احتفاء بجزء من ذاكرتنا الثقافية المشتركة ، واستحضارا لعطاءات مبدعينا وإسهامهم في إثراء رصيدنا الابداعي الوطني والعربي، نستعيد، في هذه الزاوية، أسماء مغربية رحلت عنا ماديا وجسديا، لكنها لاتزال تترسخ بيننا كعنوان للإبداعية المغربية، وللكتابة والفن المفتوحين على الحياة والمستقبل. «إن أول شيء يتبادر الى الذهن، هو أنه على امتداد السنوات التي ظهر فيها الراحل وإلى اليوم، لم تتكرر أية نسخة تشبه الحياني، المتميز بهدوئه وأخلاقه وأناقته وانتقائه المتميز الرفيع للأغاني...». هكذا تحدث ذات يوم الأستاذ علي الحداني مجيباً عن سؤال للزميل محمد بهجاجي في سلسلته ذات صيف عن الراحل محمد الحياني: أناقة الصورة والمقامات. وفي نفس الإطار، يقول أحمد الطيب لعلج: «يدور الزمان، وتسعدني الظروف بمعرفة شاب جميل ودود طيب، يحب الفن ويتفانى في خدمته لدرجة نسيان نفسه... شاب يافع». كانت أغنية «راحلة» تنويعاً في العلاقة الإبداعية بين الشاعر عبد الرفيع جواهري والموسيقار عبد السلام عامر، ذلك أن الصوت الشجي للحياني قد منح بعداً جديداً للإبداع المشترك. وبعد ذلك، يتألق الحياني بأداء عمل جديد ألقى الإعجاب والإقبال، ويتعلق الأمر بأغنية «بارد وسخون» من كلمات علي الحداني، ولحن الفنان حسن القدميري، وحققت هذه الأغنية للراحل مزيداً من الامتداد الشعبي، وتتويجاً كصاحب أفضل أغنية في أول سباق غنائي تنظمه الإذاعة الوطنية آنذاك. كان محمد الحياني، حسب سلسلة «أناقة الصور والمقامات» يدخل البيت، كما يتذكر ذلك شقيقه عزيز، فيسأل أولا عن الوالدة، صحتها وحاجياتها وانشغالها الخاص، ثم يتفقد أحوال أخته حليمة التي تعاني من سنوات طفولتها الأولى من الإعاقة، كان رحمه الله يقترب من حليمة فيسمعها تحدثه عن أغانيه التي بثتْها الإذاعة ذلك الأسبوع، وبمثل هذه الرعاية، كان يرعى باقي الإخوة والأخوات. ولن ننسى بأن الحياني كان يعشق الرياضة التي كان يمارسها، سواء كلاعب كرة قدم متألق في بعض المناسبات، حيث كان يلعب ضمن فريق الفنانين في مواجهة فريق الصحفيين، أو كلاعب «كراطي». وإن نحن سلطنا الأضواء على الشهادات التي سبق للزميل محمد بهجاجي أن استقاها بعد رحيل الراحل، نستشف إجماعاً حول قيمة الفنان والإنسان: أكد أحمد الطيب لعلج أن الحياني لم يكن يحفل بالمكاسب المادية، بل كان يحب الحياة والإنسان، وركّزت الفنانة ثريا جبران على طبعه المفتوح على الناس، وعلى عشقه للحياة... لم يكن، رحمه الله، يقيم المسافات المفتعلة بينه وبين زملائه الفنانين، بل كان يشجع الممثلين ويشد بأيدي المبتدئين حين تصوير فيلم «دموع الندم». أما الموسيقار عبد الوهاب الدكالي، فقال: «كان الحياني طيباً عاشقاً للحياة، متفانياً في خدمة الفن معتزاً بكرامة نفسه، مقتدراً، بحيث تمكن من إسعاد جمهوره بفنه، وكل هاته من شيم الفنانين المرموقين الذين يسعون نحو الفرح ويعبرون عن عشق الحياة...». زرته ذات يوم بباريس بمقر استشفائه بالطابق السادس بالمستشفى التابع لمعهد كوستاف روستيي، ووجدته وحيداً يشاهد البرنامج التلفزيوني الفرنسي: «أسئلة إلى بطل» بعد السلام والتحية، سألته عن تطورات وضعه العلاجي فأجاب: «أجريت لي عملية جراحية وكللت بالنجاح، والحمد لله، نجاح أفضل من العمليات التي عرفتها سابقاً، مازلتُ كما ترى متبوعاً براديوات الأشعة، وآمل أن تكون صحتي على أحسن ما يرام. أغتنم فرصة زيارتك لأتقدم بتشكراتي الجزيلة إلى صاحب الجلالة الذي يرجع إليه الفضل، وكل الفضل في تواجدي هنا. الطبيب يتابع عن كثب صحتي يومياً، الممرضات باهتمامهن بي يخففن من وطأة المرض، فعلى أي، هذا قدري، ولا مفر من القدر، فهنا لا أشعر بالوحدة، فعدد كبير من أفراد الجالية المغربية المتواجدة بباريس وضواحيها يزورونني أو يتصلون بي هاتفياً للاطمئنان على صحتي، والدموع تسيل أحياناً من عيوني حين يزورونني ويقترحون عليَّ بلطف مساعدات وهذا يريحني ويجعلني أنام في هناء مفتخراً ومعتزاً بمغربيتي...». في شهر أكتوبر 1996، سيعود المرحوم إلى مستشفى ابن سينا بالرباط، وفي اليوم الرابع عشر من إقامته، سيقول القدر كلمته، فترجع النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية.