هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مساهمة في مناقشه أطروحات المؤتمر الوطني التاسع لحزب التقدم والاشتراكية
نشر في بيان اليوم يوم 16 - 05 - 2014

تميز التجربة المغربية في الحراك الديمقراطي العربي والمغاربي
ينعقد المؤتمر الوطني التاسع لحزب التقدم والاشتراكية في ظل وضعية سياسية جديدة وطنيا وبعد تحولات كبرى في المنطقة العربية والمغاربية، وما ترتب عنها من تفاعلات اجتماعية وسياسية تسائل الحزب فكريا وسياسيا، وتدعوه إلى تحليلها واستخلاص الخلاصات الضرورية لبلورة خط سياسي يستوعب هذه التحولات ويواكبها، انطلاقا من قناعاته المبدئية وأدواته التحليلية، ومقاربته التي مكنتهّ،عبر تاريخه، من استيعاب حركة المجتمع والتاريخ والتأثير إيجابا في المنحى العام للتطور السياسي لبلدنا... إن الوضعية السياسية الجديدة تطرح سؤال مدى تحقق الشعارات المركزية للمؤتمر الوطني الثامن للحزب والتي لخصت برنامجه السياسي المرحلي وعلى رأسها شعار «التعاقد السياسي الجديد» لمغرب الجيل الجديد من الإصلاحات والممارسة السياسية السليمة...
لقد أدى التفاعل السريع والإيجابي مع الحراك العام (إقليميا ووطنيا) للمغرب بكل مكوناته، وعلى رأسها المؤسسة الملكية، إلى بلورة دستور جديد متقدم أعتبره بمثابة تعاقد بين كل مكونات الأمة المغربية، وانتقلنا من تعاقد ضمني سماه الحزب في مرحلة سابقة ب «التوافق التاريخي»، والذي اعتبر المؤتمر الوطني الثامن أنه استنفذ مهامه، إلى تعاقد مكتوب تجسده الوثيقة الدستورية بعد حوار وطني ساهمت فيه كل القوى الفاعلة، سياسية ونقابية وجمعوية، تمخض عنه دستور ساهمت في بلورة توجهاته وصياغته كل مكونات الأمة وأقره الشعب المغربي بشبه إجماع، مما يجعل من الوثيقة الدستورية، في نظري، «تعاقدا سياسيا جديدا» تتضمن، إضافة إلى أهم المطالب الدستورية للحركة الديمقراطية والتقدمية ببلدنا، تحديدا متوافقا عليه للهوية الوطنية وترسيخا لمكاسب الشعب المغربي في مجال الديمقراطية والحريات، وضمانا للحقوق الأساسية للمواطن، والأوراش الإصلاحية الوطنية الكبرى، وتحديدا متقدما للممارسة السياسية، وهو ما يمكن اعتباره استجابة، نظريا، لأحدى أطروحات المؤتمر الوطني الثامن المتعلقة بضرورة حياة سياسية سليمة. غير أن الاستجابة «النظرية» لأهم أطروحات مؤتمرنا الثامن تفرض معارك سياسية متواصلة للانتقال من الإقرار المبدئي إلى الإقرار الفعلي في الحياة العامة، وهي المعارك التي يقوم فيها حزب التقدم والاشتراكية بدور فعال ورائد...
إن المهام المرحلية المطروحة على القوى الحية، وعلى حزب التقدم والاشتراكية، تتلخص في احترام هذا التعاقد السياسي الجديد الذي تتضمنه الوثيقة الدستورية، وتطبيق مضامينه الإيجابية والمتقدمة، سواء ما يتعلق منها بإتمام الوثيقة الدستورية عبر القوانين التنظيمية، أو ما يتعلق بالحقوق الأساسية، أو الإصلاحات الكبرى، أو إرساء حياة سياسية سليمة ضابطها الوحيد الدستور والقانون والمصالح العليا للوطن والشعب.
