مقدمة: ينعقد المؤتمر الوطني التاسع لحزب التقدم و الاشتراكية في ظل وضعية سياسية جديدة وطنيا و بعد تحولات كبرى في المنطقة العربية و المغاربية، و ما ترتب عنها من تفاعلات اجتماعية و سياسية تسائل الحزب فكريا و سياسيا، و تدعوه إلى تحليلها واستخلاص الخلاصات الضرورية لبلورة خط سياسي يستوعب هذه التحولات و يواكبها، انطلاقا من قناعاته المبدئية و أدواته التحليلية، ومقاربته التي مكنتهّ،عبر تاريخه، من استيعاب حركة المجتمع و التاريخ و التأثير إيجابا في المنحى العام للتطور السياسي لبلدنا... إن الوضعية السياسية الجديدة تطرح سؤال مدى تحقق الشعارات المركزية للمؤتمر الوطني الثامن للحزب والتي لخصت برنامجه السياسي المرحلي و على رأسها شعار" التعاقد السياسي الجديد" لمغرب الجيل الجديد من الإصلاحات و الممارسة السياسية السليمة.... لقد أدى التفاعل السريع و الإيجابي مع الحراك العام ( إقليميا ووطنيا) للمغرب بكل مكوناته، وعلى رأسها المؤسسة الملكية، إلى بلورة دستور جديد متقدم أعتبره بمثابة تعاقد بين كل مكونات الأمة المغربية ، و انتقلنا من تعاقد ضمني سماه الحزب في مرحلة سابقة ب "التوافق التاريخي" ، و الذي اعتبر المؤتمر الوطني الثامن أنه استنفذ مهامه، إلى تعاقد مكتوب تجسده الوثيقة الدستورية بعد حوار وطني ساهمت فيه كل القوى الفاعلة، سياسية ونقابية وجمعوية، تمخض عنه دستور ساهمت في بلورة توجهاته و صياغته كل مكونات الأمة و أقره الشعب المغربي بشبه إجماع ، مما يجعل من الوثيقة الدستورية ،في نظري ، " تعاقد سياسي جديد" تتضمن، إضافة إلى أهم المطالب الدستورية للحركة الديمقراطية و التقدمية ببلدنا ، تحديدا متوافقا عليه للهوية الوطنية وترسيخا لمكاسب الشعب المغربي في مجال الديمقراطية والحريات، وضمانا للحقوق الأساسية للمواطن، والأوراش الإصلاحية الوطنية الكبرى، وتحديدا متقدما للممارسة السياسية، وهو ما يمكن اعتباره استجابة ، نظريا ، لأحدى أطروحات المؤتمر الوطني الثامن المتعلقة بضرورة حياة سياسية سليمة. غير أن الاستجابة " النظرية" لأهم أطروحات مؤتمرنا الثامن تفرض معارك سياسية متواصلة للانتقال من الإقرار المبدئي إلى الإقرار الفعلي في الحياة العامة، و هي المعارك التي يقوم فيها حزب التقدم و الاشتراكية بدور فعال و رائد... إن المهام المرحلية المطروحة على القوى الحية، و على حزب التقدم و الاشتراكية، تتلخص في احترام هذا التعاقد السياسي الجديد الذي تتضمنه الوثيقة الدستورية، و تطبيق مضامينه الإيجابية و المتقدمة، سواء ما يتعلق منها بإتمام الوثيقة الدستورية عبر القوانين التنظيمية، أو ما يتعلق بالحقوق الأساسية، أو الإصلاحات الكبرى، أو إرساء حياة سياسية سليمة ضابطها الوحيد الدستور و القانون و المصالح العليا للوطن و الشعب. و يتعين على حزب التقدم و الاشتراكية تحديدا العمل ، في المرحلة الراهنة، على كل واجهات النضال السياسي و داخل المؤسسات الدستورية على تمكين أوسع الجماهير من الحقوق الأساسية التي تتضمنها الوثيقة الدستورية من جهة و تعميق التوجه الاجتماعي في السياسات العمومية لإقرار الديمقراطية بمعناها الشمولي ( سياسية، اجتماعية، ثقافية....) والعدالة