تناسج ثقافات الفرجة.. حوار الشمال والجنوب موضوع الندوة الثانية تتواصل فعاليات المؤتمر الفكري للدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي بالرباط في جاذبية لافتة لقامات وازنة في عالم الفكر المسرحي عربيا وعالميا؛ جاذبية قوامها نقاش نظري ونقدي جاد، نسيجها تبادل معرفي متنوع وغني، مسعاها العام يصب في تعميق البحث والسؤال حول ما يعتمل في مسرحنا العربي من اجتهادات واقتراحات وتجارب درامية وفرجوية في علاقاتها المتشعبة معالآخر بهذا العالم الذي أصبح اليوم مجرد قرية صغيرة بفعل الميديا وتنامي الوسائط المتعددة والمتجددة.. ضمن هذا السياق يندرج موضوع الندوة الثانية لمؤتمرنا الفكري والموسومة ب "تناسج ثقافات الفرجة.. حوار الشمال والجنوب".. وقبل ملامسة مجريات أشغال هذه الندوة التي ترأسها الباحث الدكتور خالد أمين، تجدر الإشارة إلى أن طبيعة الموضوع المطروق فرضت بالضرورة حضور ومشاركة أصوات ووجهات نظر من آفاق فكرية وجغرافية مختلفة لوضع تيمة "التناسج" على المحك انطلاقا من زمن الندوة ذاتها..لذا التأمت على طاولة هذه الندوة،أمس، ثلة من الباحثين أمثال الباحثة إيريكا فيشر ليشته القادمة من ألمانياحيث تشتغل أستاذة الدراسات المسرحية، ومديرة المعهد الدولي لتناسج ثقافات الفرجة التابع للجامعة الحرة ببرلين، هي من وضعت اللبنات الأولى لمشروع ومفهوم تناسج الثقافات، وهي صاحبة كتاب "تناسج ثقافات الفرجة: نحو إعادة التفكير في مسرح المثاقفة" سنة 2014... ولمشروع فيشر ليشته البحثي والتنظيري أهمية خاصة في مجال الدراسات المسرحية في أوربا وأمريكا وباقي دول العالم. ونجد أيضا الباحث الأكاديمي ستيفن باربر وهو أستاذ باحث بكلية الفنون التابعة لجامعة كينغستون بلندن، وهو كذلك باحث بالمعهد الدولي لتناسج ثقافات الفرجة بألمانيا. والفنان الأستاذ خالد جلال، مخرج ومؤلف وممثل من مصروالذي يشرف حاليا على مركز الإبداع. وإلى جانبه الدكتورة مروة مهدي من جمهورية مصر العربية أيضا، مقيمة حاليا بألمانيا، وهي باحثة مسرحية في الجامعة الحرة ببرلين وتشتغل على المشروع البحثي (ثقافة العرض)، ومخرجة برامج تلفزيونية، ومترجمة.وحضر الكاتب والمخرج الفلسطيني راضي شحادةالمحمل بثقافة الحكي من قرية المغار في الجليل، وهو أحد مؤسسي مسرح الحكواتي في القدسالمحتلة، ومعروف عن مسرحه أنه مسرح متجوّل في أنحاء البلاد وفي أرجاء العالم. لهتنظيرات لمذهب مسرح السيرة. أما الباحث السوداني أبو القاسم قور حامد محمد، فهو رئيس وحدة الدراسات والبحوث بمركز دراسات وثقافة السلام، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وأحد رواد الدرس النقدي المسرحي، وملم بقضايا حقوق الإنسان... ولا ننسى الدكتور خالد أمين الأستاذ بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان/ المغرب، ورئيس المركز الدولي لدراسات الفرجة وباحث بالمعهد الدولي لتناسج ثقافات الفرجة بألمانيا.. عندما تجتمع كل هذه القاماتوالأصوات القادمة من ثقافات وهويات مختلفة، لتناقش موضوعة "التناسج" فإنه من باب الحتمية أن تتباين أو تتقاطع وجهات النظر فيما يشبه فسيفساء أو لنقل "تناسجا" يبلوره الاختلاف أحيانا وينسجه الائتلاف أحيانا أخرى، لتنطرح في الأفق أفكار جامعة بين ثقافات ومرجعيات متباينة... وذلك بالفعل ما تم خلال ندوة أمس الإثنين