ويتعين على حزب التقدم والاشتراكية تحديدا العمل، في المرحلة الراهنة، على كل واجهات النضال السياسي وداخل المؤسسات الدستورية على تمكين أوسع الجماهير من الحقوق الأساسية التي تتضمنها الوثيقة الدستورية من جهة وتعميق التوجه الاجتماعي في السياسات العمومية لإقرار الديمقراطية بمعناها الشمولي (سياسية، اجتماعية، ثقافية....) والعدالة الاجتماعية، والدفاع، من أي موقع يتواجد فيه، على مصالح الطبقات الكادحة وحقوقها وطموحاتها، ومواجهة كل الانحرافات، الواردة دائما، لإفراغ الوثيقة الدستورية من مضامينها المتقدمة، ومواجهة أي تشويه للحياة السياسية أو تبخيس للعمل السياسي الجدي والمسؤول.
ورغم ما تتضمنه الوثيقة الدستورية من حقوق للطبقات التي يدافع عليها الحزب فإن نضاله السياسي مرتبط وموجه بهويته الطبقية والفكرية والسياسية وأفقه الاشتراكي، مع التأكيد أن الصراع السياسي هو واجهة للصراع الطبقي وصراع مصالح طبقية وفئوية، وفي هذا الصراع هناك حاجة إلى حلفاء بناء على تحديد التناقض الرئيس والمهام المطروحة في كل مرحلة.
ولكون التحولات الهامة والتاريخية التي عرفتها بلادنا منذ المؤتمر الوطني الثامن مرتبطة بالحراك العام الذي عرفته المنطقة العربية والمغاربية وتمت في إطاره، كان لزاما على الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني التاسع قراءة أسباب هذا الحراك ونتائجه ومساراته وأفقه، لموضعة وضعنا السياسي الوطني الجديد ومميزاته المرحلية، وموقع الحزب ودوره ومهامه، بارتباط مع هويته وبرنامجه، لترسيخ المكتسبات، وتطبيق مضامين الوثيقة الدستورية، وإقرار مجتمع الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة..
وتتضمن الوثيقة إضافة لذلك، تحليلا للوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحقوقي، ومقترحات الحزب وبدائله التقدمية. كما تبقى القضية الوطنية وما يرتبط بها من عمل دبلوماسي في صلب اهتمامات الحزب. وتحدد الوثيقة السياسية قراءة حزب التقدم و الاشتراكية للوضع الدولي ومواقفه من مجمل القضايا المطروحة على الساحة الدولية.
في هذه الورقة لن أورد مجمل التحاليل التي قدمتها الوثيقة السياسية التي أشاطرها، وبل أود تقديم بعض الإضافات على سبيل تأكيد المقاربة العامة للحزب من بعض القضايا التي عالجها مشروع الوثيقة السياسية.
التحولات الكبرى
في المجالين العربي والمغاربي
قدم مشروع الوثيقة السياسية تحليلا دقيقا لأسباب هذه التحولات ونتائجها ومساراتها المتمايزة، ومن خلاصات الوثيقة في هذا المجال أن مسارات الحراك رغم اختلافاتها فإن ما يجمع بينها هو التوق إلى الحرية والديمقراطية والكرامة، إن ما هو عام هو هذا الطموح الذي يتجسد في الخاص أي في كل بلد حسب خصوصياته.
وتورد الوثيقة نتائج هذا الحراك على المستوى السياسي وعلى مستوى الوعي الشعبي، ومن هذه النتائج التي أريد التوقف عندها ظهور تمايز داخل ما يسمى ب «الإسلام السياسي» بين توجهات تقبل بالعمل السياسي في إطار المشروعية الديمقراطية وأخرى نكوصية وإرهابية وإقصائية، ولا يمكن وضعها جميعا في نفس السلة والتعامل معها بذات الطريقة، ويمكن أن أضيف إلى النتائج التي أوردتها الوثيقة نتائج يمكن إدراجها ضمن مجال الفكر:
فعلى المستوى الفكري تنامت دعوات الحوار بين الإسلام والعلمانية، والإسلام السياسي المعتدل واليسار. ففي إطار مخاض التحولات، الذي مازال مستمرا، برزت مقاربتان متناقضتان، الأولى مقاربة إقصائية واستئصالية هي استمرار لما كان سائدا قبل الربيع الديمقراطي العربي والمغاربي، سواء من طرف متطرفي الإسلام السياسي الذين يعتبرون خصومهم العلمانيين واليساريين ملاحدة وخارج المجتمع الإسلامي أو من قبل المتطرفين من العلمانيين واليسار الذين يعتبرون كل ما ينتمي للإسلام السياسي رجعيا وظلاميا وخارج العصر الحديث، والثانية مقاربة توافقية تعتبر الإسلام السياسي واقعا لا يرتفع وفاعلا في الوضع الاجتماعي والسياسي، وهو ليس كلا منسجما، وأن من ضمنه تيارات قابلة للحوار والتوافق على القواعد العامة، أساسها الديمقراطية وحق الاختلاف، مع وجود توجه للبحث عن القواسم المشتركة بين الإسلام السياسي ذي النزعة الاحتجاجية والاصطفاف بجانب المستضعفين وبين اليسار بشكل خاص المعبر، مبدئيا، عن قضايا أوسع للجماهير...
هذا الحوار بدأت تشهده منتديات فكرية في بلدان مختلفة، وكلل بالنجاح على المستوى السياسي في تونس. وكان حزب التقدم والاشتراكية سباقا لهذه المقاربة من خلال تلاقي موضوعي حول قضايا سياسية مرحلية مع حزب العدالة والتنمية. وجدير بالذكر أن الحزب كان سباقا، بذكائه السياسي الجماعي وحسه التاريخي، حول قضايا أخرى مثل الموقف من الدين في ستينات القرن الماضي، والمسلسل الديمقراطي خلال السبعينات، والتوافق التاريخي خلال التسعينات، وقد أكد التاريخ صواب تحاليل الحزب ومواقفه رغم ردود الفعل المعادية في حينه، وتحمل الحزب معارك إيديولوجية وسياسية، حادة أحيانا، خاضها بكل اقتناع وبدون خضوع لأي إملاء فكري أو سياسي من خارجه. وعلى الحزب اليوم تعميق تفكيره بخصوص ظاهرة الإسلام السياسي عامة والتوجه المعتدل داخله بالخصوص، والسعي نحو حوار فكري واسع للتمكن من استيعاب أفضل، ومن قدرة أكبر على التأثير على مسار التطور الفكري والسياسي لدى الحركات الإسلامية كما تيارات اليسار والتوجه العلماني المعتدل.
التجربة المغربية بين العام والخاص
ضمن الإطار العام للحراك العربي والمغاربي، المحلل بتفصيل في مشروع الوثيقة وبارتباط مع هذا الحراك، حدثت التحولات الهامة التي عرفتها بلادنا في السنوات الثلاث الأخيرة. لم يشكل المغرب استثناء في هذا الحراك، فقد وصلت رياحه إلى الشارع المغربي، وكانت حركة 20 فبراير إحدى تعبيراته القوية، غير أن الحراك المغربي كان متميزا سواء من حيث شكله أو مضمونه أو مساره.
فقد تميز الحراك المغربي بطابعه السلمي وبشعاراته الإصلاحية، ولم يضع النظام السياسي، في المجمل، موضع سؤال، وعبرت مطالب الشارع عن الرغبة في الإصلاح، ورفع شعار «ارحل» في وجه الفساد السياسي والاقتصادي والمالي، والمطالبة بالديمقراطية، ودستور متقدم، والعدالة الاجتماعية والكرامة. وهي مطالب تقاطعت مع ما كانت تطرحه القوى السياسية الديمقراطية وكل القوى الإصلاحية، سياسية واجتماعية، ومع ما طالبت به الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني الثامن لحزب التقدم والاشتراكية من تعديلات دستورية، وجيل جديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإرساء حياة سياسية سليمة.
