الاستماع إلى أغنية ما لأول مرة، بالتأكيد يخلف أثرا معينا في نفس وروح مستمعها، قد يكرر الاستماع إليها بين الفينة والأخرى، وقد يقرر التوقف عن الاستماع إليها إلى الأبد، ويقاطع صاحبها كذلك. يحدث أن يضطر إلى الاستماع إليها هنا وهناك، في المقهى مثلا، أو في سيارة الأجرة، أو في السوق، أو في غير ذلك من الأماكن. وكم ينتاب المرء الغضب عندما يجد نفسه مضطرا إلى سماع أغنية لا يحبها، أغنية مزعجة بكل ما في الكلمة من معنى، وهذا ما يحدث في الغالب، ويا للغرابة. بعض المنشطين الإذاعيين عادة ما يختارون أغاني رديئة، ويقدمونها باعتبارها استراحة غنائية. أي استراحة هاته؟ أشك في أن يكون الإذاعيون الذين يبثون تلك الأغاني، يستمعون إليها بدورهم، أتصورهم يغادرون مواقعهم، ويذهبون على سبيل المثال لتدخين سيجارة خارج الاستوديو إلى حين انتهاء الأغنية، ثم يعودون لاستئناف عملهم. لقد أكد أحد المنشطين الإذاعيين، أنه عندما يكون في بيته، يفضل الاستماع إلى موسيقى بيتهوفن وموزار والعديد من عباقرة الموسيقى، لكن الأغاني التي يختارها لمستمعيه لا تخرج عن نطاق الأغاني الشعبية الساقطة، ولا تنتظروا مني أن أذكر الأسماء، تفاديا للإحراج. وعندما أستمع إلى من يتصلون به عبر الهاتف، سواء للإجابة عن أسئلته أو لإلقاء مداخلة في موضوع معين، أدرك المستوى الثقافي الهابط لهذه العينة من المتفاعلين مع برامجه. وسط الكم الهائل من الأغاني التي استمعنا ونستمع إليها على امتداد العمر، إحدى هذه الأغاني تكون لها مكانة خاصة في ذاكرتنا. إنها الأغنية الأولى التي تترسخ في الذاكرة. في بداية السبعينيات من القرن العشرين، كنت أتابع سنوات تعليمي الأولي في مدرسة الهدى بعين الشق، كان عمري آنذاك حوالي خمس سنوات، كان الطابق الثاني لفصلنا الدراسي مفتوح النوافذ على مصراعيها، وكان من السهل جدا أن تبلغ إلينا أصوات الجيران، خصوصا وأن المدرسة كانت عبارة عن منزل مكون من ثلاثة طوابق وسط حي شعبي. من المنزل المجاور الذي كان بمقدورنا مشاهدة نوافذه المشرعة بدوره ونحن في الفصل الدراسي، كان يتناهى إلينا من المذياع، صوت غنائي، كان صوتا مرتفعا جدا، لا شك أن صاحب المذياع استهوته الأغنية؛ لذلك قرر أن يرفع مستوى صوتها إلى حد كبير، ولا شك كذلك أنه رغب في أن يقاسم جميع الجيران متعة الاستماع إليها، إلى تلك الأغنية بالذات. كان الصوت الغنائي للمطرب محمد الحياني، وكانت الأغنية: بارد وسخون يا هوى ليست الرائحة وحدها ما يذكر، بل الأغاني كذلك، تذكرني هذه اللحظة الغنائية بأننا كنا في بداية الصيف، حيث الجو حار، حوالي الخامسة مساء، وكانت هناك نسوة يجلسن على عتبة أحد المنازل المجاورة.. أشياء كثيرة ومشاهد عديدة، سمحت لي هذه الأغنية بالذات بتذكرها، وما زلت أعتقد إلى اليوم أنها أول أغنية أستمع إليها في حياتي، رغم أن سني آنذاك كان حوالي خمس سنوات، ومن غير الممكن أن لا يكون المرء قد استمع على مر هذه السنوات إلى أي أغنية، لكن بارد وسخون يا هوى، ظلت راسخة في ذاكرتي باعتبارها الأغنية الأولى التي أستمع إليها في حياتي. وقد كنت محظوظا بذلك، وهو شيء طبيعي، على اعتبار أن أي أغنية كانت تبث في الإذاعة آنذاك، كان من الواجب أن تمر من سم إبرة لجنة التحكيم التي كانت مؤلفة من عباقرة الموسيقى المغربية. "لقيت ضحكة تتهبل فيها شمس وفيها ظل" تقول أغنية بارد وسخون. وتكريما لهذه الذاكرة الطفولية، وامتنانا للأثر الطيب الذي خلفته في نفسي أغنية: بارد وسخون، باعتبارها أول أغنية أستمع إليها في حياتي، سجلت بعد حوالي أربعة عقود، مذكرات ملحنها الفنان حسن القدميري، في بيته، وفي الموضع نفسه الذي كان قد لحنها فيه، أطال الله عمره، ورحم الله كاتب كلماتها علي الحداني ومؤديها محمد الحياني. وكنت قد نشرت هذه المذكرات ذات رمضان على صفحات جريدة بيان اليوم. وكم أتأسف للجيل الحالي، أقصد أطفال اليوم، الذين قد تترسخ في ذاكرتهم أغنية أولى، على شاكلة: حك لي نيفي.. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته