تبدأ هذه القصّة غير القصيرة منذ أن وصلت نسخ من كتابي مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلاميّة المشائيّة الصادر مؤخّرا عن دار المشرق في بيروت العام 2010 إلى مكتب الجمارك بوكالة بريد أمانة بوجدة. لا تهمّ متاعب البحث والكتابة ولا متاعب النشر ونقل حقوق المؤلّف من نسخ الكتاب (25 نسخة) مقارنة مع متاعب استلام هذه النسخ. إنّها متاعب تافهة حقّا مع "الديوانة" لكنّها جديرة بالتأمّل في مغرب القرن الواحد والعشرين. لم يطرأ على بالي أبدا أن ألاقي يوما مثلها مع جمارك بلدي وإلا لكنت طلبت رخصة مسبّقة من هذا الجهاز الشهير في شمال المغرب، قبل تأليف هذا الكتاب ولكنت ربّما استشرتهم في اختيار تخصّصي وموضوع أطروحتي ولكنت أرسلت إليهم نسخة من الكتاب قبل دار النشر في بيروت حتّى أضمن على الأقلّ دخول كتابي إلى أرض الوطن بسلام ومن دون أن يهدّد أمن البلد والعرش وما إلى ذلك من كلام أسمعني إياه السيّد مفتش الجمارك بالمكتب المذكور. توصّلت بإشعار الوصول مع إشارة إلى ضرورة استكمال إجراءات الاستلام. تقدّمت على وجه السرعة إلى مكتب البريد وأنا متخوّف من رسوم ماليّة أخرى قد تنضاف إلى مئاتى دولار تكلفة نقل هذه النسخ من بيروت، لكنّي لم أفكّر قطّ في رسوم من نوع آخر كانت تنتظرني عند إدارة جمارك وجدة. أفهمني شخص بالوكالة بأنّ الأمر لا يتعلّق برسوم وإنّما ببعض الأسئلة حول محتوى الكتاب لأنّ وزارة الثقافة أرسلت إلى الجمارك دوريّة تشدّد فيها على ضرورة مراقبة الحدود "الفكرية" وما يستورد من كتب! قلت: الأمر غريب! علّق آخر موضّحا: ربّما تعلّق الأمر بمحاربة المدّ الشيعيّ. قلت: كتابي ليس كتاب دعوة لأيّ مذهب من المذاهب، وإنّما هو أطروحة جامعيّة. قال الجمركيّ: لابدّ من وثيقة تثبت ذلك. قلت: الكتاب نفسه وثيقة. اقترح عليّ الجمركي، وهو رجل مسنّ ويبدو طيّبا ولطيفا، أن أزور رئيسه الآمر بالصرف ليدلي برأيه في هذه النازلة الجمركيّة فهو صاحب القرار والكلمة الفصل في مثل هذه الأمور. اتّصل به فورا بالهاتف وطلب منه "فتواه" في الكتاب، مضيفا أنّه كتاب في الفلسفة الإسلاميّة وأنّ المعني بالأمر أستاذ جامعيّ سيزوره في مكتبه فوافق السيّد الرئيس على الزيارة. أمدّني الجمركيّ الطيّب بنسخة من الكتاب تسهيلا لمأموريّتي مع السيد الأوردوناتور، فانطلقت لا ألوي على شيء وليس أمامي سوى الحصول على كتبي في أقرب وقت والتفرّغ لأشياء أخرى أهمّ من الديوانة ومشاكلها. كان يمكن للسيّد الآمر بالصرف أن يذكّر زميله بالمسطرة فيرفض استقبالي ويعفيني من سماع محاضرته التي شقّ بها رأسي في مكتبه عن المساطر أو بالأحرى الحواجز التي كان عليّ أن أتجاوزها في سباق ماراطونيّ حتّى أحصل على نسخ الكتاب المعتقلة. في مكتب السيد الأوردوناتور