مشاهدات في بادية الخليج زارني العراقي المسعودي في المكتب ليتصل بباريس، حيث كان يعمل هناك مراسلا للإذاعة العراقية. ومهتما بالسينما في نفس الوقت، ناولته سماعة الهاتف بأدب، أعجب بحديثي معه وأعجبت بأسلوبه وطريقة كلامه ولكنته العراقية، هناك أناس تحبهم قبل أن تتحدث إليهم، فقط لما تراهم تحس بأن قوة كأنها المغناطيس تجذبك إليهم، وهم كذلك ربما .!! إيه ..يا أنت .. هلا .. هل وصل أحد من الفنانين المصريين ..؟ لا ليس بعد، لكن مدير المهرجان لا زال في اتصالات ماراطونية معهم. ابتسم المسعودي ابتسامة خفيفة وقال: بيني وبينك، لا أحد منهم راح يجي . ولم؟ أنت لا تعرف حرب المهرجانات، إنها في الظاهر حروب كلام، لكنها في العمق أعنف من حروب القذائف والدبابات. إلى هدا الحد.. ؟ قلت في استغراب وأكثر! قال المسعودي .. زيادة على ذلك مدير المهرجان.. ومعذرة حتى وإن كان مغربيا، له عداوات كثيرة في مصر إضافة إلى هذا وذاك إخواننا في مصر لهم أسلوب تعامل خاص مع المهرجانات ومديري المهرجانات.. المسألة كلها لعب في لعب.. ولكي تجيد اللعب عليك أن تعرف قوانين اللعبة التي ستلعبها. لاحظ المسعودي وأنا أصغي إليه اهتمامي بما يقول فربت على كتفي وقال : لا تستغرب يا أنت.. ستعرف أكثر عن المهرجانات لما تكبر أنا عادة ما أسميها تهريجات وليست مهرجانات .. ضحك ضحكة خفيفة وبادرني بالسؤال : ما اسمك؟ اسمي أنا...؟ وأنا هو أنا.. يا أنت..! رقم غرفتي سبعة وعشرون إذا كان معك وقت اتصل بي هاتفيا من مركز الاستقبال.. كي نشرب فنجان قهوة في مقهى الفندق، أنت مراكشي ..؟ أجل..! أنا مراكشي أريدك أن تحدثني عن مراكش .. فأنا أزورها لأول مرة .. حاضر.. بكل فرح شكرا .. إلى اللقاء وصل المسعودي إلى باب المكتب وقبل أن يغادره التفت إلي معقبا: يا أنت ..! كن متأكدا.. لن يأتي من الفنانين المصريين إلى قليل منهم .. هذا إن لم يخلفوا الموعد جميعهم .... ركبت القطار وأنا أودع مراكش البهجة، وكأني أول مرة أرى نخلاتها العاليات، لقد أكسبها النخل بهاء وسحرا قل نظيرهما، لكن تداعيات الحضارة الناقمة والمدنية الزائفة والعولمة المتوحشة بدأت تحرمها هذه النعمة. كيف ستصبحين يا مراكش غدا أو بعد غد وأنت تفرطين في حللك الزاهية..؟ ومن أنت من غير أسوارك وزيتونك وصهاريجك ونخلاتك..؟ تلك النخلات التي تأخرنا أو تغيبنا عن الدرس كثيرا بسببها.. كنا نذهب إلى « عرصة مولاي عبد السلام» كي نتبارى من سيسقط أكبر قدر من البلح من أعلى النخلات الشاهقات .. وكم كان منظر الحجر جميلا في نفوسنا وهو يصيب أكوام التمر المعلقة في عرجون النخل لتسقط تباعا كأنها المطر أو حبات البرد محدثة نغمة موسيقية قل نظيرها وهي تستقبل الأرض ..! إلى الآن لست أدري كنه العلاقة بين اللذة واللعب، يومها كنا نجد في التمر المتساقط على تراب الأرض لذة لا توصف، رغم أن شراء كيلوغرام من البلح كان كافيا لإشباعنا، لكن هل يقاس بلح العالم أو تمره ببلحة أو تمرة واحدة من إحدى نخلات الحمراء..؟ أن تعشق مدينة كأنك تعشق امرأة قد تتغاضى عن زلاتها، وتغفر لها ذنوبها لأجل ميزة واحدة أحببتها فيها. ها أنت يا أنتَ تودع البنايات الحمراء وتذوب في أحزانك وكأنك تفارق أمك التي غيها الموت عنك، من الآن عليك أن تكتفي بتشغيل ذاكرتك لتستعيد حتى التافه من تلك الذكريات البسيطة، حتى الأشياء و الجزئيات التي كانت تبدو لك بلا قيمة يومئذ سيكون لها بعد الآن وقع خاص ونكهة لا توصف . كنتُ في عالمي الخاص لا أعرفُ أين أنا ولا من يجلس بجانبي.. ولمَّا صحوت من غفوتي، وعاد إلي صوابي سمعت لغطا في مقصورة القطار ، نساء ورجال لم أعلم متى كان جلوسهم بالقرب مني ..؟ ولا من أية محطة ركبوا القطار؟ حوار بينهم كأنه خصام، رغما عنك تسمع أقاصيص جلسائك.. كنت أتساءل مع نفسي : لماذا نحن في هذا البلد، نبوح لأول إنسان نلتقيه صدفة أمامنا ويجاذبنا أطراف الحديث بكل ما في دواخل صدورنا .. وبسرعة ننشر غسيلنا بأوساخه أمامه وأمام الملأ ..!! دوما أردد مع نفسي ما هو التغيير الذي ترفعه الحكومات عندنا كشعارات جوفاء إن لم يغير الناس من سلوكهم المقيت هذا ، لماذا تربط الحكومات التقدم والتغيير والديمقراطية والعدالة و...و.. ببناء الطرق والسدود ومعامل التصدير والموضة وأدوات الاستهلاك في حين تغفل كليا عن تغيير الأفكار والسلوك ؟ ما قيمة أسرع قطار في العالم إن كان ركابه لا يميزون بين الحوار والخصام؟ وما أهمية أطول شارع تمر منه وكله نفايات وأوساخ وحفر كأنها خنادق بنيت عنوة لخداع العدووسقوطه في الفخ..عفوا الحفر .؟ وما قيمة الفيلات التي تحرسها الكلاب السمينة وتقف أمام أبوابها أرفع موديلات السيارات الحديثة المستوردة وسكان هذه الفيلات أسر مشتتة لا هي غربية ولا هي شرقية، فيلات فخمة تطل شُرفاتُها على دور الصفيح الشاهدة على عولمة النفاق بين الحاكمين والمحكومين.. أسئلة كثيرة كنت أطرحها على نفسي ولا أجد لها جوابا. .... هاهي ذي محطة الرباطالمدينة، حشدٌ من الناس، وأنا بينهم أصعد الدرج لأستقبل صباح مدينة أخرى لها نكهة أخرى، لم أكن أعرف فيها سوى شارعها الطويل ومقهى « باليما» التي تبدو كأنها سيدة عجوز تجلس وجها لوجه قبالة قبة البرلمان . تلك البناية الواسعة التي كنت أخجل من نفسي حين أراها على شاشة التلفاز بكل تلك الرحابة الواسعة وكثرة الكراسي المتراصة بينما يجلس فيها بضعة أشخاص متناثرين هنا وهناك.. وعلى الكراسي الأمامية يجلس وزير أو وزيران أو ثلاثة يجاوبون على جميع الوزارات والاختصاصات وعلى المنصة يجلس السيد الرئيس أو نائبه، يدق بمطرقته التي كانت تنزل على رؤوس أبناء الشعب ليل نهار، فتدك عقولهم وسواعدهم دكا. كان التلفاز المحترم ينقل بعضا من تلك المشاهد، أسئلة تطرح من هنا لدِّر الرماد في العيون، وجواب متهالك ومتآمر من هناك، والسيد الرئيس على كرسيه الدوار عارف وشاهد على قواعد اللعبة بكاملها، برلمانيون غارقون في الضحك وآخرون في حوار تافه ومتهافت .. مسرحيات صالتها قبة البرلمان والممثلون هم الرعايا .. والمخرجون حَدِّثْ ولا حرج.. الجميع يشترك في لعبة محبوكة شارك في حبك أدوارها الجميع . منذ ذلك اليوم صارت مقهى «باليما» هي الفضاء المفضل عندي لأنها تسمح لي كلما جلست فيها باستحضار كل تلك الشعارات البراقة الخداعة ، كما أنها تمنح لي فرصة الفرجة على تلك البناية الحديثة، وتلك الجدران المطلية بلون يشبه تعاسة المواطنين الذين بني من أجلهم. جدران لو نطقت لملئت من كلامها رعبا . جدران تشهد على زيف الماضي ونفاق الحاضر، وعلى الذين ماتوا والذين استشهدوا والذين قتلوا والذين عذبوا والذين لازالوا على قيد الحياة بقوة عزيز قوي مقتدر. ها أنت يا أنت في قاعة الاستقبال بالملحق الثقافي السعودي، تكاد لا تعثر على نفسك وسط الزحام والضجيج ، الجميع يتكلم، لا أحد ينصت أو يصغي للآخر، ترى وجهين أو وجوه متقابلة مع بعضها ، الشفاه تتحرك في نفس الآن، لا تعرف من يتكلم منها ومن يستمع ..؟ إن كان هذا حال الأساتذة المتعلمين المتنورين فكيف يكون حال العامة من الناس في هذا البلد..؟! أساتذة ومدرسون قادمون من أقصى جهات المملكة.. عيونهم تائهة من قلة النوم وأجسادهم منهكة من عناء السفر. قال الرجل ذو اللحية المسدلة : هل أتيت بجواز السفر يا أنت ..؟ نعم.. هذا هو . جهز ملفك بسرعة واذهب إلى السيد الجالس هناك. ماذا بقي لي إذن؟ المقابلة الشفوية مع السيد المسؤول فقط، إنها ضرورية، وهي جواز المرور بالنسبة لك . اليومية الحادية عشر