ورغم عدم أو ضعف تفاعل القوى السياسية الديمقراطية مع حركة الشارع على مستوى الشكل، فعلى مستوى المضمون كان التوجه العام هو دعم مطالب الإصلاح. هذا التفاعل الإيجابي مع مطالب الإصلاح بلغ مداه مع خطاب 9 مارس التاريخي لجلالة الملك، باعتباره معبرا عن إرادة الأمة جمعاء، وهو الخطاب الذي وجه المسار المغربي في اتجاه إيجابي وصنع تميزه، بل ريادته.
ففي الوقت الذي اختار فيه النظام التونسي السابق وأنظمة في المشرق العربي مواجهة حركة الشارع السلمية المطالبة بالتغيير والإصلاح بالقمع المسلح وإخراج الدبابات، أخرج ملك المغرب خطاب 9 مارس 2011 للتفاعل مع الحراك ومطالبه الرئيسية، متضمنا لورقة إصلاحية شاملة، وخارطة طريق للمسار المغربي. وانطلق بعد الخطاب حوار وطني واسع توج بدستور متوافق عليه وتمت بلورة مضامينه بشكل جماعي واعتمادا على المضامين المتقدمة للخطاب الملكي يوم 9 مارس، وتمت صياغته بمساهمة كل القوى الوطنية الفاعلة، سياسية ونقابية وجمعوية، وهي صيغة جديدة متميزة ومبتكرة قطعت مع صيغة الدساتير الممنوحة التي كان معمولا بها في السابق، وكانت تلك إشارة قوية للانتقال إلى توافق تاريخي جديد..
وتلت إقرار الدستور باستفتاء شعبي وبشبه إجماع انتخابات سابقة لأوانها، هي الأقل سوء في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية في المغرب، وبوأت حزب العدالة والتنمية المعارض صدارة النتائج، كدليل ملموس على تعبير النتائج، إجمالا، على حقيقة الخريطة السياسية للبلاد، وهو مؤشر آخر للتفاعل الإيجابي مع مطالب الإصلاح.
إن هذه التجربة السياسية المتميزة ساهمت بقوة في صناعة تميز المسار المغربي في إطار الحراك العربي والمغاربي، وهي تجربة نالت تتبعا وترحيبا دوليا قويا، بل اعتبرتها أوساط دولية عديدة تجربة رائدة جديرة بالاقتداء، في محيط إقليمي يطبعه، عموما، العنف واللاستقرار.
إن التجربة المغربية المتميزة ليست تجربة حزب أو ائتلاف حزبي بل تجربة وطنية جديرة بالدعم من طرف كل القوى الديمقراطية دون اعتبار لحساب الربح والخسارة الحزبي الضيق، لأن الوطن هو الرابح من نجاحها أولا ثم القوى الديمقراطية ومجموع الشعب. مع الإشارة إلى أن المعارضة البناءة والمسؤولة هي دعم غير مباشر ومن موقع آخر وإسهام في إنجاح تجربة لا معنى لها بدون معارضة ديمقراطية اقتراحيه، يقظة، واقفة في وجه أي إمكانية للانحراف الوارد دائما في العمل السياسي.غير أنه لا بد من التنبيه في ذات الآن إلى خطورة استحضار الحسابات الحزبية الصغيرة على حساب المصلحة الوطنية العظمى، وخطورة إفشال تجربة هي وطنية في نهاية المطاف، والخاسر في حالة فشلها هو الوطن برمته.
إن التجربة المغربية هي تجسيد خاص لما هو عام المتمثل في تحولات شاملة في المنطقة العربية والمغاربية، وفي إرادة التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. المغرب ليس استثناء ولا يمكن له أن يكون لأنه غير معزول عن محيطه العام والإقليمي، ولأن الإصلاح كان مطروحا بقوة كضرورة وطنية. وقد عبرت الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني الثامن لحزب التقدم والاشتراكية بوضوح عن ذلك عندما رفعت شعار «جيل جديد من الإصلاحات « ودققت مضامينه الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...
