوات الناقلة لمواجهة الأسود والغابون    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    مأساة جديدة في إسبانيا.. حريق يودي بحياة عشرة نزلاء في دار للمسنين    تخليد الذكرى ال69 لعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى إلى أرض الوطن    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    المغرب يترقب اللحظة المواتية لخروج الخزينة إلى السوق الدولية        مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    الرباط.. اختتام أشغال مؤتمر دولي حول الزراعة البيولوجية والإيكولوجية    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    "كوباك" تدعم التلاميذ ب "حليب المدرسة"    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية 2025    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة        التحاق 707 أساتذة متدربين بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بدرعة-تافيلالت    كيوسك الجمعة | المغرب يسجل 8800 إصابة بسرطان الرئة سنويا    الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب        زيارة المسؤول الإيراني للمغرب.. هل هي خطوة نحو فتح باب التفاوض لإعادة العلاقات بين البلدين؟    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    النيابة العامة وتطبيق القانون    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    10 قتلى جراء حريق بدار مسنين في إسبانيا    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



درامة تلفزيونية
نشر في بيان اليوم يوم 02 - 08 - 2015


الدراما التلفزيونية: الأسباب الاقتصادية للإخفاق
انتهت أيام رمضان وسينتهي معه الجدال حول الإنتاج الدرامي، في انتظار حلول رمضان من جديد واجترار نفس الحديث. فمع كل شهر رمضان نعيش نفس الحكاية، فريق يدافع عن المنتجات الدرامية مستعرضا نسب المشاهدة، وفريق ينتقد متحججا بانعدام الجودة وتهديد الذوق العام.
لننطلق أولا من أن مفهوم الجودة في الفن لا يقترن بمعايير ثابتة كما هو شائع، لأنه لو كانت هناك قوانين ثابتة ومعيارية لأصبحنا كلنا فنانين بمجرد معرفتها وتطبيقها. فمعايير الجودة، على أهميتها، مهما تم حصرها،
هي مجرد إطارات نظرية عامة يمكن تطبيقها بما لا يعد ولا يحصى من الإمكانيات، والعمل الفني في حد ذاته هو الذي يحدد، عند تلقيه، إن كان يتوفر على عنصر الجودة أو لا يتوفر عليها، سواء اعتمدنا معيار النقد أو الجمهور أو هما معا.
ولذلك فعملية إنتاج الأعمال الفنية تفترض فشلا، كما تفترض نجاحا وجودة بدرجات متفاوتة حتى ولو تعلق الأمر بنفس المبدع، وتبعا لهذا فهي تحتاج مغامرة اقتصادية كبيرة وتعددا في الإنتاجات وتنافسية قوية تفضي في نهاية المطاف إلى بروز القيم الفنية الحقة.. أما الأعمال الفاشلة فتضمحل من تلقاء نفسها؛ بحيث إننا، مع هذا التعدد والتنافس، لا نحتفظ في ذاكرتنا إلا بالناجح ولا نولي كثير اهتمام للفاشل لأنه من المفترض ألا يعرض أصلا.
في السياق المغربي، من الصعب الحديث عن أي ارتباط للإبداع الفني بالمغامرة الاقتصادية، وبالتالي إمكانية رفع منسوب الجودة بسبب حدة التنافس.
المغامر الوحيد في المغرب هو المبدع، بغض النظر عن قيمة إبداعه من الناحية الفنية، أما المقاولة الفنية فهي في الغالب لا تغامر بأي شيء، أو مجال مخاطرتها محدود في أحسن الأحوال، في مقابل ذلك، تتحكم في كل شيء لأنها تعيش على الدعم العمومي أو عبر تنفيذ الإنتاج الفني لصالح جهات منتجة حقيقية معتمدة على نموذج اقتصادي مرتبط بالمنتجات المادية، وليس تلك التي تنتمي لأعمال الفكر les œuvres de l'esprit كما هو الشأن بالنسبة للأعمال الفنية.
