تسجيل سيرة حياة وغناء الفنان الراحل محمد الحياني، مع الذكرى الثالثة عشرة على رحيله، محاولة لرسم صورة من صور عديدة لرجل ، كان حضوره، يتميز بتألق فني خاص .. عاش بيننا، وعرف عليه أنه من طينة المبدعين المعروفين بتواضعه ونقاء سلوكه ونبل علاقاته.. كان يشتغل في صمت بلا أدنى ادعاء بحيث أخلص لأغانيه وظل حتى على مستوى حياته اليومية ، مرتبطا بالاحياء الشعبية (درب بوشنتوف) التي نما وتألق فيها.. استحضار.. ذكرى محمد الحياني، هواحتفاء بكلماته وصوره ومقاماته، وبأسرته وكتاب كلماته وعشاق أغانيه، وبصفحة رفيعة من غنائنا المغربي امتدت من مطلع الستينيات من القرن الماضي إلى حين أسلم الحياني روحه الطيبة إلى باريها يوم الثالث والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1996 . محمد الحياني .. ولد في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي بمدينة الدار البيضاء، وتحديدا سنة 1947 بحي دار الكارتون بطريق مديونة (شارع محمد السادس حاليا). في نهاية الخمسينيات، انتقلت الأسرة إلى درب بوشنتوف، فيما انتقل محمد الحياني وشقيقه مصطفى إلى حي أكدال بمدينة الرباط ، حيث تربيا في كنف أختهما الكبيرة.. ومن ثم التحق بالمعهد الوطني وتقدم إلى مباراة بقسم الموسيقى بالإذاعة الوطنية سنة 1964 وقضى سنوات ضمن كورال الجوق الوطني. عاش إلى جانب أسماء موسيقية كبيرة أمثال: عبد القادر الراشدي، أحمد البيضاوي، عبدالحميد بنبراهيم ، عبد النبي الجراري، علي الحداني، حسن القدميري.. في قلب هذه البداية، قال الأستاذ علي الحداني ، أحد المساهمين الأساسيين في انطلاقة الحياني وامتداداته، أنه على «امتداد السنوات التي ظهر فيها الراحل وإلى اليوم، لم تتكرر أية نسخة تشبه الحياني، المتميز بهدوئه وأخلاقه وأناقته وانتقائه المتميز الرفيع للأغاني». أما عن اللقاء الأول، فقد تم بين الشاعر الزجال والمغني في بداية الستينيات، حين كان الحياني لا يزال عضو الكورال الوطني، وحين كان الحداني لايزال يبحث عن صوته الشعري. ومن ثم كانت الأغنية الأولى «غياب الحبيب» لتتطور العلاقة باتجاه أعمال من ألحان حسن القدميري وعبد القادر وهبي وعبد الرفيق الشنقيطي ،الى أن يتم التتويج الأول مع أغنية «بارد وسخون» وما بعدها. وهي العلاقة التي أنتجت عددا من الأغاني من بينها : «ياك الجرح برا» ، «يا سيدي أنا حر» ، «أنا شفت عيونك» ، «وقتاش تغني يا قلبي ».. وفق هذا المسار الفني المتألق، سيسجل سنة 1968 أغنية جديدة تصدع بها الإذاعة وتحقق درجة إنصات عالية، يتعلق الأمر بأغنية «من ضي بهاك» التي لحنها المرحوم عبد القادر الراشدي ونظم كلماتها الأستاذ علي الصقلي . لقد كانت هذه الأغنية نقطة تحول في المسار الناشئ للحياني.. كما عانق القصيدة في أبهى تجلياتها مع الأستاذ عبد الرفيع جواهري والموسيقار الراحل عبد السلام عامر، مع سنة 1970، بأغنية جديدة تحت اسم «راحلة».. كانت الأغنية، تنويعا في العلاقة الإبداعية بين الشاعر عبد الرفيع جواهري والموسيقار عبد السلام عامر، ذلك أن الصوت السجي للحياني قد منح بعدا جديدا للإبداع المشترك، مع أن الاغنية، كما هو معروف، كانت قد أعدت، في البدء، للفنان عبد الهادي بلخياط الذي غنى لجواهري وعامر «القمر الأحمر» ، لكن أمرا خاصا جدا جعل الأغنية ترحل بمتعة وسلاسة تجاه الحياني، وجعل