إن ما نطلق عليه نعت المسرح المغربي، ليس إلا تلك الممارسة التي تمت بالفعل على أرض الواقع انطلاقا من العادات والتقاليد الاجتماعية التي تراكمت بفعل التواجد الاجتماعي للناس، الشيء الذي يجعل هذه الممارسة تنتمي إلى الموروث الثقافي الشعبي بإحالاته وتراتبيته في طقوس المقدس وما تراكمه على مستوى الوجدان الشعبي باعتباره نوعا من الوعي الحسي للناس لواقعهم والتفاعل معه في مضمرات هذا الوعي، الذي تشكل بفعل الممارسة الاجتماعية للناس في حياتهم، خاصة وأننا نعلم بانبنائية هذا الوعي من جراء نشوء وتكون المجتمع المغربي، تبعا لطبيعة ساكنته التي تمثل نوعا من الفسيفساء في تكونها بفعل النزوح والهجرة وتحولات أنماط الحكم التي كان عليها المغرب منذ وجود ساكنته الأولى الأمازيغ. وضمن هذا التشكل ستبرز أنواع من التعبيرات الفنية سواء كتعبير فن القول أو تعبيرات ذات طابع فني راق عن طبيعة هذا التشكل والتكون بحيث تندمج هذه التعبيرات في أنواعها وتعدد ما نسميه النسق الثقافي العام للبلاد والذي تكون هو أيضا من وعي الناس بواقعهم الاجتماعي كثقافة وطنية في مجتمع مفتوح تحدده شروط هذه الثقافة وإلا لما كان حديثنا عن التحول والنزوح بهذا المعنى وفي هذا المقام . إننا نعتبر هذه الممارسة الفنية ممارسة مسرحية بالدرجة الأولى مادامت الممارسة المسرحية في حد ذاتها هي ممارسة فرجوية تحقق الالتقاء الحميمي بين الناس سواء كمؤدين أو كمؤدى لهم داخل المجتمع، لأن ما يؤدى هو الذي يحقق طبيعة اللقاء واللحمة الاجتماعية بين الناس ويعمل من خلال آليات الفرجة بما هي آلية سيكولوجية على تحقيق الاندماج الاجتماعي والتواصل، الشيء الذي تؤكده الدراسات الأنتروبولوجية[1] في هذا المجال، حيث قامت التجارب المسرحية لكبار المخرجين مثل بيتر بروك، وأريان بوشكين، وجيرزي غروتوفسكي على نتائج هذه الدراسات، مثلما قام به يوجينو باربا وادوارد هال وديابورا انطلاقا من المسعى الأول عند أنطوان أرتو في إنجاز فرجة مسرحية من هذه العادات إذ كان ينظر إلى ذلك فيما شاهده لدى شعوب جزيرة بالي بأندونيسيا. وقد تم تأكيد هذا المسعى في البحوث التي قام بها كلود ليفي ستراوس في هذا الميدان ونفس المسعى نجده في دراسات عبدالله حمودي في الأطلس الكبير بالمغرب[2]. إن اعتبار الممارسة المسرحية المغربية ممارسة ضاربة في القدم، إن لم نقل إن لها نفس تاريخ وجود الإنسان بهذه المنطقة مثلما هي عليه الحال باقي المجتمعات البشرية، يأتي من كون هذه الممارسة لا زال لها حضورها القوي فيما تختزنه الثقافة الشعبية، وتمدنا به على مستويات تمظهرات هذه الثقافة في سلوكنا اليومي المعيشي، ومنها أصبح المسرحيون المغاربة يستمدون موضوعاتهم وطرق اشتغالهم في بناء الفرجة المسرحية ونذكر منها على الخصوص فرجة اعبيدات الرمى، والبساط والمداح والرواي والحلقة[3] والتي يمثل انعقاد لقاءاتها ومواسمها فرص اجتماعية للإعلان عن حضور الذات الجمعية للناس والانتماء لهوية الجماعة حسب مواقع تواجدها على خارطة المغرب، إضافة إلى انخراط مكونات الساكنة فيها بالحضور والمشاركة ولا تفصل بينها فواصل السلالة والعرق أو المعتقد الديني ما دامت فرجات جماعية ترتكز على العمل وأنماط الإنتاج السائدة وفق الوسائل المتاحة لها حسب متطلبات الحياة نفسها آنذاك وحسب التحولات الاقتصادية والسياسية، التي تكون عليها الحقب التي مرت بها البلاد والتي تبقى