لنفكر إذن في موضوع الجودة من زاوية أخرى، ولنأخذ بعض المسافة من الإبداع ومن النقد ومن كل ما يرتبط بالإبداع في حد ذاته عموما، ولنفكر في الكيفية، في الطريقة، وفي المنهجية التي يتم بها هذا الإبداع، والمراحل التي يمر بها قبل أن يصلنا على الحالة التي هو عليها من الناحية الاقتصادية ورهاناتها في المجال الفني.
أهمية تغيير زاوية النظر من الإبداع في حد ذاته إلى شكل إنتاجه، تمرين مهم تختفي فيه الكثير من التفاصيل، ونعلم أن الشيطان يختفي في التفاصيل.
لا يكفي أن تقول إن هذا المنتوج جيد أو رديء، بل يجب أن تتساءل أيضا عن كيف أنجز، ومن تدخل فيه، وما هي حدود مسؤولية المبدع، ومسؤوليات غيره من المتدخلين؟.
أعطاب الاستثناء الثقافي
لنضع الأمور في نصابها ولنعيد قراءة المشكل من أساسه. في مطلع الثمانينات ومع تنامي العولمة الاقتصادية، والخوصصة، ركنت الصناعات الإبداعية والثقافية عبر العالم إلى الاعتماد على العمالة الثقافية الحرة عوض الأجراء الدائمين، أي الاعتماد على العمل / المهمة، le travail à la tache ، عوض الاعتماد على العمل اليومي مقابل أجرة دائمة. فالفنان والصحفي والمنشط والتقني أصبح مطلوبا منه أن يؤدي عملا محدودا في مدة يتقاضى مقابله أجرا، دون أن تربطه بالمؤسسة أية علاقة شغلية دائمة.
من جهة أخرى أدى نمو التوجه الليبرالي في الاقتصاد إلى تراجع تدخل الدولة المباشر في الثقافة والفنون، وإخراجهما التدريجي من القطاع العام إلى القطاع الخاص مع الإبقاء على ضرورة تشجيع الفنون والثقافة عبر الدعم، أو عبر المناولة، أو عبر امتيازات ضريبية تحصينا لثقافات هذه الشعوب من الهيمنة الثقافية للقوى الاقتصادية الكبرى.
غير أن العديد من البلدان التي سنت هذا النهج اعتمدت الوضع المزدوج للثقافة والفنون كمنتوج ثقافي، لكن بخصائص تجارية تعرف هامشا كبيرا من المخاطرة مقارنة بالمنتوجات الأخرى، ولذلك وجب دعمها تقليصا لهامش المخاطرة هذا، وأيضا تقنينها عبر نموذج اقتصادي خاص حتى لا تتحول استثمارات الدولة إلى ريع ثقافي لفائدة المقاولات مما قد يقتل روح التنافسية والمبادرة أو ما قد يدفع هذه المقاولات إلى الرهان على الربح من مال الدولة بأعمال تعود ملكيتها الفكرية للفنانين والمنتجين الفعليين.
ولقد كانت توصية اليونسكو حول وضعية الفنان الصادرة في مؤتمر بلغراد سنة 1980 أولى التوصيات التي ركزت في العديد من جوانبها على خصوصية العمل الفني، وتلتها توصيات أخرى واتفاقيات لعل أهمها اتفاقية نفس المنظمة حول حماية وتعزيز أشكال التنوع الثقافي سنة 2005.
هذا المنطلق بالقدر الذي يبدو مهما من زاوية حماية الإنتاجات الفنية الوطنية أمام سيل إنتاجات القوى الثقافية الكبرى، لم يكن ليتم دون أن تكون له آثار جانبية وخيمة مرتبطة بإيجاد تصويغات قانونية وحقوقية جديدة للريع الثقافي، بشكل لا توظف فيه استثمارات الدولة ومؤسساتها لصالح القيم الفنية، بل لتحويل الممارسة الفنية إلى آلية للريع لقوى ضغط اقتصادية جديدة تقدم نفسها كمستثمر في المجال لكن بأموال عمومية، وتقدم نفسها كوسيط بين الفنان والدولة أو مؤسساتها عوض أن تكون آلية لتقريب الثقافة والإبداع من المواطنين الذي هو جوهر فكرة الاستثناء الثقافي، لأن الغاية النهائية من تدخل الدولة أو مؤسساتها هو توفير منتوج ثقافي وفني لصالح المواطن في نهاية المطاف من منطلق تقريب الخدمات الثقافية من المواطنين وليس العكس. المقاولة الفنية والفنان هما وسيلة وليسا هدفا في حد ذاته.