هذا الأخير، بالتالي، يكمل الثلاثي الأول في سماء الأغنية المغربية مع الدكالي و بلخياط. من ثم تواصل العمل المشترك مع عبد الرفيع باتجاه ثلاث أغنيات أخرى امتدت عبر عقد السعبينيات، « قصة الاشواق» ألحان عبد السلام عامر، « ذكرى طفولة» ألحان عبد الحميد بنبراهيم، «الشفاه الحمر» ألحان عبد الرفيق الشنقيطي. لقد نجحت «راحلة» قياسا إلى الأغنيات الأخريات، ربما لأنها عبرت، شعريا، برهافة عالية عن الحب... في سنة 1972 يتألق محمد الحياني بأداء عمل جديد من كلمات الأستاذ علي الحداني و لحن الفنان حسن القدميري، يتعلق الأمر بأغنية « بارد وسخون» التي حققت للحياني مزيدا من الامتداد الشعبي، و حققت له، أكثر من ذلك، التتويج كصاحب أحسن أغنية في أول سباق غنائي تنظمه الإذاعة الوطنية آنذاك.. سينمائيا.. دشن محمد الحياني عقد الثمانينيات بلحظة فنية مميزة من خلال أداء بطولة فيلم «دموع الندم» للمخرج الراحل حسن المفتي .. كما غنى «وقتاش تغني يا قلبي إلا ما غنيتي اليوم .. أحلى ما عندك يا قلبي قولو بين احبابك اليوم ...». وكما غنى الزجل باحتراس دقيق حتى يسموا بهذا الصنف الفني إلى مقامات التألق.. كان محمد الحياني .. على امتداد مساره الفني لايظهر في محفل ما إلا ليوقع حضورا جديدا له أثاره وامتداداته.. في هذا السياق، نسترجع تفاصيل أخرى، من ذاكرة يوميات الحياني ، مع الفنان الكبيرعبد الرحمان باكو، يقول عنه «... لعل أشد ما كان يحرجنا كثيرا أثناء السهرات الفنية التي كنا نحييها، هم الزملاء الذين كانوا يشاركون إلى جانبنا، والذين غالبا ما كانوا يقاطعون بالصفير، حيث لا تسمع من الجمهور سوى عبارات «وا الغيوان.. وا الغيوان» ، الشيء الذي كان يدفع بالمنظمين في أغلب الأحيان إلى برمجتنا في آخر الحفل... وكان من بين أصدقائنا الفنانين المرحوم محمد الحياني، الذي كنت شخصيا معجبا به، وما أزال إلى الآن أستمع الى أغانيه الجميلة والخالدة، كما كانت تعجبني كثيرا الطريقة التي كان يؤدي بها روائعه، إنه بحق فنان كبير. أتذكر في إحدى الحفلات المقامة في الدارالبيضاء، شارك فيها مجموعة من الفنانين من بينهم ناس الغيوان ومحمد الحياني، كان جمهور غفير يتتبع الحفل، صعد إلى المنصة معظم الفنانين المشاركين فقوبلوا بالصفير والاحتجاج (هذا واقع)، وكان محمد الحياني معنا في الكواليس، انتابه الخوف لأنه سمع كيف قوبل زملاؤه من طرف الجمهور، لما جاء دوره صعدنا إلى قرب المنصة من أجل تشجيعه، وبمجرد ما دخل رحب به الجمهور بتصفيقات عالية، وعم الصمت بعد هذه التصفيقات وعبارات التنويه، وقد أثلج هذا الموقف صدورنا، سررت كثيرا من أجله، فالرجل كان رهيف الإحساس ويحترم الجمهور أيما احترام، والدليل أنه لم يسبق أن غنى أغنية رديئة، فكل أغانيه جميلة ومحبوبة، هذا مقياس أساسي بالنسبة لي.. وموقف الجمهور ذاك، اتجاه الفنان الراحل محمد الحياني، كنت انتظره ولم استغرب له كثيرا لأني أعرف قيمة الرجل الفنية وشخصيته المقبولة عند الجميع لما كان يتصف به من رصانة وتواضع، وقد تعلمت من هذا الحادث الصغير..». محمد الحياني .. فنان أصيل وموهوب. جمع مابين الصدق في التعبير والارتفاع بشكله الجمالي وبلاغة ايقاعه لتبليغ الرسالة الفنية على أكمل وجه ممكن. رحيله عنا.. يفرض علينا من جديد إعادة طرح الوضع الاعتباري للاغنية المغربية .. اليوم.