رحلتان في الطبيعة وفي النفس يستقي الروائي المغربي مصطفى لغتيري مادته الروائية من جغرافيا الحزن والتهميش في روايته «على ضفاف البحيرة»، «النايا – محاكاة، دمشق، 2012»، يروي ما يعترك في داخل المرء الذي يفقد الأمل والرجاء، وما يعترك في قلب المناطق التي تبقى على تخوم الاهتمام الرسمي، وفي قلب الولع الشعبي. يمنح لغتيري أبطاله فرصا للتعبير عن أنفسهم، يخلق مثلث السرد؛ «محسن، شمس، أسماء»، يمثل كل واحد منهم رأسا من رؤوسه، ويشغل مركزا هاما في سرد الآخر، يكون السارد والمسرود عنه في الوقت نفسه، يلقي بهذه اللعبة السردية نظرة ثلاثية الأبعاد على الواقعة نفسها، ولا يكسر تبادل السرد، إلا سارد وحيد يقحم بين الثلاثي السارد، وهو صاحب القهوة، يستلم الحكاية، ليروي قصته وقصة أجداده في مقارعة الاستعمار، ويفصل في الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها سكان المنطقة النائية التي لا توليها الدولة شيئا من العناية المطلوبة. تقوم الشخصيات برحلة سياحية إلى المنطقة التي يعشقها محسن، المنطقة التي لا تزال تحتفظ بطبيعتها البكر، ولم تلوّثها مطامع البشر ومشاريعهم، وتكون الرحلة بعد إلحاح من شمس التي تشربت عشق تلك المنطقة من والدها، ولا تملك أمها أسماء إلا الرضوخ لها ولأبيها، والقبول بعد تردد ورفض على مضض بمرافقتهما. ولع بلا ضفاف يقود إلى حادثة لا تتوقف عند حدود، تتبدد فيها الأحلام، ويتشتت شمل الأسرة البسيطة، يعود الأب وحيدا حزينا يبحر في مستنقعات يأسه، وبحيرات ذكرياته. تهيمن عليه المآسي، تقوده إلى التقوقع على الذات وإهمال أسباب العيش والتقلب في أتون الذكريات الأليمة، يتحول كل شيء أمامه إلى دبابيس تنغرز في قلبه الذي ينزف بوحا شفيفا بلا ضفاف. يتقدم سرد الحكاية في اتجاهين متوازيين متلازمين، رحلة في الطبيعة، إلى منطقة البحيرات، ورحلة أخرى إلى الأعماق والذاكرة، يكون الحب الرابط بين الرحلتين، والنقطة التي تتحكم بزمام الأمور، وتسير دفة الأحداث. ذلك أن حب محسن للبحيرة والغابة دفعه إلى تسريب ذلك الحب إلى ابنته الشاعرة شمس، وبالمقابل كان حب شمس دافعاً إلى الاكتشاف والفضول، ثم كان حب أسماء لأسرتها الدافع الأبرز لمسايرة جنون زوجها وابنتها، ومرافقتهما. تصل الأسرة إلى البحيرة التي تخيم على ضفتها، ويكون التخييم في الغابة مصدر بهجة وولع للأب والابنة، في حين يكون مصدر شقاء وتعاسة للأم، وهكذا يكون لكل موقف أثران، أحدهما إيجابي على طرف، وآخر سلبي وأليم على الطرف الآخر. كما تصير البحيرة بَثّاثة للوساوس والتوجسات للأم، وباعثة على الشغف والاستمتاع للأب وابنته. الرحلات تقوم بدور الكشافة، يتناسب الدور مع الجانب الذي تَسبره، فالرحلة إلى البحيرة على الأطلس تمر بالكثير من المنعطفات والمنعرجات والتضاريس الخطيرة. هناك رحلة شمس الاستكشافيّة في الغابة، وتعرّفها إلى نساء ورجال من الأمازيغ الذين رحبوا بها، وعاملوها معاملة طيبة، وأعادوها إلى مخيمها بالسلامة، بعد تعرفها إلى بعض العادات والتقاليد والتفاصيل المتعلقة بشؤونهم وحرمانهم المزمن. أما الرحلة إلى الذاكرة وفي الأعماق، فإنها تتسم بالشجن والانكسار، ويكون السرد مشحونا بعاطفة جياشة، تحمل اللوم والتقريع وجَلْد الذات، وتسعى إلى الالتفاف على الوقائع واستعادة الماضي الذي يكفل الاستقرار النفسيّ للشخصيات، تكون بذلك البحيرة القلبَ الذي لا ضفاف له، وتستقبل البوحَ الأثير، تلقي بالشخصيات على ضفافها تارة، وتغرقهم في أغوارها تارة أخرى. لا يُخفى أن الكاتب ينحدر إلى المباشرة في أكثر من فصل، ولا سيّما حين يكون تركيزه الحديث عن نضالات أبناء المنطقة، ومساهماتهم في التحرير وبناء البلد، كأنّه بصدد إلقاء خطاب يقارن بين الماضي والحاضر، وتداعيات ذلك كلّه على المستقبل.