المغرب الذي لم تكن فيه عمالة ثقافية أجيرة بعقود غير محدودة المدة إلا نادرا، انتقل إلى السرعة القصوى، اعتمد الدعم في مجال الثقافة والفنون والإعلام، كما عهد لإعلامه العمومي بمسؤولية الإنتاج في شقيه الداخلي والخارجي في غياب أي تقنين عميق للعلاقات التعاقدية بين المقاولات المدعمة أو المنفذة للإنتاج والفنانين، تحصينا لاستثمارات الدولة على محدوديتها من أي منزلق ريعي لصالح المقاولة يقوم من جهة على هضم حقوق الفنانين ومن جهة أخرى يفتح الباب على مصراعيه أمام محاولة بعض المقاولات الحصول على ربح سريع من الأموال التي من المفروض أن توظف في المنتوج الفني مقابل نسبة ربح محددة بالقانون.
وهنا كانت المصيبة...فرغم نبل الموضوع وأهميته الاستراتيجية، وقعت الدولة شيكا على بياض لبعض المقاولات التي ليست بالمقاولات ومنحتها حق التحكم في إعلامها، ومنحت للعديد من شركات الإنتاج مجالا للاغتناء، وفتحت أيضا إمكانية الفساد الإداري وأغلقت الباب أمام إمكانية قيام قطاع خاص مواز للثقافة والفنون المدعومة.
الإنتاج الفني كاقتصاد مخاطر
نظريا يندرج الاقتصاد الفني في اقتصاد المخاطر المرتفعة. وهو نمط اقتصادي مبني في جوهره على ارتفاع منسوب المغامرة الاقتصادية لسببين:
السبب الأول هو أن منتوجه ليس ذا طبيعة مادية، بل روحية – فكرية، ولذلك فهو ينخرط في أعمال الفكر les œuvres de l'esprit التي تختلف جوهريا عن المنتجات المادية محدودة المردودية الاقتصادية بطبعها. عندما تنتج إناء أو تبني منزلا أو تنجز طريقا، أنت أمام منتوج محدود الاستعمال من قبل من يستعمله أو يستهلكه، الأمر يختلف تماما عندما تنجز عملا فنيا، فهو قابل للاستغلال المتعدد وللاستنساخ إلى ما لا نهاية حسب قوة الموهبة التي أنتجته...
السبب الثاني يكمن في أن هذا النجاح غير مضمون لتقلبات الذوق السائد ولإمكانية إخفاق المبدع في اختياراته الفنية... هنا تصبح المنتجات المادية، مقارنة بالفكرية، ورغم محدودية استعمالها، ناجعة اقتصاديا ومضمونة النتائج لأن هناك حاجة ملحة إليها مرتبطة بالحياة اليومية العملية.
جاذبية العمل الفني سواء من قبل المقاول أو الفنان، تكمن في الأمل بالنجاح الفني أو الجماهيري أو هما معا، والذي تصبح فيه العائدات استثنائية إذا ما تحقق هذا النجاح. أما الدولة ومؤسساتها المتخصصة فهي تتدخل عن طريق الدعم أو الاستثمار من أجل تقليص هامش المخاطرة هذا مسنودة أيضا بحس المقاول والفنان في الربح غير المادي أيضا، والمتمثل في الحظوة والمكانة الاجتماعية التي ينالانها عند كل نجاح فني أو جماهيري.
هذا الأمر بعيد كل البعد عن التحقق عندما تصبح عملية الإنتاج الفني تعتمد مقاربة ريعية يصبح فيها المال العمومي في الغالب غاية، وليس وسيلة لإنتاج الأعمال الفنية.
