الإرهاب الفكري.. ظاهرة موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم غسان كنفاني.. الروائي الشهيد ظاهرة الإرهاب الفكري موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم. وإذا كانت العديد من الشعوب قد قطعت مع هذه الظاهرة المتوحشة لإيمانها بضرورة التعايش بين أطياف المجتمع الواحد، مهما اختلفوا فكريا وإيديولوجيا وسياسيا، بترسيخها لقيم الديمقراطية التي وحدها تتيح إمكانية التعايش هذه، فإن مجتمعاتنا العربية ما زالت ترزح تحت نير هذه الظاهرة التي باتت تستفحل ويتصاعد منسوب ضحاياها، إذ مازال هناك دعاة امتلاك الحقيقة في الفكر وفي السياسة وفي الدين، وهؤلاء بالضبط هم من ينظرون إلى خصومهم المختلفين على أنهم أعداء، ويوجبون، بالتالي، مضايقتهم أو تصفيتهم الجسدية. وفي تاريخنا الحديث والمعاصر ما ينم عن أن هذه الظاهرة ما تزال في استفحال، وأن دعاة امتلاك الحقيقة ومحتكريها في تصاعد حتى بات الاختلاف عن أو مع هؤلاء الدعاة أمرا محرما وتبعاته خطيرة تصل إلى حدود التكفير الذي تستتبعه إقامة حد القتل. إن قوائم الذين قضوا اغتيالا بسبب أفكارهم كثيرة، وقوائم المحكوم عليهم بالقتل مع وقف التنفيذ كثيرة هي الأخرى. وحسب وقائع الاغتيال التي كنا شهودا عليها في وقتنا الحاضر، أو تلك التي أرخت لها كتب التاريخ، تظل الفئة المستهدفة من عمليات التصفية الجسدية هي تلك التي آثرت أن تجدد في طرق التفكير وأعملت العقل من أجل فهم جديد لعناصر هويتنا بما في ذلك عنصر الدين الذي حرروه من إسقاطات المقاربات المتحجرة، وفتحوا بذلك بابا جديدا للاجتهاد، يتيح لنا استيعاب ماضينا وحاضرنا بشكل أفضل، كما يتيح لنا استشراف مستقبلنا... نأتي في هذه السلسة الرمضانية على استذكار بعض من هؤلاء ممن أصابهم سلاح الجهل في مقتل. نستذكرهم اليوم، رفقة قرائنا الكرام، اعترافا لهم بانتصارهم لقيمة العقل كضرورة لا محيد عنها لبناء المجتمعات الحديثة. غسان كنفاني (عكا 8 أبريل 1936 - بيروت 8 يوليوز 1972) روائي وقاص وصحفي فلسطيني تم اغتياله على يد المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في 8 يوليو 1972 عندما كان عمره 36 عاما بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت. "لماذا قتلت غولدا مائير غسان كنفاني؟"، عنوان مقال صدر بجريدة الشرق الأوسط يتساءل فيه بسام أبو شريف أحد المستشارين السابقين للراحل ياسرعرفات، وهو من مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصاحب وثيقة أبو شريف حول السلام، عن أسباب اغتيال الشهيد الذي لم يكن قائداً عسكرياً أو أمنياً، وعن الخطر الذي كان يُشكله على إسرائيل حتى تتم تصفيته؟. ويحكي أبو شريف، الذي خسر أربعة أصابع وعينا وجزء كبيرا من السمع عندما انفجرت قنبلة في يده في بيروت في عام 1972 خلال محاولة اغتيال عن طريق طرد بريدي مفخخ، (يحكي) في هذا المقال عن الحرب الإرهابية التي شنتها "غولدا مائير" رابع رئيس وزراء للحكومة الإسرائيلية، ضد منظمة التحرير الفلسطينية وقادة تنظيماتها ورجال الفكر والأدب والصحافة والبحث ومنهم بالطبع الشهيد غسان كنفاني، ونود هنا إدراج جزء من هذا المقال الهام لتعميم الفائدة . ************** غسان ... شهيد الكلمة والمقال والرواية "في الثامن من هذا الشهر (يوليوز) عام 1972 اغتالت الموساد الكاتب والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني، وهو ما يزال في السادسة والثلاثين من عمره، وقتلت معه ابنة أخته لميس ذات التسعة عشر عاماً. وكانت "غولدا مائير"، قد أصدرت تعليمات بتصفيته إلى جانب وديع حداد، وكمال عدوان، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، وبسام أبو شريف، وأنيس الصائغ. وفي الثامن من يوليوز 1972 قامت مجموعة من عملاء الموساد تحت جنح الظلام بزرع عبوات متفجرة في سيارة غسان كنفاني المتوقفة في كراج منزله في منطقة مارنقولا في بيروت الشرقية، بطبيعة الحال لم تكن هنالك حراسات أمنية لأن غسان كنفاني كان أديباً وصحافياً وفناناً. ولم يكن قائداً عسكرياً أو أمنياً، وكان يعيش مع عائلته المكونة من زوجته آني وابنه فايز وابنته ليلى في شقة تملكها أخته. اصطحب غسان كنفاني ابنة أخته «لميس» التي كانت