المتمحورة حول هذا الموضوع. فمن جانبه ركز الباحث خالد أمين في عرضه المدخلي علىفورة المفاهيم والمصطلحات، وجنوحها نحو ابتداع أخرى تروم تصحيح الأسس النظرية التي قامت عليها المفاهيم السابقة. هذا ما حصل مع مصطلح "مسرح المثاقفة" الذي يتعين إعادة التفكير في مقتضياته ومستلزماته. ومعلوم أن "المثاقفة"، يدقق المتدخل، هي الاقتباس المتبادل بين الثقافات؛ بما هي "مثاقفة تساعد على معرفة الآخر".. بعد ذلك توقف الباحث عند مشروع المفكرة الألمانية إيريكا فيشر ليشتهالذي جاء ليفتح أفقا جديدا للبحث والتأمل، ويقف عند مواطن الخلل والتناقض الكامن في مثاقفة المسرح الغربي، ويقترح علاجها وتعديلها بشراكة مع باحثين وفنانين منحدرين من جميع الثقافات والجغرافيات.إلا أن خالد أمين يعتبر أن "مفهوم" التناسج في الضفة الجنوبية للمتوسط يختلف عن التصور السائد في الضفة الشمالية... وهذا تحديدا ما يجعله أفقا رحبا للتأمل والبحث في مختلف التفاعلات بين ثقافات مسرحية مختلفة بحيث يصعب عزل عناصر من ثقافة ما عن أخرى، ذلك أنها تخضع لمنطق التحول التاريخي، الجمالي، وموقع "الناسج" بخاصة... وهذا ما ذهبت إليه مداخلة إيريكا فيشر ليشته التي أقرت أنه من خلال تاريخ المسرح، يتبين بأن التبادلات بين الأشكال المسرحية للبلدان المجاورة، وأيضا بين الثقافات المتباعدة تقع بالفعل كلما وجد دليل على ممارسة مسرحية ما. فقد كان تفاعل المسرح مع عناصر من الثقافات الأخرى أداة دائمة ووسيلة للتغيير والتجديد. وعليه، تضيف المتدخلة، فبقدر ما نؤكد على التنوع في تحليلنا للعروض الفرجوية، بقدرما ندعو لتعزيز نوع من التجانس عن طريق الاعتماد الحصري على المفاهيم والمصطلحات الإنجليزية. وهنا تطرح بقوة مسألة التجاذبات اللغوية، حيث تنهض الحاجة إلى ابتكار معجم من المرادفات أو العبارات المناسبة باللغة الإنجليزية من أجل التعاطي مع فرجات معينة، كما تقترح الباحثة الألمانية. لكن، كما هو حال الترجمة دائما، ولاسيما حينما يتعلق الأمر بلغات لا تنتمي لنفس العائلة الواحدة، والتي لها قواعد لغوية مختلفة جذريا تعبر عن اختلاف كبير أيضا في طريقة التفكير، لن تكون هناك مرادفات حقيقية، بل فقط محاولات للتوسط وهي في الغالب تقريبية لا تفيد المعنى بالتدقيق. وفي سياق الحوار شمال/ جنوب، يسعى الباحث ستيفن باربر أيضا لتقديم أفكار عن "الطوبوغرافية" الغير قارة التي تسم حوارات الشمال/ الجنوب خاصة ضمن وسيط الفرجة. فسفر ثقافات الفرجة من الشمال إلى الجنوب أو العكس قد يدل على مسيرة طوبوغرافية خطية كما هو شأن الغزو أو التسلل، ولكن حينما يتعلق الأمر بثقافات الفرجة بخاصة، يكون ذلك السفر في واقع الأمر تماسيا، غير مباشر، مؤجل، ومتقلب. وبحكم الخاصية الجسدية لثقافات الفرجة، قد تشترك في هذا السفر أيضا حركات متعددة الأبعاد وتنقلات موازية داخل جسم الإنسان..