من زاوية أخرى، عندما نقارن عملية الإنتاج التقليدية، وعملية الإنتاج الفني نستنتج أيضا أن المنتوجات الفنية من حيث هي أعمال فكر لا تتطلب من المستثمر توفير مادة خام مقارنة بالمنتجات المادية، ولا تتطلب منه توفير وسائل إنتاج استثنائية، بل تتطلب أساسا الاستثمار في المواهب والكفاءات الإبداعية عن طريق تجميعها وتنظيم عملية إنتاج الأعمال الفنية واستغلالها.
الفنان وحده من يتحمل التبعات
الفرق بين الشركات العادية وشركات الإنتاج الفني إذن أنها لا تملك وسائل إنتاج استثنائية لأنها تعتمد أساسا على موهبة وخبرة المؤلفين والفنانين المؤدين كمادة خام، وعمالتها ليسوا موظفين أو عمالا تربطهم بالمقاولة عقود طويلة الأمد. عمالتها الحقيقية هم المخرجون وكتاب السيناريو والممثلون والتقنيون ومهندسو الديكور.. ومنتوجها ليس الدعامة التي يثبت فيها هذا المحتوى الفني، بل المحتوى في حد ذاته، كما أن المتعهدين لا يبثون في نهاية المطاف إلا مضمونا هو عبارة عن فيلم أو مسلسل أو برنامج قام بتصويره وإنجازه أناس في الغالب لا تربطهم بالمقاولة أية تبعية شغلية طويلة المدة. هم أناس مستقلون في الغالب freelance. والشركة المنتجة أي المستثمرة – التلفزيون العمومي في سياق حديثنا- لا تقوم في الواقع سوى بالاستثمار أساسا في المواهب والكفاءات عن طريق تجميعها وتنظيم عملية الإنتاج انطلاقا من فكرة أو تصور أو نص.
في عملية الإشراف والتنظيم هذه يكون الاستثمار عبارة عن اقتسام للمخاطر بين المبدع والمقاولة المنتجة، كما أن اقتسام المخاطر في حالة الفشل، لا يلغي إمكانية اقتسام النجاح بالتعويض عن الاستغلال في إطار القوانين المؤطرة للحماية الفكرية. هذه القاعدة مغيبة تماما في نموذجنا الاقتصادي لإنتاج الأعمال الدرامية.
المنتج الحقيقي هو القنوات العمومية والمادة الخام هي الإبداعات التي يوفرها أصحابها (الفنانون- مؤلفون ومؤدون والتقنيون).
غير أن العلاقة بين المنتج الأصلي الذي هو القناة العمومية، وذوي الحقوق من الفنانين يدخل فيها طرف ثالث ينصب نفسه حامل مشروع لا يقدم لا مادة خام ولا وسائل إنتاج استثنائية وبالتالي فهو لا يخاطر اقتصاديا، من يتحمل المخاطرة الاقتصادية والفنية هي القنوات العمومية التي هي مالكة الحقوق باعتبارها منتجا، والفنانون أيضا باعتبارهم مالكي حقوق أعمالهم أيضا، وليست مقاولات تنفيذ الإنتاج.
الأولى باعتبارها المستثمرة ماديا في المنتوج والتي من المفروض أن تكون تحت طائلة المحاسبة الإدارية والسياسية في حالة الفشل الفني، والثاني (الفنان) باعتباره المالك لحقوق إبداعه وهو الواجهة التي تطالها المحاسبة النقدية والجماهيرية عن أي فشل محتمل.
المقاولة المنفذة للإنتاج تصبح في هذه الحالة مجرد وسيط بين المنتج الأصلي والفنان، وهذا الوسيط هو الأقل عرضة للمحاسبة بسبب الفراغ التشريعي، ويزداد الأمر خطورة عندما تقرر بعض المقاولات بدوافع الربح التقرير في طبيعة المنتوج ومن يشارك فيه قصد خفض التكلفة. كما يمكنها بعد الحصول على الصفقة اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة لإعادة النظر في ميزانية المشروع عن طريق خفض أجور الفنانين وتعويضهم أو اللجوء إلى كفاءات فنية أو تقنية أقل كلفة أو اختصار وقت الإنجاز، أو اللجوء إلى المناولة بشكل صريح أو سري، ليصل المشروع في النهاية إلى المشاهد بتكلفة من المحتمل أن تكون أقل بكثير مما هو مرصود له.