فأطروحة الاستثناء المغربي بينت على لاواقعيتها وعن فشلها سابقا وخلال أحداث 16 ماي الإرهابية ... لقد كان حزب التقدم والاشتراكية قبل هذا الحادث الدموي ينبه إلى أن المغرب ليس بمنأى عن خطر الإرهاب بناء على تحليل استباقي وبعد نظر يميز الحزب منذ عقود، غير أن تنبيهات الحزب ووجهت بأطروحة الاستثناء المغربي، وحدثت الصدمة التي نبهت الجميع إلى تهافت هذه الأطروحة...
وإذا كان المغرب لا يشكل استثناء بالمنطقة فإنه يشكل تميزا في مساره السياسي، في الماضي والحاضر، وهذا أمر طبيعي وسمة ليست استثنائية ولا خاصية مطلقة لبلدنا، فمسارات التحولات الاجتماعية والسياسية متمايزة، بناء على المعطيات السياسية والسوسيولوجية والحضارية لكل بلد. ومعطياتنا الوطنية الخاصة أنتجت خصوصية وتميز تجربتنا الوطنية.
ومن أسباب تميز التجربة المغربية في الوضعية الراهنة ما راكمه المسار السياسي لبلدنا من تجارب، على رأسها انطلاق المسلسل الديمقراطي منذ سنة 1975، والاعتراف المبكر بالتعددية الحزبية بل ومنع الحزب الواحد منذ أول دستور للمملكة، ووجود حياة نقابية تعددية وفاعلة، وتعابير اجتماعية مختلفة ضمن حركة المجتمع المدني، وتعدد المنابر الإعلامية، ووجود تجارب انتخابية مهما كانت الخروقات والنواقص فإنها مكنت من تمثيلية قوى سياسية مختلفة في مجالس منتخبة محليا ووطنيا ومن المساهمة في تدبير الشأن العام المحلي ثم الوطني، ووجود مؤسسات دستورية نشيطة، رغم كل المآخذ، تحقق نجاحات، وإخفاقات تكون موضع نقاش وطني يؤدي إلى تحسين تدريجي لأدائها... إضافة إلى ذلك فثقافة الاحتجاج السلمي والمنظم ليست غريبة ولا مستجدة في الحياة العامة الوطنية. كل ذلك مكن، باستمرار، قوى المجتمع من التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة، وتمكنت أحيانا من تحقيق مطالب ومكاسب لا يستهان بها، سياسية واجتماعية وثقافية، مما أدى إلى عدم بلوغ الاحتقان إلى مداه الأقصى، كما حدث في بلدان أخرى، وأدى إلى أن يكون المسار المغربي غير منفصل عما تراكم طيلة عقود من النضال السياسي والاجتماعي، بل استمرار، وإن بشكل نوعي، لمجموع التحولات الكمية التي حصلت طيلة عقود، وتم الإصلاح في إطار الاستمرارية والاستقرار.
والعنصر الأساسي الذي أدى إلى إصلاح بدون تكلفة كبرى على مستوى استقرار البلاد السياسي والاجتماعي، وجود إجماع على النظام السياسي المتمثل في الملكية رغم وجود مطالب إصلاحية على مستوى موقعها الدستوري، خاصة ما يتعلق بالصلاحيات التنفيذية، ووجود توجه متوافق عليه للسير في أفق الملكية البرلمانية.. غير أن جوهر النظام وأسسه الشرعية، والقناعة السائدة لكون الملكية موحدة للأمة وتعبيرا عن سيادتها وإرادتها العامة، لم يكن هو موضع سؤال جدي، سواء قبل 2011 أو بعده خلال مناقشة الإصلاحات الدستورية لبلورة الدستور الجديد... ينضاف إلى ذلك أن الملكية في المغرب عبر التاريخ تتجاوب، في اللحظات الحاسمة، مع إرادة الأمة، والتعديلات الدستورية لسنتي 1992 و1996 تعبر عن هذا المنحى للنظام الملكي في المغرب، وتأكد ذلك بشكل واضح في الخطاب الملكي في 9 مارس 2011.
كل هذه المعطيات غيبت شعار «إسقاط النظام» في الحراك المغربي، ما عدا استثناءات محدودة وغير ذات أهمية على مستوى التأثير على مسار الحراك ومسار التجربة، وحمت بلادنا من الانزلاق نحو الصراعات الدموية والأفق المجهول، مثلما حصل في بلدان أخرى، ومكنتها من مسار سلمي يضمن الاستقرار والإصلاح في الآن ذاته.