البارد كالثلج شخص يبدو من تحت نظارتيه عبوسا ويتكلّم بانفعال واضح. استأذنت في الدخول وطلبت منه أن يسمح لي بدقيقتين من وقته الثمين. هزّ رأسه بالإيجاب دون أن يأذن لي حتّى بالجلوس واستغرق مباشرة في محادثة عصبيّة مع مواطن فهمت أنّه ممثّل جمعيّة يريد استلام أجهزة مهداة لجمعيّته من الخارج، أو شيئا من هذا القبيل، فتمنّيت أن أخرج من ذلك المكتب في أسرع وقت كما طلبت الله أن لا يكون مصيري مع هذا الموظّف مثل هذا المواطن المسكين. بمجرّد ما أنهى مكالمته "الحربيّة"، أسرعت إلى تقديم نفسي والغرض من زيارتي فقاطعني قائلا: أنت صاحب الكتاب، أنا على علم بالأمر، أخذ الكتاب من يدي وراح يتفحّصه مثل عضو في لجنة مناقشة علميّة وطفت على وجهه طبقة جديدة من الكآبة ودخل من دون مقدّمات في محاضرة في علم المساطر. فهمت على التوّ أنّه حينما يجد مسؤول بيروقراطي نفسه أمام أستاذ جامعيّ قصد مكتبه لغرض إداري ما فغالبا ما يجد "المسؤول" الفرصة سانحة ليزاول مهنة، ربّما استهوته يوما ما وهو طالب بالجامعة، ولو للحظات فتجده يحاول جاهدا استحضار كلّ جملة علقت بذهنه منذ وقت الدراسة على مقاعد مدرّجات الجامعة. هكذا كان الحال أيضا مع هذا "المسؤول" بحيث لم يتردّد في التفنّن في عرض تفاصيل قانونيّة ومسطريّة في سياق غير السياق وبنيّة مبيّتة لتوجيه مسطرته الطويلة ضدّي. قلت مع نفسي لا بأس لأسمع لكلام هذا الشخص الذي يتولّى إدارة مغربيّة، لعلّه في الأخير يحرّر كتابي من معتقل الجمارك فهو الآمر الناهي (بالصرف طبعا) فيخلي سبيلي، لكنّه بعد درس مسطري طويل ومقدمّات مشهورة، استغرقت وقتا ليس بقصير، استنتج على طريقة العلماء النبهاء أنّه لابدّ من رخصة من وزارة الثقافة فهي وحدها المؤهّلة لتقديم رأيها في هذا النوع من السلعة. قلت: يا سيدي، أريد فقط أن أستلم كتابي، فأنا لست تاجرا ولا مهرّبا حتّى تنطبق عليّ مساطر التجارة ولا مساطر التهريب إن كانت لها مساطر ما. أنا مجرّد مؤلّف وهذه النسخ الخمس والعشرين سوف أهديها لزملائي وأصدقائي وأفراد عائلتي. –'هاداك شغلك!'. –"نعم سيّدي، لكن زميلك أرسلني إليك كي تسهّل استلام نسخ الكتاب لا لتستصعبها". يبدو أنّ هذا القول أجّج فيه الرغبة في أن يأمر بمزيد من المساطر فراح يقارن الكتاب بمختلف أنواع السلع المستوردة والمهربّة، لكن المثال الذي وقف عنده السيد الأردوناتور هو مثال الدم المستورد من الخارج. فالكتاب سلعة تماما كما الدم سلعة، فكما لا بدّ من رأي وزارة الصحّة في محتوى الدمّ لابدّ من رأي وزارة الثقافة في مضمون الكتاب. قلت يا سيدي هذا قياس فاسد، ليس قياس فرع على أصل ولا قياس شبة بلغة الأصوليّين لأنّ ذاك جسد وهذا روح، ووصف محتوى الكتاب بسلعة جمركيّة أمر لا أوافق عليه. - لابدّ من ترخيص من الجهة المتخصّصة في الدم، عفوا في الكتاب، والسلام! قلت له: يا سيدي 'إيوا قلها لي من الصبح'، أتعتقد أنّ وقتي يسمح بالاستماع إلى دروس ليس هنا مكانها ولا الآن زمانها. إنّ الكتاب هو جزء من أطروحة دكتوراه وكان ضمن المنشورات التي عرضت في المعرض الدولي للكتاب لهذا العامّ بالدار البيضاء. سألته لماذا لا يحيل الجمارك الكتاب على وزارة الثقافة كما أفترض أنّهم يفعلون بالنسبة للدم المستورد إذ يحيلونه على وزارة الصحّة ولا يعطون كمّية من الدم للمستورِد ويطلبوا منه الاتّصال بالوزارة؟ بل وأكثر من ذلك سيّدي الآمر، لكم أن تقوموا بكلّ اجراءاتكم وتحيلوه على المختصّين، وحين تنتهوا من عملكم وتتأكّدوا من صلاحية هذه السلعة أرجعوا الكتاب إلى رجال البريد حتّى يتمّوا عملهم فيوصلوا الأمانة إلى صاحبها. حين شعر ربّما بأنّي أفحمته، غضب السيد الآمر وصاح في وجهي: -'واش أنت ماشي مغربي، واش بغيتي أنا نجري في بلاصتك'. أنت قليل الحياء. ونهرني بعنف: - أُخرُج من مكتبي، 'يالله برّا، زيد برّا..' هكذا أجابني وهو يصرخ. قلت: من منّا هو قليل الحياء أنت أم أنا: أجاب: 'يالله برّا، برّا'... فخرجت. كدت أختنق مرّة أخرى بشعور ألفناه كمواطنين مغاربة من الدرجة الأخيرة وهو شعور قاتل بالحكرة وسوء المعاملة كلّما ولجنا مصلحة إدارية على مدى أربعين سنة بدءا من القائد وموظّف الجماعة بل وحتّى مدير المدرسة أحيانا، ناهيك عن الأجهزة الأمنيّة المختلفة. واسمحوا لي هنا بأن أطرح أسئلة يبدو لي أنّها مصدر قلقي الحقيقيّ: عندما يقوم هذا الرجل الموظّف بإجراءات ما يتقاضى عنها أجرا في نهاية الشهر وتعويضا وعلاوات، هل يفعل هذا بوصفه الشخص أم بوصفه الموظّف؟ لماذا نسرع إلى شخصنة المؤسّسات؟ لماذا يختزل عمل مؤسّساتي في سلوك أو عمل شخصيّ؟ لعلّ توقيع وثيقة في مكتب إداري يختلف عن تحيّة الزوجة أو تقبيل الأبناء، أو تناول وجبة غذاء رفقة أصدقاء يوم العطلة؟ أو ليس الأمر كذلك؟ إنّ المرء عندما يغضب قد لا يحيّي زوجته أو يقبّل أبناءه، ولكن من الواجب أن يذهب إلى عمله في الصباح، ويستقبل الناس، سواء كانوا شخصيّات حقيقيّة أو معنويّة؟ إنّها مجردّ أسئلة. عندما خرجت من إدارة المديريّة الجهويّة للجمارك، وقلبي يتقطّع بحرقة نتيجة شعور فضيع بحكرة قاتلة أصبت إثر ذلك بصدمة نفسيّة رهيبة وارتفاع حادّ للضغط الدمويّ. قلت، مع ذلك، لا بأس لأنس الأمر فهو مزاج الشخص وهي المسطرة الطويلة في بلدي ليس إلاّ؛ 'واحنا موالفين زعما'! لامفرّ إذن من كشف دقيق وتحليل مركّز لمحتويات الكتاب من طرف هيئة متخصّصة في التحاليل العلمية حتّى يصدر السيد الآمر أمره المطاع بالسماح باستلام نسخ الكتاب. شعرت بأسوأ شيء يمكن أن يقع لي في حياتي. أصبحت مهرّبا ممتازا