السبب في هذا، يعود بالأساس إلى غياب المخاطرة الاقتصادية لدى المنتج المنفذ، وضعف سلطة مالكي الحقوق الأساسيين المنتجين (القنوات العمومية) والفنانين وغياب تقنين للعلاقات التعاقدية بين المنتج الفعلي والعمالة الفنية من جهة وضعف تقنين هذه التعاقدات بين المنتج الفعلي والمنتج المنفذ من جهة أخرى، الشيء الذي يجعل العمالة الفنية تتنازل عن حقوق مفترضة لا يفصل فيها القانون، كما تفرض عليها القوانين الموجودة المفصلة على مقاس النموذج الاقتصادي المرتبط بالمنتوجات المادية وليس منتجات الفكر، مزيدا من التنازل قصد البقاء رمزيا وضمان فرصة عمل.
ولهذا، فالتفكير في خصوصية النموذج الاقتصادي لإنتاج الأعمال الفنية يقود رأسا إلى طرح الأسئلة التالية:
بماذا يغامر منتجونا المنفذون عندما يتقدمون إلى طلبات العروض للتنافس على صفقات إنتاج الأعمال الدرامية؟ السيناريو؟ يكتبه أناس لا علاقة لهم بالمقاولة.
قائمة الممثلين؟ هم أيضا لا علاقة لهم بالمقاولة.
المخرجون؟ لا علاقة لهم بالمقاولة أيضا...
التقنيون؟ نفس الشيء..
كل هؤلاء يمتلكون خبرة ويشتغلون لحسابهم الخاص أو تجمعهم عقود بعد الحصول على الصفقة.
غير أنه قبل الحصول على الصفقة وبعدها، تتغير الموازين، إذ تصبح المقاولة في حكم الوسيط، قد تبحث عن الربح أكثر مما تبحث عن الجودة، ويتحول الفنان في هذه الحالة إلى مجرد تابع لهذه الآلة المحكومة بسرعة التنفيذ، وهضم الحقوق والتحكم في الاختيارات الفنية وإمكانية التواطؤات الإدارية المشبوهة بعيدا عن أية رقابة أو تحكم أو محاسبة، لأنه في نهاية المطاف لا تستثمر ولا تراهن عن سوق مفتوحة وفيها منافسة، بل أغلبها يعمل بالمقولة المغربية الشهيرة "من لحيتو لقم ليه". وعندما يحدث الفشل يجد الفنان نفسه وحيدا أمام سياط النقد.
إنه وحده من يتحمل التبعات في وضع إنتاجي تقرره القناة المنتجة مع مقاولة هي في حكم الوسيط في واقع الأمر.
المقاولة الفنية كمنفذ للإنتاج من المفروض، في وضع سليم، أن يتركز عملها على تسيير عملية الإنتاج عمليا وميدانيا ولا تدخل الاختيارات الفنية من صميم اختصاصها، ولا أن تقرر في تشغيل الفنانين ولا التوجهات الفنية والجمالية للمشاريع ولا شروط التعاقد التي ينبغي أن تكون نتيجة تفاوض بين الهيئات المهنية والجهة المنتجة الفعلية عبر اتفاقيات جماعية تحدد الحقوق والواجبات وما على المنتج المنفذ سوى تطبيقها لحساب الجهة المنتجة الفعلية.
في غياب القواعد الأساسية للتنظيم المهني، الشركة التي ستحصل على الصفقة قد تفرض شروطها المجحفة في منطق العقد شريعة المتعاقدين، وبمجرد الحصول على الصفقة تدخل صيرورة الإنتاج في دهليز لا يضبطه القانون، ولا يتحقق فيه أي منطق، وبطبيعة الحال ما على الفنان إلا أن يمتثل أو ينهش لحم أخيه في المهنة حسب الحال والأحوال، أو أن يمتثل لضغوط المنتج المنفذ الذي قد تجعل منه القوانين المغربية في واقع الأمر منتجا من لا شيء وبلاشيء.