الاجتماعية، و الدفاع، من أي موقع يتواجد فيه، على مصالح الطبقات الكادحة وحقوقها و طموحاتها، ومواجهة كل الانحرافات ،الواردة دائما، لإفراغ الوثيقة الدستورية من مضامينها المتقدمة، ومواجهة أي تشويه للحياة السياسية أو تبخيس للعمل السياسي الجدي والمسؤول. و رغم ما تتضمنه الوثيقة الدستورية من حقوق للطبقات التي يدافع عليها الحزب فإن نضاله السياسي مرتبط وموجه بهويته الطبقية و الفكرية و السياسية و أفقه الاشتراكي، مع التأكيد أن الصراع السياسي هو واجهة للصراع الطبقي وصراع مصالح طبقية وفئوية، و في هذا الصراع هناك حاجة إلى حلفاء بناء على تحديد التناقض الرئيس والمهام المطروحة في كل مرحلة. ولكون التحولات الهامة و التاريخية التي عرفتها بلادنا منذ المؤتمر الوطني الثامن مرتبطة بالحراك العام الذي عرفته المنطقة العربية و المغاربية وتمت في إطاره، كان لزاما على الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني التاسع قراءة أسباب هذا الحراك ونتائجه و مساراته و أفقه، لموضعة وضعنا السياسي الوطني الجديد و مميزاته المرحلية، وموقع الحزب ودوره و مهامه، بارتباط مع هويته و برنامجه، لترسيخ المكتسبات، و تطبيق مضامين الوثيقة الدستورية ، و إقرار مجتمع الديمقراطية و الحرية و العدالة الاجتماعية و الكرامة.. وتتضمن الوثيقة إضافة لذلك، تحليلا للوضع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي والحقوقي، و مقترحات الحزب و بدائله التقدمية. كما تبقى القضية الوطنية و ما يرتبط بها من عمل دبلوماسي في صلب اهتمامات الحزب. و تحدد الوثيقة السياسية قراءة حزب التقدم و الاشتراكية للوضع الدولي و مواقفه من مجمل القضايا المطروحة على الساحة الدولية. في هذه الورقة لن أورد مجمل التحاليل التي قدمتها الوثيقة السياسية التي أشاطرها، وبل أود تقديم بعض الإضافات على سبيل تأكيد المقاربة العامة للحزب من بعض القضايا التي عالجها مشروع الوثيقة السياسية. 1- التحولات الكبرى في المجالين العربي والمغاربي: قدم مشروع الوثيقة السياسية تحليلا دقيقا لأسباب هذه التحولات ونتائجها ومساراتها المتمايزة، ومن خلاصات الوثيقة في هذا المجال أن مسارات الحراك رغم اختلافاتها فإن ما يجمع بينها هو التوق إلى الحرية والديمقراطية والكرامة، إن ما هو عام هو هذا الطموح الذي يتجسد في الخاص أي في كل بلد حسب خصوصياته. وتورد الوثيقة نتائج هذا الحراك على المستوى السياسي وعلى مستوى الوعي الشعبي، ومن هذه النتائج التي أريد التوقف عندها ظهور تمايز داخل ما يسمى ب"الإسلام السياسي" بين توجهات تقبل بالعمل السياسي في إطار المشروعية الديمقراطية وأخرى نكوصية وإرهابية وإقصائية ، ولا يمكن وضعها جميعا في نفس السلة والتعامل معها بذات الطريقة، ويمكن أن أضيف إلى النتائج التي أوردتها الوثيقة نتائج يمكن إدراجها ضمن مجال الفكر: فعلى المستوى الفكري تنامت دعوات الحوار بين الإسلام و العلمانية، و الإسلام السياسي المعتدل و اليسار. ففي إطار مخاض التحولات،الذي مازال مستمرا، برزت مقاربتان متناقضتان ، الأولى مقاربة إقصائية و إستئصالية هي استمرار لما كان سائدا قبل الربيع الديمقراطي العربي و المغاربي، سواء من