مشاهدات في بادية الخليج اليومية الثانية عشْرة اصطحبت ملفي وجلست أمام رجل سمين فرض على جسمه البدين بذلة لا تطيقه وربطة عنق يظهر من خلال طريقة لباسِه لها أنها تنفرُ منه كما أنه بدوره ينفرُ منها.. هلا..مرحبا.. وعليكم السلام.. أرني ملفك لو سمحت؟ تفضل تصفحه بسرعة ثم عقب: ألك رغبة للتدريس عندنا في السعودية يا أنتَ؟ أكلُّ هذا التعب وهذه الأوراق والإمضاءات وليست لي رغبة يا أستاذ؟ إن شاء الله يحصل خير، لكن سنرى هل ستنجح في الإجابة على بعض الأسئلة أم لا ؟ هل أنت على استعداد.. أجل. ما هي الأسماء الخمسة ؟ أذكر حروف العلة؟ بماذا يرفع المثنى؟ وبماذا ينصب ويجر؟ كنت أجيب وأنا خجلان من نفسي.. ممتاز...قال الرجل السمين في دهشة قلت: ممتاز! على ماذا يا أستاذ؟ ما شاء الله جاوبت على الأسئلة جميعها.. حِرتُ في أمري ..! هل أنا مستيقظ أم نائم أحلم ؟ أذكر لي أسماء بعض الشعراء الحداثيين؟ لم أعرف كيف بدأتُ ولا من أين بدأتُ..شرعت أسرد عليه طابورا طويلا من الأسماء..من نازك والسياب والجواهري ولويس عوض إلى أدونيس ودرويش ونزار قباني... خلاص.. خلاص.. ممتاز..ممتاز..ومن المغاربة..؟ المجاطي..عبد الله راجع..عبد الله زريقة..الطبال...محمد بنيس.. خلاص..خلاص...بعض أشعارهم. كان يمتلكني إحساس شديد بأن محاوري لا يعرف أسماء الشعراء المغاربة، فكيف يعرف أشعارهم..؟ قرأت له مقطعا من ديوان الفروسية للشاعر المجاطي..فعقب: ما شاء الله ..! ما شاء الله..! هذا يكفي.. كان الرجل السمين يتظاهر بأنه يصغي إلي بينما هو منهمك في تدوين بعض الفقرات في استمارة العقد الذي ناولني إياه لأوقع أسفله.. حقا يا أستاذ..ما شاء الله عليك. يعني حضرتك أنا مقبول للتدريس عندكم..؟ طبعا مقبول..ألف مرحبا.. فتح الملف ليتفحص الشهادات، إذا به يجد شهادتي الجامعية وشهادة تخرجي من المركز التربوي في نفس السنة. جحظ عينيه وقال: غير معقول، هذا غريب؟ وفيم الغرابة حضرتك..؟ نادى مستجوبي على رئيسه من الغرفة الثانية والذي كان أكثر سمنة منه.. حضر زميله مسرعا فشرح له حالتي.. هذا الأستاذ حاصل على شهادتين في نفس السنة! هل هذا معقول؟ دون أن يكلف زميله نفسه حتى الاطلاع على الشهادتين قال: احسب له فقط شهادة واحدة، واعتبر الثانية ملغاة. طيب..كم أضع له في خانة الراتب. بسيطة..أخصم له «كذا وكذا «على اعتبار أن شهادة التخرج من المركز ملغية. ما الأمر حضرتك؟ قلت في اندهاش؟ والله انك سمعت كل شيء من المسؤول الكبير..فأنا مضطر لأخصم لك قدرا من الراتب الشهري لكن هذا ظلم في حقي؟ وغصبُ لمجهودي وكفاءتي..لماذا هذا الحيف ؟ لأنه شيء لا يصدق أن تحصل على شهادتين في نفس السنة؟ لكن هذا هو الواقع..وبالحجة والدليل..هل الاجتهاد أصبح جرما في بلادنا العربية.. لالا..تسيس الموضوع يا ابني أرجوك..على كل حال لما تصل إلى إدارة التعليم التي سوف تعين فيها بالمملكة..إن شاء الله سوف يصححون لك وضعيتك... لا عليك يا أنت.. قلت في نفسي أول الأمر..وهل كنت تحلم بالسفر أساسا «القناعة كنز لا يفنى» ستذهب إلى الخليج.. آه منك يا خليج ! فقط حين تسمع هذه الكلمة تردد على الفور مقاطع من شعر السياب «يا خليجُ يا واهب المحار..!» يحكون أن الصحارى هناك كلها دهب، والجامعات هناك راقية، والفرصة مواتية لكي تتابع دراستك وترجع من هناك بالدكتوراه التي حرمك غزو صدام للكويت منها في باريس..