موسومة بشرط التواجد الاجتماعي للناس، علما بأن هذا النمط من الحياة ومنتوجاته الثقافية تدخل في إرساء مدماكه القرار السياسي للسلطة الحاكمة[4]. إن أسئلة النشأة والتأسيس في المسرح المغربي تبقى أسئلة ذات طابع ثقافي فكري عام يؤرخ بها لمراحل تنامي الوعي بالذات ورد الفعل إزاء الآخر الذي استطاع أن يطور تجربته في نفس المجال وفي إطار سياق شروط تحولاته الاجتماعية والاقتصادية نتيجة الارتقاء بوعيه الحسي، والذي أصبح وعيا بواقعه الاجتماعي والذي ترجم في تعبيراته الفنية وانطلاقا من عاداته وتقاليده والتي هي شبيهة والى حد كبير بالعادات والتقاليد التي تكونت عندنا في نشأة وتكون مجتمعاتنا بتشكيلاتها الاجتماعية وبتعالقها بمواقع السلطة فيها، وهو ما يمكن أن نلمس بعض التبساته في واقعنا من جراء التدخل الممارس بعنف مع الشعوب والذي يأخذ في كثير من الفترات طابعا صراعيا، ناهيك عن صراعاته الاجتماعية الداخلية، بحيث ننسى في خضم هذا تاريخنا الاجتماعي والثقافي ولا نفتح حدودا بين هذا التاريخ وتواريخ الشعوب الأخرى التي نتقاطع معها وما يبقى ماثلا أمامنا هو حدود هذا التقاطع بين التواريخ لصنع بدايات جديدة لتاريخنا الثقافي، ونغفل إننا في كل موسم أو مناسبة دينية أو وطنية نعمل على إحياء تاريخنا المنسي هذا باعتباره تركة موصولة الفعل وغير مستأنفة وهي ما تم التأشير عليها حاليا بالعودة الى الفرجة[5]، انطلاقا من موروثنا الثقافي وما يحمله من حس الوجدان الشعبي، باعتبار هذا الوجدان تراثا وخزانا للوعي الوطني ولهويتنا، وكل عودة إليه هي عودة لإثبات الذات، ليس كرد فعل بل كواقع كان موجودا وحاضرا بقوة، بل وما يزال مستمرا ويعيد ترتيب حضوره في هذه المناسبات والمواسم وطقوس احتفالية تعطيه تماهيه في تقاطع تاريخه بتواريخ الآخر الذي نريد تمثل ثقافته وفنه بقوة حضوره العسكري، والتكنولوجي وكأننا لم نكن هنا ولم تكن لثقافتنا وفننا قائمة[6]. من هذه المنطلقات نستحضر وقائع الممارسة المسرحية المغربية في مختلف الحقب، باعتبارها ممارسة ثقافية فنية ذات وظائف اجتماعية وثقافية وتربوية ومؤطرة للوجود الاجتماعي والثقافي كما أن الأطر المعرفية الممارسة لهذا الفن تعتبر أطرا عضوية ضمن النسيج الاجتماعي المتكون انبنائيا في سلوك الساكنة بشكل متواتر ومتواصل على مر العصور والتحولات التي شهدتها هذه الممارسة بما هي ممارسة للحياة نفسها مما يقوي لحمة التواشج الاجتماعي والثقافي بين أعضائها وبين الساكنة رغم تعدد وتنوع واختلاف مشاربهم السلالية والثقافية كما أن نمط الإنتاج المؤطر كخلفية اقتصادية لهذه الممارسة تمتلك وسائل إنتاجه الطبقة الحاكمة المعبر عنها بالمخزن حيث تندمج في هذه التسمية طبقة ملاكي الأراضي والأعيان والفقهاء والصناع التقليديون الى الحد الذي يكاد ينمحي فيه التمايز الطبقي ولعل هذا راجع لطبيعة الممارسة الثقافية والفنية ذات الطابع الطقوسي الديني والطائفي والفقهاء والصناع التقليديون وهذه الأخيرة تعتبر في نظرنا آليات لإعادة إنتاج نفس النسق في النظام الثقافي الناشئ وهنا يحضر الإيديولوجي بقوة ضمن الجمالي الفني وتحويله من طابع الفرجة التكون والتلقي الى طابع الولاء، بحيث لا تحضر الفرجة إلا في حضرة الوالي الذي يأخذ رمزيته في الضريح أو الموسم ولنا أن نستحضر هنا فرجات هرمة بوجلود بمناسبة عيد الأضحى، وإمعشارن الفرجة التي يندمج في إنتاجها وأدائها العنصر