طرف متطرفي الإسلام السياسي الذين يعتبرون خصومهم العلمانيين واليساريين ملاحدة وخارج المجتمع الإسلامي أو من قبل المتطرفين من العلمانيين و اليسار الذين يعتبرون كل ما ينتمي للإسلام السياسي رجعي وظلامي و خارج العصر الحديث، والثانية مقاربة توافقية تعتبر الإسلام السياسي واقعا لا يرتفع و فاعلا في الوضع الاجتماعي و السياسي، و هو ليس كلا منسجما، و أن من ضمنه تيارات قابلة للحوار و التوافق على القواعد العامة، أساسها الديمقراطية و حق الاختلاف ، مع وجود توجه للبحث عن القواسم المشتركة بين الإسلام السياسي ذي النزعة الاحتجاجية و الاصطفاف بجانب المستضعفين و بين اليسار بشكل خاص المعبر، مبدئيا، عن قضايا أوسع للجماهير... هذا الحوار بدأت تشهده منتديات فكرية في بلدان مختلفة، وكلل بالنجاح على المستوى السياسي في تونس. و كان حزب التقدم و الاشتراكية سباقا لهذه المقاربة من خلال تلاقي موضوعي حول قضايا سياسية مرحلية مع حزب العدالة و التنمية. وجدير بالذكر أن الحزب كان سباقا، بذكائه السياسي الجماعي وحسه التاريخي،حول قضايا أخرى مثل الموقف من الدين في ستينات القرن الماضي، والمسلسل الديمقراطي خلال السبعينات، والتوافق التاريخي خلال التسعينات، وقد أكد التاريخ صواب تحاليل الحزب ومواقفه رغم ردود الفعل المعادية في حينه، وتحمل الحزب معارك إيديولوجية وسياسية، حادة أحيانا،خاضها بكل اقتناع وبدون خضوع لأي إملاء فكري أو سياسي من خارجه. وعلى الحزب اليوم تعميق تفكيره بخصوص ظاهرة الإسلام السياسي عامة و التوجه المعتدل داخله بالخصوص، و السعي نحو حوار فكري و اسع للتمكن من استيعاب أفضل، ومن قدرة أكبر على التأثير على مسار التطور الفكري و السياسي لدى الحركات الإسلامية كما تيارات اليسار و التوجه العلماني المعتدل. 2- التجربة المغربية بين العام والخاص: ضمن الإطار العام للحراك العربي والمغاربي، المحلل بتفصيل في مشروع الوثيقة وبارتباط مع هذا الحراك، حدثت التحولات الهامة التي عرفتها بلادنا في السنوات الثلاث الأخيرة.لم يشكل المغرب استثناء في هذا الحراك ،فقد وصلت رياحه إلى الشارع المغربي، وكانت حركة 20 فبراير إحدى تعبيراته القوية، غير أن الحراك المغربي كان متميزا سواء من حيث شكله أو مضمونه أو مساره. فقد تميز الحراك المغربي بطابعه السلمي وبشعاراته الإصلاحية، ولم يضع النظام السياسي، في المجمل، موضع سؤال، وعبرت مطالب الشارع عن الرغبة في الإصلاح، ورفع شعار "ارحل" في وجه الفساد السياسي والاقتصادي والمالي، والمطالبة بالديمقراطية، ودستور متقدم، والعدالة الاجتماعية والكرامة. وهي مطالب تقاطعت مع ما كانت تطرحه القوى السياسية الديمقراطية وكل القوى الإصلاحية، سياسية واجتماعية،ومع ما طالبت به الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني الثامن لحزب التقدم والاشتراكية من تعديلات دستورية، وجيل جديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية و الثقافية، وإرساء حياة سياسية سليمة. ورغم عدم أو ضعف تفاعل القوى السياسية الديمقراطية مع حركة الشارع على مستوى الشكل، فعلى مستوى المضمون كان التوجه العام هو دعم مطالب الإصلاح.