نساء يحملن بداخلهن تلك الجمرة التي لا يقوى رماد الزمن أن يطفئها لم أكن أتخيل وأنا أدعى إلى لقاء خاص بالنساء، وفي صالون أدبي ببيت سيدة عاشقة للفن والأدب، أن أعيش حدثا ثقافيا بامتياز، ولقاء بلمسة نسائية راقية تجلت في تنظيمه الجميل، وتسييره الرائع، ومداخلاته القيمة، وحضوره النوعي، ونقاشه الغني. لقد سعدت بهذا اللقاء غاية السعادة لسببين أساسيين: أولهما، كوني وجدت نفسي محاطة بنساء معظمهن من جيل السبعينيات، ومنهن نساء جمعتني بهن صداقات وهموم وذكريات مشتركة قبل أن يفرق الزمن بيني وبينهن. لم يكن لقائي بهن السبب الوحيد في سعادتي، وإنما أيضا وأساسا، كوني وجدتهن كما أحب أن أراهن، وكما تخيلتهن في روايتي «الناجون» التي احتفيت فيها بجيل السبعينيات عموما، ونساء هذا الجيل خصوصا: نساء لا يشخن أبدا. متفتحات، متجددات، متعطشات للمعرفة، مهمومات بقضايا الوطن، مناضلات في مجالات مختلفة، متحملات للمسؤولية بكل وعي وجدية. نساء يحملن بداخلهن تلك الجمرة السحرية التي لا يقوى رماد الزمن، ولا رياح الردة والتردي أن يطفئها. جمرة ملتهبة تشع في الداخل، لينعكس وهجها على الروح والجسد. أعادني هذا اللقاء إلى زمن السبعينيات، وجيله الذي كان يحمل روحه فوق كفه ويمضي قدما، غير هياب القمع والموت، فوجدتني أغفر لذلك الزمن، كل الآلام التي تسبب فيها... أغفر له لا لشيء إلا لكونه استطاع بناره، ورصاصه، وحديده أن يخلق جيلا من طينة نادرة.. جيلا تسكنه روح التحدي والمقاومة. لا يقف في مكانه أبدا... يحمل راية الأمل، ويسير مع السائرين إن لم يكن يتقدمهم في اتجاه الحلم الأكبر..الجنة الموعودة..الوطن الموعود الذي يلوح نوره في الأفق البعيد.. ثانيهما، أني ما كنت أتخيل أن تكون القراءات العاشقة لكتابتي من طرف بعض نساء الربوة، بذلك العمق وتلك الحساسية الجمالية. لقد كانت قراءة الأستاذة دامية بنخويا من أجمل الدراسات التي أنجزت حول مجموعتي القصصية «أنين الماء»، إذ تتبعت الأنين، وكشفت عنه داخل كل قصة، واستطاعت بحسها الجمالي، وخلفيتها الفكرية أن تلقي الضوء على البعد السياسي في بعض القصص التي لم يتم الالتفات إليها من قبل، أو تم التعامل معها في مستواها الأول دون التوصل إلى دلالاتها الرمزية الشمولية. كما استمتعت بالقراءة العاشقة التي قامت بها الأستاذة فاطمة خشاف لمجموعتي القصصية القصيرة جدا «عندما يومض البرق»، وبتوقفها عند نصوص معينة تفاعلت معها تفاعلا مؤثرا، وبإلقائها الشاعري، وصوتها الدافئ الذي نال إعجاب الحاضرات، وجعل نصوصي تتغلغل إلى أعماقهن. أما سيدة الربوة، الأستاذة خديجة شاكر، فقد فتحت بقراءتها لروايتي «الغول الذي يلتهم نفسه» أبوابا من المتعة والمعرفة، من خلال الأبواب التي انفتحت لها وهي تقرأ الرواية التي ذكرتها كما تقول، بدهشة اكتشاف الانترنت، والبحث في غوغل، وسحر النوافذ التي