التجربة الحكومية الجديدة بين إرادة الإصلاح وعوائقه
أدت المعالجة الهادئة والمتبصرة لتأثيرات وتفاعلات الحراك العربي والمغاربي، خاصة المبادرة الملكية الحاسمة لكن أيضا انخراط قوى سياسية فاعلة في حراك ذي طبيعة سياسية من خلال التفاعل والترحيب بالمبادرة وإطلاق نقاش وحوار وطني حول محاور الإصلاح ساهم فيه حزب التقدم والاشتراكية بقوة (ملتقيات الربيع الديمقراطي)؛ أدت هذه المعالجة إلى الشروع، دون أي تبديد للزمن، في بلورة دستور توافقي، تلته انتخابات سابقة لأوانها وتشكيل حكومة يرأسها الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات تطبيقا لمقتضيات الدستور الجديد، وهو إنجاز ديمقراطي كبير.
ورغم أجواء الإصلاح فقد استمرت بعض الانحرافات والممارسات المخلة بنزاهة الانتخابات، بشكل أقل حدة من الماضي لكن بتأثير نسبي على النتائج التي عكست رغم ذلك، بالتقريب، حقيقة الخريطة السياسية. هذه الممارسات ليست مستساغة ضمن توجه، فرض نفسه، نحو ممارسة سياسية سليمة وسوية، وهو ما ينبغي الحرص على تجاوزه في الاستحقاقات المقبلة، ترسيخا لمسار الإصلاح، واحتراما للتعاقد الجديد التي عبرت عنه الوثيقة الدستورية.
ورغم النتائج غير المسبوقة التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية، فإن النظام الانتخابي لا يسمح بإحراز أغلبية حزبية مما فرض تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة الحزب المتصدر للنتائج الانتخابية وبمشاركة قوية لحزب التقدم والاشتراكية.
وتميزت التجربة الحكومية الجديدة بنفسها الإصلاحي القوي وبرنامج يرسخ المكتسبات ويطمح إلى إنجاز إصلاحات إستراتيجية، وانشغال جدي بالمسألة الاجتماعية، وجعل محاربة الفساد والريع ضمن الأولويات، وتأكيد على حسن تدبير المال العام، وبرامج قطاعية طموحة، وتوجه نحو ترسيخ الحكامة الجيدة والشفافية ومزيدا من التخليق للحياة العامة، مما جعله برنامجا يعكس، إجمالا، طموحات فئات واسعة من شعبنا وتعبيراته السياسية والاجتماعية، وخلق جوا من التفاؤل والأمل، وأعاد للعمل السياسي بعض المصداقية والجدوى بعد سيادة اليأس والنفور من العمل الحزبي والعزوف عن المشاركة بل الاهتمام بالحياة السياسية، وهو ما يعتبر، في حد ذاته، إنجازا نظرا لما شكله العزوف من مخاطر على مستقبل البلاد واستقرارها.
وبقدر ما شكل كل ذلك نقط قوة في المسار المغربي ضمن الحراك العام فقد برزت نقط ضعف لا يمكن تجاهلها، ومنها هشاشة التحالف الحكومي في النسخة الأولى وهو ما أدى إلى صعوبات في مرحلة لاحقة، وضعف تجربة التسيير لدى الطرف الأساسي في التحالف، وهو أمر طبيعي باعتبار تجربة الانتقال من المعارضة إلى تدبير الشأن العام، وكان لذلك تأثير على الأداء الحكومي في الشهور الأولى بالخصوص.
وينضاف إلى ذلك بطء الأداء الحكومي، والتردد في مواجهة بؤر الريع والفساد، لاعتبارات موضوعية منها طبيعة التحالف الحكومي نفسه، وقوة لوبيات المصالح التي واجهت بشراسة كل المبادرات الإصلاحية، خاصة تلك المرتبطة بالريع والفساد، لكن أيضا لاعتبارات ذاتية، ومنها ضعف الجرأة السياسية في مواجهة لوبيات المصالح بشكل عملي ملموس، من خلال تدابير وإجراءات، وذلك لأجل الحفاظ على توازنات تغلب الاستمرارية على التغيير في نهاية المطاف...
