مشاهدات في بادية الخليج اليومية السابعة تفضل، هذه أربع صور..قال صاحب أستوديو التصوير السريع عدوت قافلا من حيث أتيت..في المركز منحوني ورقة وصلت للتو من وزارة التعليم عليها خاتم الموافقة لي بالتدريس في السعودية .. باب جديد فتح لي وما علي إلا أن أقدم رجلي اليسرى عفوا اليمنى وأعبر عتبة هذا الباب متمتما : بسم الله مجراها ومراساها.. يا أنت تعال..الآن عليك الالتحاق بالملحق الثقافي السعودي.. قال الرجل ذو شعر الرأس الأشيب .. وصلت إلى الملحق الثقافي السعودي منهك القوى.. وضعت الملف أمام الرجل المغربي الملتحي الذي يقدم خدمة مجانية للسعوديين . خد يا سيدي، ها هو ذا ملفي .. قدم الملتحي ملفي بدوره إلى السيد المسؤول الذي نادى علي : يا أنت..تعال..مرحبا..أعندك جواز السفر؟ نعم.. غدا إن شاء الله عندك مقابلة مع أعضاء اللجنة..لا تنسَ..أحضر معك جواز السفر.. تهت بين ضجيج القاعة الصغيرة وأنا أبحث عن صديقي..أخيرا وجدته قابعا في زاوية من الغرفة يناقش ترتيبات السفر مع صديق آخر.. نور الدين..! مع السلامة صافي قبلوك ؟ حتى الآن نصف خطوة مرت بسلام..المقابلة مع أعضاء اللجنة غدا.. أية مقابلة يا أنت كلام فارغ..أسئلة الموجه السمين كلها تدور حول الفعل والفاعل والمفعول به..؟ لا تحمل هما..إنها مقابلة شكلية فقط .. وأنت..ماذا فعلت..؟ أنا خلاص..قضي الأمر.. وأين عينوك..؟ في مكةالمكرمة..لكن سمعنا أخبارا تقول بأنهم كذبوا علينا..لأن العمل سيكون في قرى ومداشر صحراوية بعيدة عن مكة . على كل حال مبروك السي نور الدين..ألف مبروك.. سلمت على صديقي ومضيت أحلم بسفر عبر الجو لم يكن يخطر على بالي..ركبت القطار المتجه إلى مراكش..جلست بالقرب من النافذة..عيناي تنظر إلى بعيد حيث الجبال تبدو سائرة معي جنبا إلى جنب وهي ترافقني رحلتي..والأشجار تتراقص على نغمات أحلامي الموؤودة في وطن أره يئدُ كل الأحلام الجميلة..أرى أمي ولا أرى شيئا..أسمع عجلات القطار تدك القضبان دكا..في إيقاع متناغم لا تنقصه سوى رقصات أجساد رجال ونساء أحواش.. لم تعد تفصلني عن الهناك إلا بضع ساعات..لأودع هذا الهنا الذي وصلت العلاقة بيني وبين حد الطلاق.. ...................... ها أنت يا أنت تمشي في منعرجات حيك القديم، آه يا مراكش آه!! لست أدري كيف أعبر عن تلك الفرحة التي تغمرني كلما رأيت عبر نافذة القطار تلك النخلات التي بقيت متناثرة هنا وهناك في مدخل المدينة. كلما بدا لي النخل وأنا على مقربة من المدينة تذكرت تلك الأغنية التي سمعتها مرة وأكثر وأنا صغير «يا مراكش يا وريدة بين النخيل» رغم كل القبح الذي يغشى العالم ستظلين جميلة وبهية يا مراكش..! دخلتُ الحي الذي يعرفني وأعرفه جيدا، لكن هذه المرة نبدو كلانا غريبين عن بعضنا.. كثيرون من أصحاب الطفولة هاجروا الحي..كل بطريقته الخاصة.. بعد يوم يا أنت ستلحق بهم ، ونحن صغار كان درب عرصة أوزال كله عائلة واحدة محصورا بين فرن في مدخل الدرب يعتبر كمركز الاستقبال .. فالرجل السمين المسؤول عن الفرن هو الذي يعطيك بكل دقة وتفصيل اسم ودار السيد أو السيدة التي تبحث عنها إن كنت غريبا . وفي المسجد الذي يتراآى للناظر في آخر الدرب بابه الخشبي البني الذي على قفله الحديدي من الطراز القديم تعلمنا فيه عند الفقيه السي عمر، نجلس على حصير ونردد سور القرآن بصوت عال وفرصتنا الوحيدة لكي نتخلص من الدرس هو أن نطلب من الفقيه السماح لنا بالخروج ونحن نضع يدنا على حجرنا علامة على أننا نريد التبول. لا نكلف أنفسنا عناء الذهاب إلى البيوت فنتبول على الحائط وبسرعة حتى لا يرانا أحد فينهرنا، ثم نعود بسرعة إلى المسجد لنواصل القراءة الجماعية لسورة من سور القرآن القصار، لا يكاد يأتي «الْعْلاَمْ» وهو أول وقت الظهر حتى يكون الجدار قد رش أسفله وتعفن حتى أن رائحته النتنة تزكم الأنوف من بعيد . دخلت باب المنزل المتهالك، كانت جدرانه متآكلة ومتهالكة يسكن تحت سقفه خمس أسر، كل أسرة تسكن بيتا، وفي وسط الدار توجد رمانة يتقاسم الجيران غلتها وقت الخريف، لكن إذا كانوا في نزاع حرمت الغلة على الجميع كبارا وصغارا، فتبقى فاكهة الرمان معلقة على الشجرة حتى تفسد، أما البئر فيوجد في ركن من المنزل وغالبا ما يتخاصم الجيران من أجل مساهمة نقدية تجمعها إحدى الجارات من أجل تجديد حبله أو دلوه . رغم كل الخلافات والمناوشات التي كانت تحصل أحيانا بين الجيران إلا أن الود والأسرة الواحدة كانت شعار تلك الأيام. الجارة فاطمة مالك رحمها الله كانت امرأة عنيفة المزاج، غريبة الأطوار وزاد من حدة مزاجها عدم إنجابها لأطفال، قضت أيامها كما كانت تحكي لنا في شيئين: مقاومة الاستعمار واللعب والمرح، وأنت تستمع إليها تحس وكأنك أمام امرأة غير عادية، فهي تمثل مرحلة تاريخية تشهد على فترة من تاريخ المغرب . حكت لي مرات عديدة عن مغامراتها وهي تحمل السلاح في ربطة النعناع أو في كيس النخالة لتسلمه للمقاومين في أزقة مراكش برياض العروس والقصور والمواسين وغيرها من دروب مراكش وأزقتها . وكيف أن جنود المستعمر مرة قصدوا بيتها على بغتة حيث أن وشاية وصلتهم بأن السلاح في بيتها، ولما أحست بقدومهم وبسرعة نفشت شعر رأسها، ومزقت ثيابها على صدرها وصارت تمثل دور امرأة حمقاء تمزج بين الكلام والضحك مع نفسها...بدت لهم وكأنها مجنونة فعلا. دخلت العساكر الفرنسية والسينغالية بعد أن أزالوا الباب الخشبي من مكانه إذا بهم يواجهون امرأة غريبة الأطوار، وهي تتقمص دورا ولا أروع على خشبة مسرح الواقع والحقيقة وأمام جمهور غبي. نجحت مسرحية المرأة التي لم تدرس أبجديات المسرح في مدرسة أو معهد، ما أكثر مغامرات هده المرأة وما أروعها! . ها أنت يا أنت ترى الدار الآن خرابا.. وفاطمة بنت مالك ماتت دون أن يتذكرها أحد، وظهر بعدها كما كانت تقول : مقاومون بالصدفة لا يجيدون إلى الكذب والبهتان، كل الجيران الدين عهدتهم في هذه الدار أيام الصبا رحلوا.. أو ماتوا، وحدها زوجة ابن صاحب الدارالجديدة استولت على بيوتاتها ، فمنذ أن سكنت عائشة كما يزعم الجيران بدأ الشتات والفراق بين الجيران ، حتى أنهم كانوا يلقبونها أحيانا بعيشة قنديشة أو البومة. كان بيتها في بداية زواجها يوجد في الطابق العلوي مقابلة للبيت الذي نسكنه، وكنت أراها دائمة البخور، بخور من نوع خاص رائحته مقرفة للغاية، يغلق الجيران أبواب بيوتهم لكن أمام طول المدة وهم على هده الحال كان الجيران يفقدون صبرهم فيصحون: أللا عيشة باراكة علينا من هاد الويل ديالك راه عندنا الدراري صغار عافاك . وأنا أفتح باب الدرج المؤدي إلى غرفتي كالعادة أجد على عتبة الباب خزعبلات ماء ملوث بول عفن أتخطاه وأمر. كنت أعرف بأنها مكائدُ عائشة، مند توفيت والدتي وهي تريدني أن أرحل وأترك لهم البيت، فأنا الوحيد الذي بقيت بعد أن توفيت أمي، فاطمة مالك هي الأخرى توفيت وللا زهور عند إحدى بناتها والروضي جارنا في الأسفل اشترى له سكنا ورحل مع أولاده . عائشة الآن تريد أن تصبح هي سيدة الدار، كنت دائما أستحضر دلك المثل من فاطمة مالك الذي كانت تقوله للجيران سوف أن أترك لكم شيئا تترحمون علي به إلا كلامي وحكمي، كانت تقول رحمها الله : الدار بسكانها ماشي بحيطانها . لا عليك يا أنت..! تخط العتبة ومر لن يصيبك شيء، وقفت على السطح أتأمل تلك الغرفة المتهالكة والتراب المترامي على أرضها وبعض الحشرات الصغيرة هنا وهناك سقطت دمعة حرانة على خدي، تذكرت أمي التي تعبت من أجلنا وهي ترعانا داخل هدا العش الصغير، ماتت أختها وتركت لها ولدا تربيه هو الآن في فرنسا ، وأخوها الوحيد تاه في أرض الله وترك لها ابنه لتربيته، ومات والدي وترك لها ابنه من امرأة أخرى لكي تربيه وبعد أن طال تقوتت أجنحتهم وطال ريشها تنكروا لها جميعا.. أكفكف دمعي و أقول: سامحيهم يا أمي..! جميع أنواع الأسلحة والدمار الشامل منتظرة ومتوقعة من غريب كل أنواع التعذيب والقتل والفتك هينة أمام كلمة قاسية أو نظرة متوحشة من قريب. وظلم دوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند. لا عليك يا أنت ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود ترجل يا أنت ...! تقدم...وافتح باب الغرفة المتهالكة.