يجد الفنان نفسه مجبرا للتنازل تلو التنازل لكي يجد مجالا للاشتغال وإظهار موهبته.
ولذا أصبح التقرب إلى من يمسك المال العمومي بيده طريق الشهرة القصير، والتي ليست سوى "سبعة أيام د الباكور" ستعقبها صرخة في اليوتوب: "عتقوا الفنان"، لأن المنتج المنفذ الذي منحته الفراغات القانونية مجالا أوسع من حجم مخاطرته، قد يسمح لنفسه أن يشغل أيا كان ليس من أجل تخفيض التكلفة فقط هذه المرة، بل أحيانا استجابة لرغبة بعض الحالمين المحمومة أو المرضية في الشهرة بأي ثمن، الشيء الذي يجعل طالب الشهرة هذا هو من يحتاج المقاولة وليس العكس، مما قد يفرض على العديد من الفنانين المكرسين أو الموهوبين أو الذين تلقوا تكوينا أكاديميا الخضوع رغم أنوفهم لنفس منطق التنازل من أجل استكمال مسارهم الفني.
الإعلام العمومي المغربي ونموذجه الاقتصادي من هذه الزاوية، لا يخدم المجال العمومي ثقافيا وفنيا، بل قد يميعه ويمنح مقاولات في حكم الوسيط حق صناعة نماذج النجاح الفني عبر الإعلام العمومي. لأن الشهرة سلاح، وكثيرا ما تمنح بشكل عشوائي غير مبني على تنافسية حقيقية ولا تحكمه قوانين، لأن من يقرر في نهاية المطاف هو من يمسك المال، وهو لا يقرر فقط في حصة الأسد التي سيحصل عليها في الكثير من الأحيان، بل يصنع للمغاربة رموزهم، ويمنح السلطة الرمزية لأناس قد يسيئون استغلالها ويقحمون المجتمع في نقاش لا يتقنون أبجديته، ويصبحون أداة لاستغلال في الصراعات السياسوية عن علم أو بدونه بشكل تتحول معه الممارسة الفنية إلى شكل من أشكال حب الظهور والتباهي وليس نمط رؤية جمالية للحياة والمجتمع والتزاما فنيا بقضاياه من الناحية الإبداعية.
كم من الإنتاجات تعثر إنجازها، وكم منها توقف وضغطت التلفزات العمومية على صانعي المحتوى هؤلاء لكي يكملوا رغم الجور والارتجالية التي يقوم بها بعض المنتجين المنفذين، لتأخذ التلفزة منتوجها في نهاية المطاف، وليهرب المنتج المنفذ ويتبعه الممثل أو السيناريست أو المخرج أو التقني إلى المقاهي، وعندما يستعصي عليه الأمر يفكر بمنطق "عضة من الفكرون ولا يصدق فالت" خوفا من أن ينتهي به المطاف إلى طرده نهائيا من "جنة الشهرة"، أو حرمان أولاده من قوت يومهم.
سيشتكي للنقابة؟ النقابة ستشتكي لوزارة الثقافة، ووزارة الثقافة ستقول إن الموضوع من اختصاص وزارة الاتصال، ووزارة الاتصال ستقول إن الموضوع من اختصاص التلفزة؛ التلفزة ستقول إن الأمر يتعلق بالشركة المنتجة المنفذة، فيخرج الفنان بعد أن تغلق في وجهه السبل إلى اليوتوب ناقما من كل هؤلاء، لكنه سيحتاج وقتا لكي يفهم الحقيقة المرة التالية:
أن الدولة فكرت في كل شيء إلا في مهنته ولم تبذل أي جهد يذكر من أجل تقنينها في الوقت الذي صنعت فيه "منتجا من دخان".