العربي والأمازيغي واليهودي كمكونات أساسية للثقافة والفرجة المسرحية المغربية ونشير هنا الى الفرجة العيساوية والحمدوشية والكناوية والتي كلها امتدادات لفرجة اعبيدات الرمى التي اتخذت من أحواش الفن الأمازيغي بامتياز مرتكزا لها وكل هذه الفرجات لا تخلو من حلقات الذكر والتوسل دلالة على حضور البعد الديني الإصلاحي فيها وهو ما يعرف في الغناء الشعبي ذي الطابع الأدائي بالساكن، وعندما نذكر الكناوي هنا فإننا لا نستثني الثقافة الزنجية والتي يسجل حضورها في المغرب حضور الوثنية واستحضار الآلهة وأشباحها والتي تأخذ تعبيرات مجازية في الشرفاء والأولياء، رغم أنها تقدم كفن ناسوتي يهم الناس في حياتهم وكيفية إعادة النظام الثقافي العام والصورة الممثلة لهذا الطابع نجدها حاضرة وبشكل مادي في آلات الإيقاع ووسائل إنتاج هذه الفرجات ذات طابع مسرحي خاصة في طقوس حفلات هرمة بوجلود : جلد الأضحية المقدمة في عيد الأضحى تعبيرا على تحقيق الرؤيا الإبراهيمية كأضحية بديل عن سيدنا إسماعيل، يصبح بديلا لتطهير دنس الإنسان على الأرض والذي يتخذ هذا الجلد لباسا له اعتقادا بتحقيق التطهير أو ما يسميه أرسطو بالكتارسيس من أجل إعادة التوازن للنظام الاجتماعي والثقافي وهذه دلالة آخرى لمفهوم الموسم بالمعنى الديني والذي لا يقوم كطقس إلا على ما هو فرجوي باعتبار هذا الأخير هو ما يعطي قوة ملموسة لتحقيق الصفاء والتسامح، وضمن هذه الفرجات تندرج مسرحية سلطان الطلبة كنموذج للإقرار السياسي لهذه الفرجات والسماح بها من أجل إعادة إنتاج نظام النسق الثقافي المبني على تحالف المخزن ملاحظة أخرى نشير إليها هنا وهي : أن رسوخ هذه الممارسات في مناسبات دينية مما يعطي معنى الفرجة المسرحية المغربية كما أننا نسجل أن طقسية المكان لها دلالتها كذلك ساحات الأضرحة أمام أبواب المساجد تماثل والى حد كبير ما يمنحنا إياه ظلام المسرح وسكينته ومواقيت الفرجة فيه بعد صلاة العشاء. إن رسوخ هذه الممارسات المسرحية وانبثاقها من تربة فكرية تنتمي لتشكل وتكون الثقافة المغربية بتعددها وتنوعها واختلافها حسب طبيعة مكونات الساكنة المغربية وفي مختلف عهودها التاريخية انصهارا بتكوينات الدول في المغرب باعتبارها مكونات السلطة المركزية جعل هذه الممارسات المسرحية لا تخرج عن كونها ممارسات مسرحية تتم تحت نبض هذه السلطة وتحت أعينها الشيء الذي يجعل هذه الممارسات مندمجة بشكل أو بآخر كممارسات رسمية أي أنها وبمشاركة السلطة المركزية فيها ممارسات الثقافة السائدة وبطبيعة الحال سيتم التخلي عن التدخل المباشر في انتظامها وقيامها بعدما ترسخت كآليات من آليات إعادة الإنتاج النظام الثقافي العام للبلاد باعتبارها نسقا سياسيا وهكذا نجد الوجدان الشعبي سيلعب دورا أساسيا في إعادة إنتاج هاته الفرجات بينما ستصبح آليات إنتاج النظام في حد ذاته متجهة وجهة اقتصادية وسياسية خاصة لاستتباب نظام الحكم بينما تلعب التقاليد والعادات والممارسات الطقوسية دورها في المجال الثقافي الرمزي ومنها الفرجة والتي لا تحضر في إطار الممارسة الرسمية إلا كتقاليد للنظام وهي مناسبات تجديده مثلا الطقوس الفرجوية في البيعة والمناسبات الدينية والوطنية لأن ممارسات هذه الطقوس وبهذا الشكل ستصبح من مضمرات المؤسسة السياسية القائمة وأبطالها وكأنها مضمرات أسطورية[7] ومن هنا ستنطبع الممارسة الثقافة العامة بالبلاد بتتبعها للسياسي