ورغم الهزة القوية التي عرفها التحالف الحكومي بخروج حزب الاستقلال من الأغلبية ودخول البلاد في أزمة سياسية كادت تشكل خطرا حقيقيا على التجربة وعلى المسار المغربي ككل، فقد تم تجاوز الأزمة بعد تبديد زمن سياسي ثمين، وتأخير أوراش إصلاحية، وخسارات اقتصادية أدى الشعب ثمنها، وذلك بفضل حرص جلالة الملك على التقيد بالضوابط الدستورية ومعالجة الأزمة بحكمة وتبصر، واستحضار مصالح بلدنا ونظامنا السياسي ومخاطر فشل أول تجربة بعد الدستور الجديد، سواء على مستوى الاستقرار السياسي كشرط ضروري لكل تنمية، أو على مستوى سمعة بلادنا الخارجية التي اكتسبتها بفضل أسلوبها المتميز، السلمي والهادئ، في التعامل مع الحراك الاجتماعي والسياسي العام.
لقد اعتبر حزب التقدم والاشتراكية في حينه أن النجاح في تجاوز الأزمة السياسية بإدماج حزب التجمع الوطني للأحرار، ضمن التحالف الحكومي، وتشكيل النسخة الثانية من حكومة «التناوب الديمقراطي» إنجاز سياسي هام لا بد من تقديره السليم، خاصة إذا استحضرنا الدعوات القوية لمراجعة المسار برمته والعودة إلى وضعية ما قبل 2011، الأمر الذي كان سيشكل انتكاسة حقيقية لمسار الانتقال الديمقراطي، بعد اختلال موازين القوى تأثرا بعوامل خارجية، وإعادة هيكلة بعض قوى الريع والفساد لنفسها، وخفوت صوت الشارع المطالب بالإصلاح، والفشل في تشكيل جبهة وطنية واسعة من قوى سياسية واجتماعية لضمان استمرار الإصلاح ومواجهة قوى الريع والفساد وتعبيراتها المختلفة في الحياة العامة.
غير أن النجاح في تجاوز الأزمة واستمرارية الحكومة القائمة ليس هدفا في حد ذاته، بل الهدف هو تنفيذ البرنامج الحكومي والحسم في الملفات الإصلاحية الكبرى المطروحة على البلاد (المقاصة، النظام الجبائي، العدالة، التقاعد، الجهوية الموسعة...) وإنجاز المخطط التشريعي، خاصة ما يتعلق بالقوانين التنظيمية المكملة للدستور، وإجراءات جدية في مجال محاربة الريع والفساد وانحرافات الإدارة والقضاء وكل مجالات الحياة العامة، وتحسين وضعية الجماهير الواسعة سواء على مستوى ضمان الخدمات الأساسية وتجويدها، أو على مستوى الرفع من القدرة الشرائية للمواطن المغربي عامة والفئات الفقيرة والكادحة على وجه الخصوص، كل ذلك يفرض مرور الأداء الحكومي إلى السرعة القصوى للتعويض، ولو نسبيا، عن الزمن الضائع خلال الأزمة الحكومية...
وعلى كل أطراف التحالف الحكومي الوعي بضغط الزمن وبمخاطر فشل هذه التجربة المتميزة في مسارنا السياسي، وهي مخاطر تتحدد في مصدرين أساسيين: مصدر الحكومة نفسها إذا فشلت في إنجاز برنامجها الإصلاحي ولمس المواطن ثمار هذا الإنجاز، ومخاطر من خارج الحكومة وتتمثل في لوبيات وشبكات الريع والفساد والقوى المنظمة المعبرة عنها بسعيها إلى إرباك الحكومة والتصدي لمبادراتها الإصلاحية، وإلى إفشالها في نهاية المطاف.
*عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.