قرأت بشغف الرواية الأخيرة لعبد الواحد كفيح "روائح مقاهي المكسيك" الصادرة عن دار سليكي إخوان، فاستنشقت نفس الوقائع والشخوص والزمان والمكان، بمقهى بوشريط لأب صديقي (ع ) تجاه مكتبة القادري بالجديدة، مقهى تتوسطها شجرة تين كبيرة لا زالت لحد الآن. إنه روائي رحالة يقول ما يريده في كتاباته وحواراته، له رؤية معتادة أنيقة بسيطة بساطة الأمور، على شاكلة جواز المرور إلى القلب. شاب لم يأكل الشيب من منكبيه بعد، مثقل بحمولة الخصوبة والإبداع، مثقف معتكف، يساري سابق لا يغلق الباب على الآراء التي تحيط وتجانب الصواب فيه منه، كتاباته تعكس دون شك قلق القارئ ومخاوفه بالريبة والتشكيك ومغامرة البحث (وأنا أحجز تذكرتي من بهو محطة القطار، استرعى انتباهي عنوان مركب وغريب لهذه الرواية: "أنا والشيبة العاصية؟ أو لم لم تنتظريني يا أمي؟ ص16. ومن هذا الإيهام بواقعية الأحداث، تشكلت تركيبة عنوان الرواية التي بين أيدينا "روائح مقاهي المكسيك". لا نستطيع أن ننسى الوقائع، تنفذ واحدة تلو الأخرى كأوراق البرقوق مباشرة إلى القلب المتسع للهموم، موسيقى متموجة ودرجات من السلم الموسيقي وأحداث لا تتكرر إلا لتقول شيئا معينا ومحددا. يستعين في كتاباته بآلة الحفر، يمشي طويلا ويستمع كثيرا ثم يدس يديه في قفة ملآى بالمواد والألوان ويستخرج لنا مادة دسمة من عناوين: العايدية ووفاة الشيبة العاصية ومذكرات الشيبة العاصية. الرواية ككل، هي حكي متواصل مكتوب في الدرجة الثالثة من القطار يجوب الأصقاع كل يوم ويخالط الحياة الحقيقية، منذ أن شد فضوله تعليق الناشر على الصفحة الأخيرة. وصف بصور لاذعة وسخرية سامة مكثفة مقطرة بماء زلال، ماء قبائل بني ملال وبني اعمير يضع يده على الجراح، ليختفي مرات منزويا متأملا غاضبا كارها (قاصدا الخلاء تحسبا لأي هجوم غاشم يأتي على ما تبقى من فحولتي، ودادا تتبعني في مشهد كوميدي: -أوقف غير نطل،-أوقف نشوف أو نقلب ليك..)ص12 روايته جمرة للكل، ونافذة للعديد من الكتاب السابقين. بصمته الأدبية كاملة وشاملة أنيقة عليها Mad in كفيح وما أدراك ما كفيح. حيث يطغى الحكي الساحر، بجمله الطويلة التي تقطع الأنفاس بلغة باذخة تستمد قوتها من مقروئه الروائي والقصصي، وهو المغرم حد الهوس بالأدب الامريكو لاتيني. فترات الرواية منقحة بالكثافة، مبنية من طوب البلدة وحجارة القرى المجاورة، إنها تلمع بخيوط القصة، يرسمها بالأضداد وبأبواب مشرعة للهواء المطل من مساحة البحر. نتلمس ملامح الشخصيات عن طريق السرد، نماذج العايدية والشيبة العاصية والجو العام للمقهى بشخوصها وروادها (كانت مأوى من لا مأوى له، مأوى الحشاشين والسكارى والمشردين والمقامرين والافاكين والسماسرة ولاعبي الثلاث ورقات والحمقى والمعتوهين والجواسيس والغرباء ومروجي الإشاعات والمساجين..ص26 )، أبوابها مشرعة كما يقول على الدوام. ولأنها مرآة الذات الجماعة والكلمة، فالرواية حاضنة التأويل والمعنى، فهي تعكس رؤيتنا إلى العالم، لأننا نخاف شيئين في هذه المدن الهامشية: الملل والرقابة (حيدر حيدر). ثمة روح ملحمية تجتاح الرواية، مستعرض مسار أسرة الشيبة العاصية والمرأة العايدية، تستوطن مقهى سنوات السبعينات والكاتب السارد ينحاز إلى التلميح والترميز بحمولة التاريخ (كنت قد رقيت من طرف أمي العايدية إلى مرتبة مراقب عام مؤقتا للتجسس على الوافدين الجدد وإحصاء الأنفاس، وأعد ملفا كاملا بالتلصص عن كل ما جرى في منتصف الليل ..) ص36 رواية تنقلك إلى أمكنة ذات حمولة تاريخية وتحمل الكثير من الإجابات المحتملة: الفقد الأحلام الرموز القرية المدينة الهجرة الحرمان الخيبة... بصمة عبد الواحد كفيح تكبر مع النصوص الموازية هي طريقة صنايعي معلم في الكتابة، حرفي يحسن الصياغة. أبطاله يقتلهم الجوع والغربة والمعاناة وتقاوم إلى النهاية بجمالية الوصف والتتبع (أراه بلا نفع ولا جدوى أراه حطاما، أصابه التلف والخرف يحمل على الدوام سطلة ماء متأهبا على الدوام للوضوء بيد أني ما رأيته قط يمم وجهه شطر القبلة مؤديا فرض ربه، ما خلا أيام الأعياد حيث يتأبط سجادة مرائيا بها المرائين..) أو يصف امرأة عجوز بسخرية لاذعة (كنت أراها كلما هجعت لصلاتها تخلع سروالها وترمي به جانبا لتنخرط في صلاة وابتهال ما عرفه القدامى والمحدثون ..)ص41 روائح مقاهي المكسيك أيام من العز، معزة الأصدقاء والرفاق والأحبة الموغلين في النسيان وثقافة الاعتراف، رواية يختلط فيها الوجود والتواجد حدود التاريخ والجغرافيا والتسامي بالأمكنة وإنعاش الذاكرة مع إلغاء الحدود الوهمية والتآخي الموسوم بضمير الحكي الغائب. الرواية تصر على قول الكثير في أقل كلمات، وتقدم نفسها في بعض الجهد، كي نحيا فيها ومنها حتمية الاعتراف والوجود والتواجد والتوثيق لمرحلة مهمة من تاريخ مشترك، داهمه النسيان والتهميش.