قد أنهت التوجيهية بتفوق كبير كي تتوجه للتسجيل في الجامعة الأميركية. وهبط غسان، الدرج من شقته نحو مدخل البناية وتوجه نحو سيارته "الأوستين" البيضاء وهو يمازح لميس التي كانت مدللته، وكان قد كتب لها قصص الأطفال، على مدى سنوات ترعرعها ونموها من الطفولة إلى الشباب. فتح غسان باب السيارة وأسرعت لميس لتجلس في المقعد الأمامي إلى جانبه وما إن أدار غسان محرك السيارة حتى انفجرت، وهز الانفجار المنطقة بأسرها. قتلت "غولدا مائير" غسان كنفاني الأديب والكاتب المبدع وهو في السادسة والثلاثين من العمر. وقتلت معه لميس العروس الفلسطينية ذات التسعة عشر ربيعاً. وتطاير الجسدان في كل الاتجاهات وتعلق أطرافهما بأغصان أشجار الزيتون المنتشرة حول الحقول المحيطة بالمنزل. قتلت "غولدا مائير" غسان كنفاني لأنه كان علماً من أعلام الفلسطينيين في الأدب والفن والثقافة، لأنه كان يصارع إسرائيل في كل مكان بالكلمة والمقال والرواية، ولأنه رفع عالياً راية الحق الفلسطيني وفضح العدالة المفقودة في "الأرض المقدسة". غسان.. ثلاثة عشر عاماً من النضال على جبهات مختلفة وفي ما يشبه التكريم، نشرت جريدة الحياة اللندنية مقالا لعدنان كنفاني شقيق الشهيد تناول فيه حجم التحديات التي رفعها الشهيد وهو يناضل من أجل القضية الفلسطينية ويخوض صراعا ضد شراسة مرض السكري الذي ألم به، وصراعا آخر لا يقل عنه شأنا، من أجل تنويع أشكال الإبداع الفني وتكثيف الإنتاج فيه بتسارع يسبق الموت. "هي المفاصل إذاً التي عمل غسان عليها، من رؤيا لم يتسرب إليها الضباب، ولم يشبها في لحظة شعور الإحباط والاستسلام... من هنا أخوض ومن هنا أشير تحديداً الى مرحلة حياته الممتدة بين 31/5/1959 يوم اكتشفنا بحزن مرضه بالسكري، ويوم استهشاده في 8 يوليوز 1972... مرحلة عمر امتدت ثلاثة عشر عاماً، عبأها قدرما يستطيع من فيض عطائه، فامتلأت بإنتاج قل نظيره من أديب قضى ولمّا يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره، تاركاً إنتاجاً ملوناً فاض أضعاف ما تستوعبه تلك السنوات القليلة من عمر الزمن. حققه عبر رسم صارم جرى تخطيطه بدراسة وإصرار أيضا وبالتزام مطلق للمضي مستقيماً في ثلاثة مسالك متوازية كما أشار محمد دكروب... عمل على تكثيف إنتاجه الأدبي الغزير في مجالات القصة والرواية والمسرحية والمقالة والبحث والتعليق والخاطرة والنقد الساخر والرسم والتخطيط والنحت... كَمّ مذهل تركه بيننا، شحنة بفيض إبداعاته لخدمة هدف واحد لم يحد عنه قيد شعرة... يحمل عنواناً واحداً وأثيراً: " فلسطين".... واتفق مع الجماهير وأمانيها على الانتقال من صورة لاجئين قدرهم الاستجداء واستدرار العطف والشفقة، إلى مقاتلين وفدائيين وأصحاب قرار. وكان الأدب بكل أطيافه وسيلته للتعبير والالتصاق وتفعيل الانتماء... استخدم الفكرة الواضحة الجلية والسهلة، مبتعداً عن الترميز المغرق الذي غالباً "في استخدامات الأدباء" ما يضع المتلقي أمام تفسيرات واحتمالات متعددة تميّع صلابة الاتجاه المقصود، مستخدماً الجملة السلسة والفكرة الجلية الواضحة والصورة الوصفية الرائقة والبديعة والرمز السهل إذا تطلّب الأمر. ومن منطلق مبدئي يقول، ان الإنسان في كل الأحوال هو موقف. وكان غسان كذلك، وانسحب الصدق اللصيق الذي رافق سنوات حياته على كل ممارساته وعلاقاته. كان نقيّاً متفهماً وسهلاً... في علاقته بأسرته كان مثال الابن البار الذي يعيش هم الجميع مادياً رغم إمكاناته المتواضعة، ومعنوياً في تحريض تشكيل معالم الشخوص حوله على طريق الالتزام المطلق بكل الصفات والمعايير. وضع نصب عينيه في وقت سابق جداً عامل الوراثة. "كان يعاني من الروماتيزم، وآلام المفاصل، إضافة الى السكري"، وهذا ما فرض عليه إلغاء رغبات إنسانية ملحة، هي حق لكل نفس بشرية، آثر ألا يمارسها... وعلى الرغم أن مرضه الأخير كما قررت مجموعة من الأطباء جاء بسبب الإرهاق لا الوراثة خاف من الذيول، ولو لمجرد نسبة الاحتمال. كان في سباق مع الموت... لكنه لم يدرك أبداً أن الموت وهو يسخر من حقن الأنسولين اليومية، ومن الحمية المنهكة، والخوف المعشش في اللحظات سيأتيه من ها هنا... ليكمل بفعله المأساوي حلقة أخرى متصلة مع حلقات ما زالت تسطر فصول الملحمة".