من ثمة يحذر الباحث باربر من أن توجيه ثقافات الفرجة ضمن هذه المعالم الطوبوغرافية المعينة "شمال/ جنوب" سيولد دائما التوترات والكسور وكذلك التحالفات؛ ومن خلال تلك التوترات الأساسية تنشأ في الكثير من الأحيان معرفة الانشغالات المحددة للفرجة. ولم تخف الباحثة مروة مهدي عبيدو تبنيها للطروحات النظرية للألمانية إيريكا فيشر ليشته معتبرة أن كلمة تناسجتبدو لها ملائمة تماما لما ترصده نظرية فيشر ليشته عن تداخل ثقافات العروض الفرجوية/ الأدائية، لأنها توضح جوهرها وتشرح مغزاها ببساطة. وترى الباحثة مروة أن نظرية تناسج الثقافات تعنى،وبشكل عام، بمساحات التداخل المركبة بين الثقافات المختلفة، حيث تتداخل العناصر الثقافية المتنوعة مع بعضها البعض لتخلق سياقا إنسانيا يحمل سمات جديدة عن عناصره الأصلية. مما يعني أيضا تراجع الأسئلة المرتبطة بقضايا الهيمنة والمركزية لثقافة بعينها على حساب الثقافات الأخرى. ويجسد العرض المسرحي/الأدائي/ الفرجوي كحامل نموذجي للثقافات مثالا واضحا للتناسج الثقافي في الماضي والحاضر. ويؤطر الباحث خالد جلال وجهة نظره النقدية ضمن "البنية المتحررة للمسرح بين صدام وحوار الحضارات" إذ يرى أن الصدام يكون بين المصالح وموازين القوى، بينما الخيط الناظم للعلاقة بين الحضارات هو الحوار..إذ لا مجال لصراع الثقافات، والفنان، في نظره، مطالب بالعمل على تحويل ذلك التلاقح العفوي بين الثقافات والحضارات إلى تلاقح واع يعكس الحاجة إلى حوار خلاق قادر على التأثير في حركة التاريخ.. وخلص الباحث خالد جلال بعد استعراضه لمجموعة من النماذج والتجارب على مستوى علاقة المسرح العربي بنظيره الغربي، إلى أن الفعل المسرحي يعتبر النموذج المثالي لتجارب التلاقح الثقافي التي يمكن أن تفعل دور الوجه غير الصدامي في حوار الثقافات خاصة بين الغرب والشرق، أو بين الشمال والجنوب... الأستاذ راضي شحادة ارتأى في هذه الندوة أن يركز مداخلته حولفكرة تناسج ثقافات الفرجة في علاقتها مع الصراع الأبديّ بين الفرجوي والمنطوق، ليطرح بشكل مباشر إشكالية اللغة ومدى إعاقتها للتواصل وحيلولتها دون الانتشار في ظل طغيان وسيادة وسائل الاتصال السريعة والناجعة..ملاحظا نوعا من "ديكتاتورية المنطوق على حساب ديمقراطية الجسد"..منتصرا في أطروحته للمسرح التعبيري الذي يعول على الجسد ويقلص مساحة المنطوق حتى ولو دعا الأمر إلى تقديم عرض صامت.. مستدلا بتجارب عربية ودولية عايشها وشاهدها وتفاعل معها.. في نهاية الجلسة، انتقد الأستاذ أبوالقاسم قور مفهوم تقديم حوصلة الندوة على شكل نتائج وخلاصات تركيبية، مفضلا أن يقدم قراءة نقدية لما تقدم قبله من عروض.. ومنذ الوهلة الأولى يكشف الباحث أبوالقاسم قور رفضه جملة وتفصيلا لمفاهيم المثاقفة والتثاقفوالتناسج وكل المفاهيم المماثلة التي أنتجها ما أسماه "الهيمون" الأوربي.. واعتبر أن الحوار شمال جنوبحوار زائف لأنه قائم على عدم التكافؤ،إذ لا ينبغىأن يكون الحوار فقط من أجل الحوار، في عالم اليوم الذي يعيش أسوأ لحظات السلم العالمى، داعيا إلى جعل هذا الحوار شيئا مفيدا متخطيا الترف الذهنىوالعمل على تحويله من حوار مزعوم إلىحوار يصنع الحلول ويضمن التعايش الثقافى السلمى. هنا يتجه المتدخل ليعقب مباشرة على الأبحاث التي قدمت في هذه الندوة بتوجيه نقد شديد لحمولاتها ومنطلقاتها الإيديولوجية وخلفياتها السياسية، معتبرا الأوراق التي استمع إليها وإن كانت محتشدة بالمعلومات القيمة،إلا أنها لم تجب على السؤال الأساسي: ماهى وظيفة الحوار؟ وما الهدف منه؟ .... متسائلا إذا كان المطلوب هو"فرجة التناسجالثقافى" فما هى وظيفة هذه الفرجة؟ فالمشروع في أصله، يقول الباحث المعقب، يتطلب نقد الابستمولوجيا الغربية ومشروعها الثقافىالإمبريالي ونقد العقل العربى الذى يعيش صدمة الاستعمار العائد..