مشاهدات في بادية الخليج اليومية الثانية أنهيت شرح درس القواعد، كم كنت مزهوا بنفسي أنا الذي كنت أظن أني نجحت في مهمتي أمام هذا المفتش..! ونسيت لجهلي أو لحماقتي أو لغروري بنفسي أن من بين مهمات المفتش كل مفتش هو أن يفتش، نعم..! يفتش أي شيء وعن أي شيء.. أليست الحكومة هي التي قلدته بوسام المفتش، هذا المصطلح العسكري الذي لا يزال متداولا في المغرب وحده، حتى في الدول ذات الحكم العسكري حذفت هذا المصطلح من قاموسها التربوي وعوضوه بمصطلح موجه. وأنا أهم بمسح جزء من السبورة ذات الثقب الكبير في وسطها.. ثقب كأنه بركة آسنة، كان علي أن أكتب نصف الكلمة فأنط الحفرة لأكمل الكلمة إذا بالمفتش المحترم يصيح بأعلى صوته: أترك عنك السبورة.. لا تمسحها يا أستاذ.. أوحت لي طريقة نبرته الآمرة لي بنفس النبرة التي أصرخ بها في وجه إحداهن وهي غير منتبهة أثناء شرحي للدرس.. هن الآن في غبطة من أمرهن طالما أنك يا أنت.. أيها الأستاذ الشاب الذي يغضب في وجوه من لا تعنيهن الدراسة والتحصيل في شيء وتمطرهن بالنصائح أحيانا وباللوم والعتاب أحيانا.. ها أنت يا أنت أيها المزهو بشبابه بين مخالب مفتش جاء خصيصا لينتقم لهن.. أحسست بالمرارة حين وقف المفتش إلى السبورة وهو يقول للتلميذات «هذه الجملة التي كتبها لكم الأستاذ، فيها خطأ. من منكن تكتشف لنا هذا الخطأ؟» ساد الصمت داخل الفصل.. بدأت الأعين تنظر إلى الأعين.. لا واحدة من التلميذات أجابت على حضرة المفتش الصنديد.. وأخيرا نطق المفتش.. «هذه الكلمة حقها النصب وليس الرفع».. هرعت إلى كتاب مغني اللبيب الذي أخذت منه الجملة لأعيد قراءتها.. وأتأكد هل أخطأت فعلا..؟ لأجد الجملة النحوية وشرحها كما كتبتها على السبورة.. فتحت الكتاب لأقرأ الجملة وأفحم هذا المفتش المغرور.. بدأت خدوده الممتلئة تتورد.. لم يطق معي صبرا .. وهل مغني اللبيب هذا كتاب مقدس يا أستاذ..؟ الغلط ممكن.. نعم.. الغلط ممكن لكن منك يا أستاذ وليس من ابن هشام مؤلف مغني اللبيب.. رميت بالكتاب على المكتب وخرجت للبهو.. اتكأت على الجدار الفاصل بين القسم وأنا أنظر إلى الساحة الفارغة وقد ازددت شجاعة بعدما تيقنت من جهل هذا المفتش المركب.. هذا الصباح.. الجميع ملتزم.. لا تلميذ يدور في الساحة عكس باقي الأيام.. المفتش في الثكنة.. خذوا حذركم أيها الأساتذة الأشاوس.. أحسست بجسدي يتصبب عرقا.. ضاقت بي الأرض بما رحبت، صمتت قليلا ثم عدت، وقفت أمام باب القسم، قلت بنبرة عالية لا تخلو من غضب عارم واستهزاء من حضرة المفتش في نفس الوقت: انتبهن جيدا يا تلميذات..! وأصغين جيدا للسيد المفتش فهو الذي سيكمل لكم شرح الدرس، أما أنا فمهمتي انتهت. ثم عدت إلى وضعي الأول لأجد المدرسات أمام أقسامهن تطللن برؤوسهن وتتبادلن إشارات فحواها السؤال عند من دخل المفتش هذه الحصة وهن في حيرة من أمرهن عند من منهن سيدخل الحصة القادمة.. فعلا تحس بأنك في بناية السجن المدني وليس في مؤسسة تعليمية.. كانت إحداهن توجه إلي السؤال.. واش جا عندك المفتش يا أستاذ..؟ لم أجب على سؤالها وبقيت في وضعية المتفرج على الساحة.. وألف سؤال وسؤال يدور في رأسي.. كيف أتصرف مع هذا المفتش المخزني.. لقد كرهت هذه المهنة التي كنت أنظر إليها نظرة تقديس وتبجيل.. ليثني أخذت بنصيحة أستاذي الذي كان ينصحنا بأن نمتهن أية مهنة إلا مهنة التدريس.. ولما سألناه لماذا يا أستاذ..؟ أجابنا بأنه لا يملك جوابا مقنعا وأن الممارسة هي أم كل الأجوبة.. فالوسط التعليمي أصابه الوباء من كل النواحي وسترون يا أبنائي.. نعم..! صوته الآن يرن في أذني.. لم أكن أرغب في أن أقطع صلتي بمواصلة الدراسة أنا الذي كنت مولعا بالفن والإبداع.. لماذا أقحمت نفسك يا أنت في هذا المجال الذي يدعوك إلى السأم والملل ويقتل فيك روح الإبداع لتصبح مثل آلة تشغلها لتعمل نفس العمل بنفس الطريقة المملة وإلى الأبد. تفضل يا أستاذ .. أدخل لتكمل درسك.. هل أعتبر هذا أمرا سعادة المفتش؟ نعم.. هو أمر.. أو تهديد.. اعتبره كما شئت.. كان المفتش يتأملني من خلف نظارته وهو يقارن بين جثته الضخمة وبنيتي النحيفة.. تأملته بعض الوقت، عيني في عينيه دون أن ينطق كلانا بكلمة.. ورؤوس الأستاذات تظهر وتختفي كفئران تطل من جحورها.. أتأمل بنية هذا المفتش الضخمة وقد تحول أمامي إلى حشرة في حجم بعوضة.. ماذا قلت يا أستاذ.. ؟ أقول طز فيك يا سعادة المفتش.. ماذا؟ تهينني أثناء القيام بوظيفتي.. نعم أهينك لكن بيني وبينك.. أما أنت فقد أهنتني أمام تلميذاتي ولذلك فأنا حتى هذه اللحظة التي أتكلم معك فيها لازلت أفكر كيف أنتقم لكرامتي.. ماذا بوسعك أن تفعل..؟ أغلقت باب القسم بإحكام ثم قلت له: قد أصفعك.. وقد أتفل عليك.. أزال نظارته من فوق عينيه.. ازداد تجهما.. بدا لي يزداد انتفاخا عن انتفاخه الطبيعي.. وصرخ في وجهي.. تهددني أثناء القيام بوظيفتي .. قلت له وقد وضعت شفتي قرب أذنه: والله لألكمك وارمي بنفسي من هذا الطابق.. فأنا ممثل محترف وأجيد التمثيل مع الأغبياء أمثالك.. كنت أعني ما أقوله لذلك كنت أكلمه بصوت مهموس حتى لا تسمعني الأستاذات المتلصصات.. بينما هو كان يكلمني بصوت عال حتى تكون الحجة علي وبشهادة الأستاذات المحترمات.. هذا كله يصدر منك أنت يا أنت..؟ أمر السيد المفتش التلميذات بأن يخرجن وأمرتهن بالجلوس في مقاعدهن حتى يدق الجرس.. رجع السيد المفتش إلى طاولته الخلفية وهو يقلب في أوراقه بينما التلميذات مكثن بلا حركة وأنا جالس أمام مكتبي... الحمد لله دق الجرس الآن.. بقيت وجها لوجه أمام رجل المخزن المحسوب خطأ على أسرة التعليم.. وبلغة رجال الأمن الشديدة قال : ناولني جميع أوراق الفروض وجميع دفاتر التلميذات وجميع التحاضير .. سلمته بعضا مما معي من تحاضير ومن أوراق الفروض.. قطب حاجبيه ووضع النظارة أمامه وقال وهو يصرخ: قلت لك ضع أمامي كل ما يلزم دون أن أكلمك ثانية.. سحبت كل الأوراق من الخزانة المكسرة أبوابها.. وجلست على مكتبي .. قلت لك ناولني الأوراق لا أن تضعها على المكتب يا أستاذ.. أجبته في هدوء وأنا أشبك أصابع يدي اليمنى باليسرى: المتعارف عليه عند جميع رجالات المخزن أنهم يفتشون بأنفسهم ولا يمدهم أحد بما يريدون تفتيشه يا حضرة المفتش . أزال نظارته من على عينيه ثم وقف صائحا.. تعلمني شغلي؟ لا فقط أذكرك بشغلك .. جمع حقيبته وكراسته ونظارته وهم بالمغادرة.. اقترب من الباب وقال: سترى.. سترى... ماذا سأفعل بك.. لحقت به على الباب وأجبته متحديا .. يا أستاذ..! إن كان على راحة يديك ضوء الشمس أستنير به فامنعه عني، وإن كان الهواء الذي أستنشقه في حوزتك فاحرمني إياه أرجوك.. صمت كل منا لحظة.. كلانا ينظر إلى غريمه نظرة انتقام.. ثم خرج السيد المفتش يأكله غيظه وحنقه، أما أنا فرجعت إلى مكتبي بينما المدرسات الفضوليات دخلن عندي وكأنهن يعزينني. ماذا حصل بينكما يا أستاذ؟ تقول الأولى ناري يا أختي كيعاودو عليه مفتش واعر.. تقول الثانية والله إنك لقنته درسا، تقول الثالثة كنت أدرك نفاقهن جيدا وهن أقدم مني في هذه المهنة وفي هذه الثكنة العسكرية.. أتأمل وجوههن وأستمع إلى نفاقهن وأنا أنظر إلى مزهريات الحبق التي أتين بها من منازلهن تتراقص أمامي.. وعقوبتهن للفتيات بتنظيف الأقسام استعدادا لقدوم المفتش المحترم تتراقص في مخيلتي..