مقال صحفي قديم، معلومة «كاذبة»، صور شخصية، مدونة إلكترونية، حكم قضائي.. منتوجات بشرية من بين أخرى، يمكن أن يطرح الاحتفاظ بها - عن طريق الأرشفة - مشاكل حقيقية بالنسبة لبعض الأفراد في مستقبل حياتهم على أصعدة مختلفة. من هنا، وبغاية تجاوز هذه المشاكل وحماية خصوصية الأشخاص، أفرادا وجماعات، انتشر الحديث في الآونة الأخيرة عن مفهوم جديد نسبيا وحق من حقوق البشرية، ألا وهو «حق النسيان». وبالعودة إلى موطن هذا المفهوم، فقد أطفأ «حق النسيان» أولى شمعاته في أواخر القرن الماضي بالقارة العجوز، التي دعت بها مجموعة من المنابر الحقوقية إلى تفعيل هذا المفهوم والعمل على السماح للأفراد بحذف معلومات عن تاريخ يعتبرونه «أسودا»، ومن المحتمل أن يشكل ضررا جسيما على حياتهم الاجتماعية و أو المهنية. ويمكن تطبيق هذا المفهوم ذو الجذور الأوربية، بواسطة إزالة البيانات الشخصية من ملف أو موقع إلكتروني ما أو ما يصطلح عليه بالحق في الحذف، أو عن طريق الشطب من محركات البحث أو ما يعرف بالحق في اللافهرسة. ومن الناحية التشريعية، فقد تم التعرض «للحق في النسيان» على مستوى مقتضيات المادة الثامنة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (1950)، التي تنص على احترام «الحياة الخاصة والعائلية وكذا مسكن ومراسلات كل فرد»، إضافة إلى المادة السابعة من ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي، والتي تركز بدورها على مبدأ «احترام الحياة الخاصة والعائلية وحماية البيانات الشخصية» بوصفها واحدة من الحقوق الأساسية الكبرى التي يدافع عنها الاتحاد الأوروبي. إلى ذلك، من المعروف أن خزينة مجموعة من المواقع تنتعش عن طريق المتاجرة بالبيانات الشخصية للأفراد، حيث يتم بيع المعطيات المتواجدة بالسير الذاتية (CV) أو باستمارات التسجيل الخاصة على موقع شركات الاتصال أو مؤسّسات الإشهار، كما هو الحال بالنسبة لرقم الهاتف الشخصي أو البريد الإلكتروني أو الوظيفة أو الصورة وغيرها من البيانات، ما يفسر توصلنا، بشكل شبه يومي، بباقة من الإعلانات على بريدنا الإلكتروني وبحزمة من الرسائل النصية التسويقية على شاشات هواتفنا. في هذا الصدد، وتحسبا لمثل هذه الممارسات، قام مجموعة من الفاعلين في المجال المعلوماتي خلال العام 2010 بالتوقيع على ميثاقين أساسيين، هما «ميثاق الحق في النسيان الرقمي» المتعلق بالإعلانات المستهدِفة، و»ميثاق الحق في النسيان الرقمي» الخاص بالمواقع الاجتماعية ومحركات البحث. وقد تعبأت لهذه المبادرة وانخرطت فيها مجموعة من الشركات العالمية بما فيها «مايكروسوفت» و»فياديو» و»سكايروك» و»الصفحات الصفراء»، فيما لم يوقع العملاقان «غوغل» و»فيسبوك» على أي من الميثاقين. سيتساءل عدد من القراء والمتتبعين عن جدوى الأرشيف، باعتباره وسيلة لسرد الوقائع الماضية وإثراء تاريخ البشرية وإبراز أهمية الذاكرة التاريخية، في ظل السعي نحو ترسيخ «الحق في النسيان»، الذي تعكسه توجهات عدد من الأشخاص الذاتيين الذي يتحفظون أو يرفضون أن تكون لهم بصمات في الذاكرة إما عن طريق إخفاء الهويّة (Anonymat) أو من خلال الحذف المطلق. إذا افترضنا أن الكفة ستؤول للحق في النسيان، فهل يمكن أن يشمل هذا الحق الأرشيف العمومي؟ لا يمكن تطبيق «حق النسيان» إذا تعلق الأمر بالأرشيف العمومي أي جميع الوثائق (الورقية والإلكترونية) التي تخص نشاط مؤسسات الدولة والمنشآت العامة والهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق من المرافق العامة، وذلك لارتباط اسم شخص معين بالمسؤولية القانونية المترتبة عن قرار مُحَدَّدٌ (صفقة عمومية، تعيين بمنصب، قرار إداري، إلخ.) لأنه سيُحاسَب عليه مستقبلا. وهكذا فإن المطالبة بهذا الحق تنحصر فقط في الأرشيف الخاص الذي يشمل المعلومات الشخصية المتواجدة بالشبكة العنكبوتية، والتي تتمتع على وجه الخصوص بذاكرة طويلة. على صعيد آخر، تلقت شركة جوجل بأوروبا سنة 2014 حوالي 170.000 طلب إزالة للبيانات شخصية بدعوى «حق النسيان»، بما فيها 50.000 الْتِمَاس من فرنسا وحدها، حسب تصريح صحفي للرئيس التنفيذي لغوغل فرنسا، نيك ليدر. واعتبارا من شهر ماي من السنة المذكورة، أصدر العملاق ذو الأصول الأمريكية استمارة على الانترنت تمكن مستعمليه بأوربا من المطالبة بمَحْو نتائج البحث التي تخصهم شخصيا، وذلك طبقا لمقتضيات التشريع الأوروبي بشأن حماية البيانات الشخصية. في هذا الإطار، تتم معالجة الطلبات واحدة تلو الأخرى وفق عدة معايير، تحرص من خلالها الشركة على الاستجابة بشكل إيجابي للطلبات إن كانت عبارة عن بيانات كاذبة أو معلومات مضى على وجودها زَمنٌ طويلٌ، لكن هذا لا يعني أن العملية متاحة في جميع الحالات، خاصة إذا تعلق الأمر بإزالة معطيات بحث لها صلة بالمصلحة العامة كالأحكام القضائية وغيرها. وبالعودة إلى الحالة الأولى، فقد تم تنفيذ إجراء الحذف امتثالا لقرار محكمة العدل الأوروبية التي قضت بضرورة تمكين المواطن الأوربي من حقه في حذف معلوماته الشخصية التي فُهرِسَت من قبل محرك البحث، خاصة إذا كانت قديمة أو غير دقيقة.أما الوجه الآخر لحق النسيان، فقد أدلت بشأنه مواطنة فرنسية تدعى (م.م) بشهادة مؤلمة لمجلة Grazia الفرنسية (عدد 09 أكتوبر 2012)، بخصوص اختفاء والدها في رحلة عمل قبل خمس سنوات، قائلة: « قلقتُ عليه، فأبلغت السلطات المحلية بأمره ليُباشِروا تحرياتهم... بعد مرور بضعة أسابيع، تم إخباري أنه بخير وأنه يرفض العودة إلى عائلته، وأنه لا يرغب حتى في أن نعلم بمكان تواجده ! «، وتضيف بحسرة « لقد بلغت للتو 18 سنة، وأدركت أن هذا ما كان ينتظره ليؤسس حياة جديدة له». وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الاختفاء يصنف في بعض البلدان الأوربية على أنه حق من حقوق البشرية، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا، التي تندرج بها فكرة «ترك الزوج(ة) والأولاد والأصدقاء» في خانة الحريات الشخصية، ما لم يكن المفقود قاصرا أو متابعا قضائيا. فأين نحن في المغرب مما يسمى بالحق في النسيان؟ من الملاحظ أنه ليس هناك وعي بهذا الحق عندنا في المغرب، كما هو الحال بالنسبة لعدد من الدول والأقطار، كيف لا ونحن نعيش حالة فراغ قانوني على هذا الصعيد علما أن القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، الذي صدر بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على انتشار حق النسيان بالبلدان الغربية، لا يتطرق إلى هذا المفهوم «الحقوقي»، ناهيك عن عدم توفر المغاربة على إمكانية المطالبة بهذا الحق بالنسبة للمواقع والبوابات الإلكترونية الكبرى.. فالأوربيون وحدهم من يحتكرون هذا الحق ، ما يتنافى مع كونية مبدأ العدل والمساواة أمام القانون !! يبقى إذن الحق في النسيان مولود حقوقي حديث نسبيا.. مولود أفاض ردود فعل متضاربة عنوانها العريض والأبرز تعرض المدافعين عنه إلى وابل من الانتقادات لكونه يتنافى مع حقوق أخرى كالحق في الوصول إلى المعلومة ويؤدي إلى الحد من الوصول إلى المعرفة، وبالتالي يحدث خللا في موازين الحقوق الإنسانية. *خبير في الأرشيف