أكثر من تبعيتها للثقافة العامة للبلاد، علما بأن الممارسة الثقافية كانت هي الأساس الذي قام عليه النظام السياسي ولنا أن نعطي مثالا بفرجة سلطان الطلبة وصلاة الاستسقاء وحفلات البيعة، ومن هنا نستنتج أن الممارسة المسرحية المغربية متأصلة في النظام الثقافي العام للبلاد كما أن لها مرجعيات في تثبيت وترسيخ النسق السياسي العام، وما يدل على ذلك نظام الزوايا في المغرب وكيفية إحياء حفلاتها الطقسية بين الشيوخ والمريدين وهي ذات الطقوس التي تجمع الحكام بالمحكومين وما يوضح ذلك على مستوى الفرجة المسرحية هي طقسية اعبيدات الرمى كمنطلق فني شعبي لاندماج وتزاوج ثقافات الساكنة الأول : القبائل العربية النازحة من الشرق إضافة لليهود المقيمين قبل وفود القبائل العربية ومجيء الإسلام والتي تجلى في أنواع فنية شعبية أخرى مشابهة تماما لفرجة اعبيدات الرمى ونعني بذلك امعشارن والهيولة غير أن طبيعة فرجات اعبيدات الرمى وفي ارتباطها أولا بالطبقة الاجتماعية السائدة باعتبارهم مالكين لوسائل الإنتاج في مجتمع زراعي سيجعلهم يمثلون هذه الصفة بتحالفهم ومساندة رجال المخزن لهم، سيجعل في الفرجة الولاية لهم تنتقل بشكل آلي للأضرحة والأولياء كرمز لبركة الولي والتي هي بركة مستوحاة من مؤسس الدولة المغربية وهذا راجع بالأساس للممارسة الفرجوية القائمة على المزج بين الديني والدنيوي وهنا نستحضر معنى الأكليروس في القرون الوسطى بأوروبا ومسرح صكوك الغفران بالكنيسة كما أن هذا المزج بين الديني والدنيوي سنجده في ممارسات فرجوية أخرى لها صلة عميقة بالممارسات الفرجوية لعبيدات الرمى والمتجلية مع الظواهر العيساوية والحمدوشية والكناوية وذلك بسبب انتقال ولاية الأعيان والأسياد للفقهاء والصناع التقليديين في علاقتهم بالمخزن عن طريق نظام الطوائف/المزوار[8] وأمناء الحناطي في مجتمع سيعرف في تحولاته بالانتقال من نمط الإنتاج الزراعي الى نمط إنتاج صناعي وتبعا لهذه التحولات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والتي لها معنى على المستوى السياسي سيجعل بالضرورة انتقال نموذج الفرجة المسرحية بما هي فرجة تابعة للسياسي كما رأينا وبالتالي جعل النظام الثقافي العام تابعا للسياسي وكل تعثر أو انفلات في الممارسات المسرحية المغربية يبقى رهينا بطبيعة هذه العلاقة وغالبا ما تكون التعثرات والانفلاتات نابعة من مطلب استقلال الثقافي عن السياسي فيما يقوم به القائمون على الفرجة كممارسة مؤسسة ثقافيا، ومن هنا نفهم كذلك لماذا تظل الممارسة الثقافية بلا دعامة والمسرحية الفنية خاصة مرتبطة بالمجال العام ومستتبعاته[9] كما أن القطاعات المسؤولة رسميا عنها لا تقوم إلا بتنظيم شؤونها، وهذا ما يتجلى في تأخر القوانين والتشريعات المنظمة لها، ما دامت هذه الممارسات الثقافية مستحوذ عليها ولا يتم الاعتراف بها إلا في مقتضيات وحاجات السلطة المركزية، في فترات عظمتها أو تراجعها لأن القطاع العامل في العام بالمعنى الحديث لا يملك قرار استقلاله لقصور في وعيه السياسي والثقافي ولعمليات الاستحواذ عليه في منطق الثقافة السائدة والمهيمنة أمام ثقافة مسودة لا تمتلك آليات إنتاجها إلا مما هو عام ومنخرط في النظام الثقافي العام، كما أن هذا الارتباط بين ما هو ديني كمجال مراقب وما هو دنيوي يعيش على هامش من الحرية عطل التوجه لمأسسة الفرجة وانتظامها فيما تفرضه تلقائية الوجدان الشعبي .