للأفكار! في اليوم الموالي، ذهبت إلى المديريّة الجهويّة لوزارة الثقافة بحثا عن الجهة المتخصّصة في تحليل هذا الدم، عفوا هذا الكتاب، المستورد، والذي عرف ميلاده في جامعة فاس وذهب إلى بيروت لكنّه لم يُسمح له بدخول أرض الوطن بعد أن حمل غلافا وختما يشير إلى أنّه جاء من بيروت (وبالمناسبة فالقيّمون على دار المشرق في بيروت أغلبهم مسيحيّون، وبعض الناس يعرفون مجلة المشرق الشهيرة). فلم أجد السيّد المدير ولا من ينوب عنه. لكن في الغد كنت محظوظا، استقبلني بحفاوة بعد أن قدّمت نفسي أستاذا بكلّية الآداب، لكن كان لا بدّ من انتظار يوم آخر حتّى يتسنّى لسعادة المدير، فيما خيّل لي، الاطّلاع على مدى صلاحيّة الكتاب 'المستورد' وربّما مدى ملاءمته للقوانين الوطنيّة ولعقيدة المغاربة. في اليوم الثالث وجدت سكرتيرة السيّد المدير منهمكة في تحرير طلب تسهيل مأموريّتي في استلام النسخ الموجودة عند الجمارك. أخبرني السيّد المدير اللطيف بأنّه يعشق القراءة وخزانته الشخصيّة غنيّة جدّا. وأنّه لم يفوّت قطّ الفرصة فقد قرأ صفحات كثيرة من كتابي ووصفه بالجيّد. شكرته كثيرا إذ يبدو أنّه قد قام بعمله على ما يرام وما عثر على أيّة شبهة شيعيّة أو غيرها في الكتاب ممّا قد يستدعي مصادرة السلعة المستوردة. كطفل صغير حصل على شيء ثمين، 'طِرت' بالشهادة إلى مكتب الجمارك. قلت في نفسي: أخيرا سأحرّر كتبي ووقتي وأتحرّر فأتفرّغ لأبحاثي بعيدا عن أعين العسس ودروس الجمركيّ وأسلوبه الوقح في تصريف أمزجته الشخصيّة عند تعامله مع المواطنين والاستهتار بمصالحهم. كانت مفاجأتي كبيرة، إذ، علاوة على الجمركيّ المسنّ الطيّب، وجدت شخصين آخرين في مكتب الجمارك في مقرّ بريد أمانة. قدّم لي أحدهما على أنّه "السيد المفتش 'ديالنا'". طلبوا منّي الجلوس فاعتذرت خوفا من درس آخر في علم المسطرة الطويلة. قلت: اسمحوا لي ليس لديّ وقت، فقد حصلت أخيرا على الترخيص الذي طلبتموه، أريد فقط أن أستلم نسخ الكتاب وأنصرف إلى أشغالي. ألحّوا عليّ في الجلوس ففهمت أنّ الأمر ليس كما اعتقدت. أخذ السيّد المفتّش الشهادة فراح يتفحّصها ويلتهمها التهاما بحثا عن أيّ شيء قد يبرّر به رفض عمليّة الاستلام، فتيقّنت، حتّى قبل أن ينطق، بأنّ مسطرة أخرى تنتظرني لكن عندما نطق استرسل، أوّلا، في درس نظريّ في المساطر. قاطعته بأدب: أرجوك أيّها السيّد المفتّش، ما تقوله جيّد ومفيد، لكن ألا تكفي هذه الشهادة لاستلام كتبي الآن؟ هكذا بدا أنّه فهم قصدي فأنا لا وقت لديّ للاستماع إلى محاضرة أخرى في الموضوع نفسه، فقد أخذت ما يكفي من العلم في هذا الفنّ العزيز منذ أيام على يد السيّد الأوردوناتور. فانتقل مباشرة إلى القسم العمليّ من الدرس فأفهمني أنّ الأمر يتعلّق لا بمسطرة واحدة وإنّما بمساطر كثيرة وأنّ عليّ إحضار وثائق أخرى بدءا بعقد الاتّفاق وكلّ الوثائق البنكيّة التي سدّدت بها تكاليف طبع الكتاب في بيروت وكذا تكلفة نقل الكتب حتّى يحدّدوا قيمة الضريبة الماليّة التي عليّ أداؤها، ثمّ عليّ بعد ذلك أن أقدّم كلّ هذه الوثائق مصحوبة بطلب إلى السيّد المدير الجهويّ للجمارك فينظر في الملف فإذا استوفى كلّ الشروط يأمر بفكّ عقال كتابي. فهمت أنّ السيّد الآمر الناهي هو بالفعل آمر ناه في كلّ مكان قصدته وأنّ كتابي تمّت مصادرته لسبب مرتبط ربّما بمزاج السيّد الأوردوناتور. قلت: اسمحوا لي فأنا أشمّ حضور شخص آخر معنا في هذه القاعة، وأشعر أنّ السيد الآمر لم ينزل يده بعد عن هذه النازلة حتّى بعد أن طردني من مكتبه، فإذا كان مدير الثقافة قد كتب طلبا بتسهيل مأموريّتي معكم في استلام نسخ الكتاب، فإنّ رئيسكم يبدو أنّه طلب منكم استصعاب الأمر عليّ. قال لي السيد المفتّش: بلى، فأنت أسأت الأدب مع رئيسنا. قلت لا ياسيدي، رئيسك هو من أساء الأدب معي. قال: رئيسي رجل طيّب. قلت: أنا أيضا أزعم أنّي رجل طيّب. أنا ما نهرته ولا صحت في وجهه، بل هو من فعل وطردني من مكتبه كما لو أني شحّاذ قصدت بيته أطلب صدقة. قال لي زميله: هل تقدّمت بشكاية ما بالسيّد الآمر؟ قلت لا. فسكت. قلت في نفسي: تمنّيت من كلّ قلبي لو تعطوني هذه النسخ وأحاول أن أنسى الأمر، لكنّي الآن سأفعل. هكذا وبعد استنطاق طويل خلته دهرا انهالوا عليّ فيه بشتّى الأسئلة عن أصلي وفصلي وعلاقاتي، وتخصّصي، وكلفة طباعة الكتاب ومصاريف نقل النسخ من بيروت وهل أرسلت العملة من داخل المغرب أو من خارجه؟ وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة التافهة، وعندما بالغ السيّد المفتّش وزميله في إهانتي، انفعلت وصرخت في وجههما بأنّي أرفض أن أعامل بهذه الطريقة كما أرفض أن يعامل أيّ مواطن كذلك. أجابني السيّد المفتّش بغضب بأنّه هنا من أجل حماية أمن الدولة وحماية أمن العرش وأمن المواطنين. قلت: إلى هذه الدرجة يهدّد كتابي أمن الدولة وأمن العرش وأمن المواطنين؟ قلت في نفسي: 'العرش بزّاف عليك' وإنّك لا تحمي سوى أمن جيبك باسم العرش وباسم أمن الدولة، هذه هي حقيقتك وحقيقة كثيرين غيرك في بلدي للأسف. طلبت منه، جهرا هذه المرّة وبانفعال واضح، أن يعطيني على الأقلّ الوثيقة التي سلّمها لي المدير الجهويّ لوزارة لثقافة فرفض، بل وهدّدني وزميله بالضرب والاعتقال إذا ما استمرّ إلحاحي في طلب تلك الشهادة. فخرجت من مكتب الجمارك أجرّ معي صدمة نفسيّة أخرى وانهيارا عصبيّا وضغطا دمويّا حادّا كاد يودي بحياتي. هكذا احتُجزت نسخ كتابي واحتُجزت معها أيضا رخصة مديريّة الثقافة لتسهيل استلام هذه النسخ. ربّما احتاج السيّد المفتّش وزميليه إلى أخذ وقت كاف "للنظر" في