هذه هي فرصتك. ناولني الرجل السمين ملفي وأمرني بالتوجه لأحصل على تعييني وأمضي على العقد النهائي في مكتب الرجل الأكثر سمنة وأحصل على تعيني في المنطقة التي سأتوجه إليها..ثم عن تذكرة السفر. هيا عجل..عجل السفر بكرة إن شاء الله خطوة..خطوتين أمام باب الرجل الأكثر سمنة..طرقت الباب ودخلت .. تفضل..اجلس.. أخذ رئيس البعثة ملفي...تفحصه... آه يا أنت..أنت صاحب شهادتين في سنة واحدة..!؟ أي نعم حضرتك..أنا هو..ما الغرابة في أن أحصل على شهادتين أو أنجح مرتين في نفس السنة..كنت أحضر المركز التربوي بانتظام وأحصل على دروس ومحاضرات الجامعة من أصدقائي وصديقاتي..إنه حصاد تعب سنة مضنية من الجهد والتعب والأرق يا سيدي . لا..لا..مثل هذه الخدع مرت علينا كثيرا نحن الخليجيين من طرف إخواننا المصريين..ولذلك نحن نراها عادية..عكس ما تراه أنت..لقد أبرمنا معهم عقودا فيما مضى وقبل أن نأتي المغرب كان المتعاقد منهم سامحه الله يأتينا محملا بعشرات الشهادات وفي الأخير نكتشف بأنها جميعها مزورة..تصور..! يا سيدي هذه شهادات منحتها الجامعة والجهات المسؤولة واطلعت عليها الوزارة، بمجرد تلفون منك سوف تتحقق حضرتك من صحتها وقانونيتها. أعرف..أعرف..وهو يتكلم معي كان يضع الملف بكامله بعد التوقيع على خصم مبلغ مهم بالنسبة لي شهريا ولمدة ثمان سنوات..لم أقرأ حتى شروط العقد كشأن باقي زملائي. وماذا ستقرأ في عقد من حوالي عشرين بندا في ظرف ثوان معدودة، إضافة إلى أن الواضح في هذه البنود هو ما يتعلق بواجباتك أما ما يتعلق بحقوقك فهو غامض ويحتمل أكثر من قراءة وتأويل . لا زمت الصمت وأنا لأدري ماذا أفعل..لاحظ الأستاذ ارتباكي وعقب قائلا.. على كل حال اطمئن إن شاء الله لما تصل إلى المملكة..سيصححون لك الخطأ ويرجعون لك المبلغ المخصوم منك عن كل شهر. متأكد حضرتك ؟ إن شاء الله خير..قل لي أين تريد أن يكون تعيينك بالمملكة..؟ مكةالمكرمة.. آه يا أنت,,! مكة ملئت من زمان .. طيب المدينةالمنورة.. هي كذلك لم تعد بها مقاعد شاغرة..لم يبق أمامك إلا نجران أو جيزان وربما الدمام إن كنت محظوظا وبقي مقعد شاغر.. كان قلبي يدق من فرط الخوف..كنت أسمع من الأصدقاء بأن التعيين في هذين المنطقتين أشبه بعقاب سماوي..ليس فيهما إلا الصحراء ثم الصحراء..يكفي أن صحراء الربع الخالي يطلق عليها.. لزمت الصمت وأنا أفكر في قدري..بينما هو ينهرني .... هيا.. أسرع يا أنت.. ليس لدي وقت لأضيعه معك.. فجأة طُرق الباب ودخل أستاذ كبير السن يحمل ملفه في يده .. يبدو أنه تراجع عن قرار السفر إلى التدريس بالسعودية بسب ظروفه الخاصة.. ما بك يا أستاذ ..؟ أرسلوني عندك..لأخبرك بعدم رغبتي في السفر للتدريس عندكم.. ناولني ملفك..قال رئيس البعثة السمين.. ناوله الأستاذ الملف.. تفحصه بسرعة..ثم نظر إليه بكل ثقة في النفس .. خلاص يا سيدي انتهى الموضوع..مع السلامة.. غادر الأستاذ والتفت إلي معقبا.. والله إنك محظوظ يا أنت..أنت آخر واحد يلتحق وأصبحتَ من الأوائل..هذا الأستاذ الذي ناولني ملفه للتو كان من بين الأوائل الذين عيناه بمكة وأنت الآن ستحل محله .. تنفست الصعداء.. آه ..ما أحلمك يا الله..! لأول مرة أحس بأنني محظوظ .. لم يعد بإمكاني قول أي شيء.. أو طلب أي شيء .. شكرا لك يا أستاذ.. أشكر الله يا أنت.. والله أنك محظوظ.. أكيد أمك داعية لك..