هذا التفاعل الإيجابي مع مطالب الإصلاح بلغ مداه مع خطاب 9 مارس التاريخي لجلالة الملك، باعتباره معبرا عن إرادة الأمة جمعاء، وهو الخطاب الذي وجه المسار المغربي في اتجاه إيجابي وصنع تميزه، بل ريادته. ففي الوقت الذي اختار فيه النظام التونسي السابق وأنظمة في المشرق العربي مواجهة حركة الشارع السلمية المطالبة بالتغيير و الإصلاح بالقمع المسلح واخراج الدبابات، أخرج ملك المغرب خطاب 9 مارس 2011 للتفاعل مع الحراك ومطالبه الرئيسية، متضمنا لورقة إصلاحية شاملة، وخارطة طريق للمسار المغربي.وانطلق بعد الخطاب حوار وطني واسع توج بدستور متوافق عليه وتمت بلورة مضامينه بشكل جماعي واعتمادا على المضامين المتقدمة للخطاب الملكي يوم 9 مارس، وتمت صياغته بمساهمة كل القوى الوطنية الفاعلة، سياسية ونقابية وجمعوية،وهي صيغة جديدة متميزة ومبتكرة قطعت مع صيغة الدساتير الممنوحة التي كان معمول بها في السابق، و كانت تلك إشارة قوية للإنتقال إلى توافق تاريخي جديد، وتلى إقرار الدستور باستفتاء شعبي وبشبه اجماع انتخابات سابقة لأوانها ، هي الأقل سوءا في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية في المغرب، وبوأت حزب العدالة والتنمية المعارض صدارى النتائج ، كدليل ملموس على تعبير النتائج،إجمالا، على حقيقة الخريطة السياسية للبلاد، وهو مؤشر آخر للتفاعل الإيجابي مع مطالب الإصلاح. إن هذه التجربة السياسية المتميزة ساهمت بقوة في صناعة تميز المسار المغربي في إطار الحراك العربي والمغاربي ، وهي تجربة نالت تتبعا وترحيبا دوليا قويا، بل اعتبرتها أوساط دولية عديدة تجربة رائدة جديرة بالاقتداء، في محيط إقليمي يطبعه، عموما، العنف وللاستقرار. إن التجربة المغربية المتميزة ليست تجربة حزب أو ائتلاف حزبي بل تجربة وطنية جديرة بالدعم من طرف كل القوى الديمقراطية دون اعتبار لحساب الربح والخسارة الحزبي الضيق، لأن الوطن هو الرابح من نجاحها أولا ثم القوى الديمقراطية ومجموع الشعب.مع الإشارة إلى أن المعارضة البناءة والمسؤولة هي دعم غير مباشر ومن موقع آخر وإسهام في إنجاح تجربة لا معنى لها بدون معارضة ديمقراطية اقتراحيه، يقظة،واقفة في وجه اي إمكانية للانحراف الوارد دائما في العمل السياسي.غير أنه لا بد من التنبيه في ذات الآن إلى خطورة استحضار الحسابات الحزبية الصغيرة على حساب الحسابات الوطنية العظمى، وخطورة إفشال تجربة هي وطنية في نهاية المطاف، والخاسر في حالة فشلها هو الوطن برمته. إن التجربة المغربية هي تجسيد خاص لما هو عام المتمثل في تحولات شاملة في المنطقة العربية والمغاربية، وفي إرادة التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.المغرب ليس استثناء ولا يمكن له أن يكون لأنه غير معزول عن محيطه العام والإقليمي،ولأن الإصلاح كان مطروحا بقوة كضرورة وطنية. وقد عبرت الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني الثامن لحزب التقدم والاشتراكية بوضوح عن ذلك عندما رفعت شعار" جيل جديد من الإصلاحات " ودققت مضامينه الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... فأطروحة الاستثناء المغربي بينت على لا واقعيتها وعن فشلها سابقا وخلال أحداث 16 ماي الإرهابية ...