الكتاب بحثا عن فيروس ما محتمل قد يكون استورد من بيروت حيث الشيعة والنصارى أو من بغداد العباسيّين زمن المعلّم الثاني أو حتّى من أثينا زمن المعلّم الأوّل رغم أنف شهادة رجل الثقافة الذي أفهمني أنّه اطّلع على صفحات كثيرة من الكتاب وأنّه ليس ثمّة مشكلة جمركيّة قد تمسّ الأمن الروحيّ للمغاربة. وهكذا قضيت أكثر من أسبوع وأنا أتنقّل بين مكتب الجمارك ومديريّتهم الجهويّة ومديريّة الثقافة علّني أجد أذنا وصوتا يحرّر كتابي ويحرّرني، وما وجدت. ذقت أصنافا من الإهانة والإذلال. لم يخطر ببالي يوما قطّ أن عليّ أن آخذ إذنا من أشخاص يشتغلون بمديريّة الجمارك كي أؤلّف كتابا يساير أمزجتهم وطباعهم. أيّها القارئ الكريم، يجب أن تضرب ألف حساب للقائمين على الجمارك المغربيّة قبل أن تفكّر في تأليف كتاب وتقديمه للنشر. إياك أن تغفل أيّها الكاتب عن استحضار الجمركيّ وأنت تسوّد الورقات، إيّاك أن تنفلت منك كلمة شيعة إلى سطر من سطورك، فالمسطرة وراءك بالمرصاد. والسيّد "المسطرة" سوف ينهرك ويعنّفك لا محالة بصوته الكئيب وبدروسه في علم المساطر الجمركيّة في موضوعات شتّى كالدم كما الكتاب على السواء فكلاهما سلعة مع فارق في الوزارة الوصيّة. فالوزارات مختلفة لكن السيّد الجمركيّ واحد. وللإشارة فإنّي أعرف زميلا لي في مدينة الرباط استلم كتبا ليست من تأليفه من دون أدنى سؤال أو مساطر وأنا أذاقوني أنواعا من عذاب الاستنطاق والمساطر والكتاب من تأليفي، فهل المسطرة هنا ليست هي المسطرة هناك؟ هل الرباط دولة ووجدة دولة أخرى؟ مجرّد سؤال آخر. اقترح عليّ أحد الأصدقاء اللجوء إلى مسؤول كبير يعرفه لكي يتدخّل في الأمر من أجل تحرير كتابي. فرفضت: أنا لست مضطرّا لأدقّ باب أيّ شخص، إذ المسألة في نهاية التحليل ليست شخصيّة. واجبي هنا التشهير بهذه السلوكات التي حوّلت الإدارات العموميّة إلى مزارات، يلزم القادم إليها أن يلقى مزاج صاحب المزار رائقا. متى سينتهي اصطدام المواطن الأعزل بأشخاص يحتمون وراء إدارة تمدّه بشتّى أنواع الحماية والدعم؟ متى سأقتنع بأنّي لا ألج مكتب فلان أو فلان وإنّما أقصد خدمة معيّنة أو مصلحة معيّنة لا يهمّ اسم رئيسها ولا مزاجه؟ أليس الأفضل والأرحم بمصالح المغاربة أن نضع في بعض الإدارات كائنات آليّة محايدة لا ترحم ولكنّها تنفذ برنامجا مسطّرا هو واجبها؟ لم لا تغدو مصالح بعض الإدارات مثلها مثل الشبابيك الأتوماتيكيّة؟ فما نهرتني هذه الآلات قطّ ولا أهانتني ولا ابتزّتني ولا خذلتني يوما. في جميع الأحوال، حتّى لا أُرمى بتهمة تحقير عمل الإدارة العموميّة، إنّي أقول وأعتقد أنّ لي الحقّ في أن أقول كفى استهتارا بمصالح المواطنين، كفى شخصنة للإدارة. فهي لجميع المغاربة وليست لأحد. *جامعة محمّد الأوّل، وجدة