أزمة الإنتاج الدرامي الوطني: نحو ضبط توازن القوى بين الفاعلين
بعد إقرار نظام طلبات العروض دخل الإنتاج الوطني الدرامي منعطفا جديدا، نال الكثير من سهام النقد بسبب احتكار بعض الشركات نفسها للصفقات المبرمة ومعها احتكار الطواقم الفنية والتقنية المتعاملة معها لسوق العمل، مما عرض الكثير من الفنانين المكرسين للعطالة، زيادة على اكتسابها التدريجي لسلطة التحكم في صنع "السمعة الفنية" بناء على التنازل عن الحقوق وأحيانا بدوافع الزبونية، مما يضرب التنافسية التي هي الأساس في رفع منسوب الجودة في مقتل، بحيث إن تكرار نفس النماذج يقود في النهاية إلى رفضها من قبل الجمهور، والكثير من الفنانين أصبحوا ضحية الإفراط في استهلاك موهبتهم الفنية في نفس السياقات الإبداعية، ينضاف إليها استغلال المعلنين لهذه النجاحات المكثفة في زمن محدود، الشيء الذي يؤدي بشكل خطير إلى استنزاف طاقات الفنانين الإبداعية في نفس الترسيمات والوصفات، مما يؤدي إلى:
قصر عمر تألقهم الإبداعي وما يترتب عن ذلك من مشاكل اجتماعية لاحقا خصوصا بالنسبة للذين لا يتوفرون على دخل قار أو إضافي؛
صعوبة تدبير مسارهم الفني لاحقا نتيجة تعود الجمهور عليهم في صورة محددة؛
ارتباط الممارسة الفنية بالموضة الزائلة عوض القيم الفنية الثابتة. حيث تعرف الممارسة الفنية عددا متضخما من الوجوه الفنية، فيهم موهوبون حقيقيون وأيضا عدد من محبي الظهور وطالبي الشهرة بأي ثمن.
هل العودة إلى النظام القديم أحسن حالا؟ لا.
فالاستفادة من مال عمومي دون معايير للتنافسية من شأنه أيضا أن يكون مجالا للزبونية والمحسوبية. نظام طلبات العروض على علاته ليس نهاية الحل، بل جزء من الحل، أو لنقل حل مؤقت يوقف النزيف، والعودة إلى الوراء ليست أحسن حالا...
إذن ما الحل؟
الحل الحقيقي هو هيكلة حقيقية للقطاع في أبعاده الشغلية، وعلى مستوى منظومة الملكية الفكرية، هيكلة تجعل توازن القوى بين المتدخلين فيه، هي الضمان الحقيقي للجودة والحكامة والتنافسية في نظام اقتصادي له خصوصيته... غير ذلك، قد تتحقق الحكامة جزئيا أو شكليا عند الحصول على الصفقة، وبعد الحصول عليها، هلم ارتجالية، وصانع المحتوى هو الضحية الأولى ومعه الإعلام والمواطن.
الحل، لا ينبغي أن يتوقف عند تشجيع المقاولات، بل يجب أن يتضمن ضبط علاقة المقاولة مع الفنانين من خلال القانون، وكل ما يفرضه هذا الإطار من سد فراغات تشريعية مرتبطة بوضعية العمالة الفنية مع الدولة ومؤسساتها عندما يتعلق بالثقافة والفنون المدعومة أو الخاضعة لطلبات العروض، زيادة على تطوير مجال حقوق المؤلف والحقوق المجاورة. عندها تصبح التنافسية ممكنة، لأن إمكانية الريع قد أغلقت أمام إمكانية الربح المشروع للمقاولات والفنانين معا بشكل يضمن اللجوء للكفاءة المهنية في سياق الثقافة والفنون المدعومة أو الممولة من قبل الدولة أو مؤسساتها.
وقتها، ستنقلب المعادلة من استغلال الفن للحصول على المال العمومي إلى توظيفه من أجل تنمية الثقافة والفنون، أما الاستثمارات الخاصة والحرة فتصبح ممكنة لأن التنافسية وانسداد ثغرات الريع قوت عنصر التنافسية ونمت الحاجة لدى المواطن لمزيد من استهلاك وتلقي الأعمال الفنية.
* فنان وأستاذ باحث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.