لقد كان حزب التقدم والاشتراكية قبل هذا الحادث الدموي ينبه إلى أن المغرب ليس بمنأى عن خطر الإرهاب بناء على تحليل استباقي وبعد نظر يميز الحزب منذ عقود ، غير أن تنبيهات الحزب ووجهت بأطروحة الاستثناء المغربي،وحدثت الصدمة التي نبهت الجميع إلى تهافت هذه الأطروحة... وإذا كان المغرب لا يشكل استثناء بالمنطقة فإنه يشكل تميزا في مساره السياسي، في الماضي والحاضر،وهذا أمر طبيعي وسمة ليست استثنائية ولا خاصية مطلقة لبلدنا،فمسارات التحولات الاجتماعية والسياسية متمايزة، بناء على المعطيات السياسية والسوسيولوجية والحضارية لكل بلد. ومعطياتنا الوطنية الخاصة أنتجت خصوصية وتميز تجربتنا الوطنية. و من أسباب تميز التجربة المغربية في الوضعية الراهنة ما راكمه المسار السياسي لبلدنا من تجارب، على رأسها انطلاق المسلسل الديمقراطي منذ سنة 1975، والاعتراف المبكر بالتعددية الحزبية بل ومنع الحزب الواحد منذ أول دستور للمملكة،ووجود حياة نقابية تعددية وفاعلة، و تعابير اجتماعية مختلفة ضمن حركة المجتمع المدني، وتعدد المنابر الإعلامية، ووجود تجارب انتخابية مهما كانت الخروقات والنواقص فإنها مكنت من تمثيلية قوى سياسية مختلفة في مجالس منتخبة محليا ووطنيا ومن المساهمة في تدبير الشأن العام المحلي ثم الوطني،ووجود مؤسسات دستورية نشيطة، رغم كل المآخذ، تحقق نجاحات، و إخفاقات تكون موضع نقاش وطني يؤدي إلى تحسين تدريجي لأدائها...إضافة إلى ذلك فثقافة الاحتجاج السلمي والمنظم ليست غريبة ولا مستجدة في الحياة العامة الوطنية.كل ذلك مكن ،باستمرار، قوى المجتمع من التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة ، وتمكنت أحيانا من تحقيق مطالب ومكاسب لا يستهان بها ،سياسية واجتماعية وثقافية، مما أدى إلى عدم بلوغ الاحتقان إلى مداه الأقصى، كما حدث في بلدان أخرى، و أدى إلى أن يكون المسار المغربي غير منفصل عما تراكم طيلة عقود من النضال السياسي والاجتماعي ،بل استمرار ، وإن بشكل نوعي،لمجموع التحولات الكمية التي حصلت طيلة عقود ، وتم الإصلاح في إطار الاستمرارية والاستقرار. والعنصر الأساسي الذي أدى إلى إصلاح بدون تكلفة كبرى على مستوى استقرار البلاد السياسي والاجتماعي ، وجود إجماع على النظام السياسي المتمثل في الملكية رغم وجود مطالب إصلاحية على مستوى موقعها الدستوري، خاصة ما يتعلق بالصلاحيات التنفيذية،ووجود توجه متوافق عليه للسير في أفق الملكية البرلمانية ..غير أن جوهر النظام وأسسه الشرعية، والقناعة السائدة لكون الملكية موحدة للأمة وتعبير عن سيادتها وإرادتها العامة، لم يكن هو موضع سؤال جدي،سواء قبل 2011 أو بعده خلال مناقشة الإصلاحات الدستورية لبلورة الدستور الجديد...