تنفتح كلما أوغل الباحث في البحث. مع قراءة الأستاذة خديجة تحقق حلمي في أن تكون رواياتي ليس فقط مصدرا للمتعة الفنية، ولكن أيضا، مصدرا للمعرفة، ومحفزا عليها. فقد أشارت الأستاذة خديجة إلى أن الرواية جعلتها تنتبه إلى أشياء تمر في الحياة اليومية دون أن تعيرها انتباها، وعرفتها على أمور كانت تجهلها، والأهم أنها دفعتها للبحث عن الكتب والكتّاب الذين تمت الإشارة إليهم في الرواية. فتعرفت على ماريو فارغاس يوسا وسيرته، وقرأت كتابه «رسائل إلى روائي ناشئ»، كما قرأت رواية «امرأة الثلاثين» لبلزاك، ورواية «عقدة دي» التي بحثت عنها في المكتبات، وفوجئت بكوني من ترجمها، وبحثت عن رواية «غايشا»، وشاهدت الفيلم الذي يجسدها. ولا أنسى بحثها الجميل عن حكاية الغول، وأصلها، ووجودها في مختلف الثقافات الإفريقية منها والعربية والأمريكية اللاتينية. أما مسيرة الجلسة، الأستاذة القديرة فاطمة حسيني، فكانت مايسترو رائعا. كان تقديمها لي وللأعمال موضوع الدراسة من العمق والشمولية رغم ما يتطلبه من إيجاز، بحيث يكشف عن روح المسؤولية، والجدية في التعامل مع المهام المطروحة، وعن الرغبة في الإتقان، إن لم أقل الإبهار.. كانت فعلا مبهرة بلغتها الجميلة الشفافة، وبإيقاعها الموسيقي وهي تنتقل من فقرة إلى أخرى. في هذا اللقاء ازداد ترسخ قناعتي بأن الكاتب بقدر ما يعطي يأخذ. لقد أخذت الكثير من هذه القراءات العاشقة والعميقة، واستمتعت غاية الاستمتاع لدرجة أني أحببت نصوصي من خلال حب هؤلاء القارئات العاشقات اللواتي انتقلت عدوى عشقهن إلي كما إلي الجمهور الحاضر..أحببتها كما لو أني لست كاتبتها، وإنما أستمع إليها لأول مرة! كما تولدت لدي قناعة جديدة وهي أن إهداء الكتاب يبقى دائما مفيدا، حتى لو لم يقرأه من أُهدي إليه. فسيأتي يوم ويجد طريقه إلى قارئ ما، قد يستمتع به، أويستفيد منه، وقد يتجاوز ذلك، إلى إشراك الآخرين في متعته واستفادته. فإذا كانت رواية «الغول الذي يلتهم نفسه» قد تم اقتناؤها من طرف قارئتها من المكتبة، فإن كلا من «أنين الماء» و»عندما يومض البرق»، قد وصلتا إلى قارئتيهما عن طريق شخصين آخرين كانت هاتان النسختان ترقدان في مكتبتيهما منذ صدورهما، إذ كان إهدائي ل»أنين الماء» موقعا سنة 2003، و»عندما يومض البرق» موقعا سنة 2008. لقد كان لقاء سيدة الربوة ونساء الربوة المتميزات حميميا، وممتعا، ومفيدا. وكان صالون الربوة أشبه بصالونات القرن التاسع عشر حيث تلتقي نخبة المجتمع، وتسود مظاهر الجمال. فألف شكر لك، سيدتي، سيدة الربوة... ولكن سيداتي، نساء الربوة المتألقات... وكل فاتح مارس، وكل ثامن مارس، وكل يوم، وكل سنة وأنتن متجددات، وخلاقات. * أديبة مغربية هامش: أعدت هذه الشهادة، على هامش اللقاء الذي نظم يوم السبت 1 مارس الجاري، ضمن الصالون الأدبي الربوة الذي تديره الأستاذة خديجة شاكر بالرباط.