ينضاف إلى ذلك أن الملكية في المغرب عبر التاريخ تتجاوب،في اللحظات الحاسمة ،مع إرادة الأمة،والتعديلات الدستورية لسنتي 1992و1996 تعبر عن هذا المنحى للنظام الملكي في المغرب، وتأكد ذلك بشكل واضح في الخطاب الملكي في 9 مارس 2011. كل هذه المعطيات غيبت شعار "إسقاط النظام " في الحراك المغربي، ما عدا استثناءات محدودة وغير ذات أهمية على مستوى التأثير على مسار الحراك ومسار التجربة ، وحمت بلادنا من الانزلاق نحو الصراعات الدموية والأفق المجهول ، مثلما حصل في بلدان أخرى، ومكنتها من مسار سلمي يضمن الاستقرار والإصلاح في الآن ذاته. 3- التجربة الحكومية الجديدة بين إرادة الإصلاح و عوائقه : أدت المعالجة الهادئة و المتبصرة لتأثيرات و تفاعلات الحراك العربي و المغاربي، خاصة المبادرة الملكية الحاسمة لكن أيضا إنخراط قوى سياسية فاعلة في حراك ذي طبيعة سياسية من خلال التفاعل و الترحيب بالمبادرة و إطلاق نقاش و حوار وطني حول محاور الإصلاح ساهم فيه حزب التقدم و الإشتراكية بقوة ( ملتقيات الربيع الديمقراطي) أدت هذه المعالجة إلى الشروع، دون أي تبديد للزمن، في بلورة دستور توافقي، تلته إنتخابات سابقة لأوانها و تشكيل حكومة يرأسها الحزب المتصدر لنتائج الإنتخابات تطبيقا لمقتضيات الدستور الجديد، وهو إنجاز ديمقراطي كبير. ورغم أجواء الإصلاح فقد استمرت بعض الانحرافات و الممارسات المخلة بنزاهة الإنتخابات ، بشكل أقل حدة من الماضي لكن بتأثير نسبي على النتائج التي عكست رغم ذلك ، بالتقريب،حقيقة الخريطة السياسية. هذه الممارسات ليست مستساغة ضمن توجه، فرض نفسه، نحو ممارسة سياسية سليمة و سوية، وهو ما ينبغي الحرص على تجاوزه في الاستحقاقات المقبلة، ترسيخا لمسار الإصلاح، و احتراما للتعاقد الجديد التي عبرت عنه الوثيقة الدستورية. ورغم النتائج غير المسبوقة التي حصل عليها حزب العدالة و التنمية فإن النظام الإنتخابي لا يسمح بإحراز أغلبية حزبية مما فرض تشكيل حكومة إئتلافية برئاسة الحزب المتصدر للنتائج الإنتخابية و بمشاركة قوية لحزب التقدم و الإشتراكية. وتميزت التجربة الحكومية الجديدة بنفسها الإصلاحي القوي و برنامج يرسخ المكتسبات و يطمح إلى إنجاز إصلاحات إستراتيجية، و إنشغال جدي بالمسألة الإجتماعية، وجعل محاربة الفساد و الريع ضمن الأولويات، و تأكيد على حسن تدبير المال العام ، وبرامج قطاعية طموحة، وتوجه نحو ترسيخ الحكامة الجيدة و الشفافية ومزيدا من التخليق للحياة العامة ، مما جعله برنامجا يعكس ، إجمالا، طموحات فئات واسعة من شعبنا و تعبيراته السياسية و الاجتماعية ، وخلق جوا من التفاؤل و الأمل، و أعاد للعمل السياسي بعض المصداقية و الجدوى بعد سيادة اليأس و النفور من العمل الحزبي و العزوف عن المشاركة بله الاهتمام بالحياة السياسية، وهو ما يعتبر ، في حد ذاته، إنجازا نظرا لما شكله العزوف من مخاطر على مستقبل البلاد و استقرارها. و بقدر ما شكل كل ذلك نقط قوة في المسار المغربي ضمن الحراك العام فقد برزت نقط ضعف لا يمكن تجاهلها، ومنها هشاشة التحالف الحكومي في النسخة الأولى وهو ما أدى إلى صعوبات في مرحلة لاحقة، وضعف تجربة التسيير لدى الطرف الأساسي في التحالف، وهو أمر طبيعي باعتبار تجربة الانتقال من المعارضة إلى تدبير الشأن العام ، وكان لذلك تأثير على الأداء الحكومي في الشهور الأولى بالخصوص. وينضاف إلى ذلك بطء الأداء الحكومي، و التردد في مواجهة بؤر الريع و الفساد، لاعتبارات موضوعية منها طبيعة التحالف الحكومي نفسه، و قوة لوبيات المصالح التي واجهت بشراسة كل المبادرات الإصلاحية ، خاصة تلك المرتبطة بالريع و الفساد ، لكن أيضا لاعتبارات ذاتية، و منها ضعف الجرأة السياسية في مواجهة لوبيات المصالح بشكل عملي ملموس، من خلال تدابير و إجراءات، و ذلك لأجل الحفاظ على توازنات تغلب الاستمرارية على التغيير في نهاية المطاف..... ورغم الهزة القوية التي عرفها التحالف الحكومي بخروج حزب الاستقلال من الأغلبية ودخول البلاد في أزمة سياسية كادت تشكل خطرا حقيقيا على التجربة و على المسار المغربي ككل، فقد تم تجاوز الأزمة بعد تبديد زمن سياسي ثمين، و تأخير أوراش إصلاحية، و خسارات اقتصادية أدى الشعب ثمنها، وذلك بفضل حرص جلالة الملك على التقيد بالضوابط الدستورية و معالجة الأزمة بحكمة و تبصر، و استحضار مصالح بلدنا و نظامنا السياسي و مخاطر فشل أول تجربة بعد الدستور الجديد، سواء على مستوى الاستقرار السياسي كشرط ضروري لكل تنمية،أو على مستوى سمعة بلادنا الخارجية التي اكتسبتها بفضل أسلوبها المتميز، السلمي و الهادئ ،في التعامل مع الحراك الاجتماعي و السياسي العام. لقد اعتبر حزب التقدم و الاشتراكية في حينه أن النجاح في تجاوز الأزمة السياسية بإدماج حزب التجمع الوطني للأحرار، ضمن التحالف الحكومي، و تشكيل النسخة الثانية من حكومة "التناوب الديمقراطي" إنجاز سياسي هام لا بد من تقديره السليم، خاصة إذا استحضرنا الدعوات القوية لمراجعة المسار برمته و العودة إلى وضعية ما قبل 2011، الأمر الذي كان سيشكل انتكاسة حقيقية لمسار الانتقال الديمقراطي، بعد اختلال موازين القوى تأثرا بعوامل خارجية، و إعادة هيكلة بعض قوى الريع و الفساد لنفسها، وخفوت صوت الشارع المطالب بالإصلاح، و الفشل في تشكيل جبهة وطنية واسعة من قوى سياسية و اجتماعية لضمان استمرار الإصلاح و مواجهة قوى الريع و الفساد و تعبيراتها المختلفة في الحياة العامة. غير أن النجاح في تجاوز الأزمة و استمرارية الحكومة القائمة ليس هدفا في حد ذاته، بل الهدف هو تنفيذ البرنامج الحكومي و الحسم في الملفات الإصلاحية الكبرى المطروحة على البلاد ( المقاصة، النظام الجبائي، العدالة، التقاعد، الجهوية الموسعة....) و إنجاز المخطط التشريعي، خاصة ما يتعلق بالقوانين التنظيمية المكملة للدستور، و إجراءات جدية في مجال محاربة الريع و الفساد و انحرافات الإدارة و القضاء و كل مجالات الحياة العامة، و تحسين وضعية الجماهير الواسعة سواء على مستوى ضمان الخدمات الأساسية وتجويدها،أو على مستوى الرفع من القدرة الشرائية للمواطن المغربي عامة و الفئات الفقيرة و الكادحة على وجه الخصوص، كل ذلك يفرض مرور الأداء الحكومي إلى السرعة القصوى للتعويض، و لو نسبيا، عن الزمن الضائع خلال الأزمة الحكومية..... و على كل أطراف التحالف الحكومي الوعي بضغط الزمن و بمخاطر فشل هذه التجربة المتميزة في مسارنا السياسي، و هي مخاطر تتحدد في مصدرين أساسيين: مصدر الحكومة نفسها إذا فشلت في إنجاز برنامجها الإصلاحي و لمس المواطن ثمار هذا الإنجاز، و مخاطر من خارج الحكومة و تتمثل في لوبيات و شبكات الريع و الفساد و القوى المنظمة المعبرة عنها بسعيها إلى إرباك الحكومة و التصدي لمبادراتها الإصلاحية، و إلى إفشالها في نهاية المطاف. عبد الصادقي بومدين عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية