وقّعت الأحزاب السياسية في تونس على اتفاق خارطة الطريق للخروج بالبلاد من أزمة سياسية كانت لها تداعيات أمنية واجتماعية واقتصادية وخيمة. رغم أن هذه العملية كانت بطيئة، بسبب خلافات سياسية عميقة بين الائتلاف الحاكم الذي تقوده حركة النهضة الإسلامية والمعارضة العلمانية ورغم توقيع الاتفاق لا تزال البلاد تواجه تحديات كبيرة ماثلة أمامهم، ولاسيما على الجبهتين الاقتصادية والأمنية. وقد وافقت جميع الأحزاب السياسية الرئيسية ومن بينها حزب «النهضة» الإسلامي، الذي يتزعم الحكومة الحالية، على خارطة طريق جديدة لإكمال الفترة الانتقالية في تونس. بينما لم توقع أربعة أحزاب أخرى على تلك الوثيقة، وكان من بينها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يرأسه الرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي. وتدعو خارطة الطريق الأحزاب إلى اختيار زعيم مستقل جديد وتعيين حكومة غير حزبية ومن ثمّ تستقيل الحكومة الحالية التي يتزعمها حزب حركة «النهضة» بعد ثلاثة أسابيع وتُكمل الحكومة المعينة الجديدة الدستور وقانون الانتخابات كما ستختار الهيئة الانتخابية للانتخابات القادمة خلال أربعة أسابيع. مخاوف سياسية توقيع أغلب الأطراف على هذا الاتفاق كان يفترض به إنهاء حدة التوتر والاحتقان اللذين سادا المشهد السياسي التونسي بعد اغتيال المعارضين السياسيين البارزين شكري بلعيد الذي كان معروفا بانتقاده الشديد للإسلاميين ومحمد البراهمي. ولكن مخاوف أطراف سياسية معارضة في تونس حول إمكانية مناورة النهضة سياسيا بعد توقيع الاتفاق كانت في محلها، ففي اليوم الذي أعقب التوصل إلى اتفاق، أصدر مجلس شورى الحزب بيانا يدعو فيه إلى «استمرار الحكومة الحالية إلى حين إتمام المهام الدستورية للجمعية». ويتناقض ذلك بوضوح مع بنود خارطة الطريق، من خلال القول إن أي استقالة لن تحدث إلا بعد الانتهاء من الدستور. وتشير دراسة تحليلية أعدّها هارون زيلين، الباحث في معهد واشنطن للدراسات، إلى أنه على الرغم من أن الطريق السياسي إلى الأمام لن يكون سهلا وأن جميع أطراف الطيف السياسي من العلمانيين والإسلاميين على حد سواء، لا تزال تتبادل مشاعر عدم الثقة تجاه بعضها البعض، إلا أن هناك أسبابا للإشادة بهذا الاتفاق، وخاصة الجهود المبذولة من منظمات الرباعي الراعي للحوار والتي جاءت بعد الوساطة التي قام بها الاتحاد العام التونسي للشغل، أقوى منظّمة نقابية في تونس، بين المعارضة والحكومة لاحتواء الأزمة وتقريب وجهات النظر في الخلافات السياسية بين الطرفين. مقومات النجاح يرى زيلين أن مكونات النجاح في تجربة الانتقال الديمقراطي تتوفر في تونس على عكس سوريا أو مصر، حيث لا توجد قوى خارجية تتدخل بشكل صريح في الشؤون التونسية، الأمر الذي يسمح للفاعلين السياسيين التونسيين بمعالجة المشاكل بأنفسهم ومع بعضهم البعض؛ كما أن الجيش التونسي لا يتدخل في السياسة وعدد أفراده محدود، وليست له مصلحة في القيام بانقلاب عسكري خلافا لمصر، أيضا لا يوجد حزب سياسي واحد يهيمن على الساحة بمفرده باعتبار أن النهضة لها شركاء في الحكم كما أصبحت تمتلك قاعدة متفانية ورغم ذلك من المحتمل أن تكون لعبتها الانتخابية على الأرض هي الأقوى، وهذا ما حتم تحالف كل من الأحزاب العلمانية ومجموعات المجتمع المدني والاتحاد العام التونسي للشغل لكبح جماح أي توغل لحركة «النهضة» بمرور الوقت. كما أن الإسلاميين في تونس خسروا فعلا نفوذهم بسبب عدم ثقة شريحة كبيرة من التونسيين تجاههم مقابل ارتفاع في شعبية أحزاب معارضة على رأسها «نداء تونس»، الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الباجي قائد السبسي. ويشير مراقبون أن الثقل السياسي والشعبي الذي يتمتع به الحزب، يدحض ما كانت تروّج له حركة النهضة الإسلامية من ضعف وزن حركة نداء تونس، الذي تحول إلى حاضنة لأبرز الوجوه السياسية التونسية. وساهم فشل الترويكا الحاكمة وعلى رأسها حزب حركة النهضة الإسلامي، في إدارة شؤون البلاد اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وإفلاسها سياسيا، بشكل كبير في إشعاع النداء؛ والجدير بالذكر في هذا المضمار أنّ آخر استطلاع للرأي في تونس حول نوايا التصويت للأحزاب السياسيّة في الانتخابات القادمة، أبرز أنّ حزب «حركة نداء تونس» احتلّ طليعة الترتيب وجاءت حركة النهضة» في المرتبة الثانية والجبهة الشعبيّة في المرتبة الثالثة. تحديات اقتصادية في حين أن هناك بالتأكيد جوانب في العملية السياسية يمكن أن تخرج هذا الترتيب عن مساره وخاصة إذا أصبحت أحزاب معينة واثقة جدا من مواقفها التفاوضية الجديدة، يرجّح أن تمثّل المسائل المرتبطة بالاقتصاد والأمن العوائق الكبرى على طول الطريق.. وصحيح أن قطاع السياحة تعافى هذا الصيف، إذ تفاخرت الحكومة بدخول أكثر من 900.000 سائح في شهر آب- أغسطس وحده، مع تحقيق زيادة طفيفة في الإيرادات مقارنة بعام 2010، وهي السنة الأخيرة قبل اندلاع الثورة. وعلى الساحة الاقتصادية بشكل إجمالي، تم تخفيض توقعات النمو الصادرة عن «صندوق النقد الدولي». وفي حين أن الحكومة خفضت من توقعاتها للنمو إلى 3.6 في المائة من 4.5 في المائة في وقت سابق من هذا العام، إلا أن بعض الاقتصاديين يتوقعون بأن النمو يمكن أن يتراجع إلى ما دون 3 في المائة بحلول نهاية العام الحالي. وتكافح الحكومة حاليا من أجل تضييق عجز الميزانية المتزايد من خلال إجراءات التقشف التي يمكن أن تتسبب في مزيد من الاضطرابات. وفي غضون ذلك، بدا المانحون منزعجين من فشل الحكومة في الوفاء بوعود الإصلاح الاقتصادي. وكانت تونس قد نجحت في تأمين حزمة إنقاذ من «صندوق النقد الدولي» في حزيران- يونيو، إلا أن بعثة الصندوق الأخيرة إلى تونس دقت أجراس الإنذار؛وفي بيان له، دعا الصندوق السلطات التونسية إلى بذل جهود فورية وعاجلة للسيطرة على العجز الخارجي والميزانية، والحد من مواطن الضعف في القطاع المصرفي، وتحقيق مزيد من النمو السريع والشامل الذي يمكن أن يمتص البطالة ويخفض الفوارق الاجتماعية والاقتصادية». ودون إصلاحات كهذه فإنه من غير الواضح إن كان «صندوق النقد الدولي» سيقدم الشريحة الثانية عند مراجعة الأوضاع. الجانب الأمني على الصعيد الأمني، يؤكد زيلين أنه في حال وقوع اغتيال ثالث بعد بلعيد والبراهمي، ولاسيما إذا استهدف شخصية من حزب «نداء تونس»، فقد يؤدي ذلك إلى اندلاع اضطرابات على نطاق واسع، على اعتبار أن كثيرين في المعسكر العلماني يلقون باللائمة على حركة «النهضة» بسبب ضلوعها الصريح أو على الأقل تجاهلها للتهديدات ضد هاتين الشخصيتين السياسيتين. ومن ثمّ، فإن ممارسة المزيد من العنف ضد الشخصيات العلمانية أو النشطاء سوف يُحكم عليه بقسوة ضد شريكهم الجديد في المرحلة الانتقالية الجديدة في تونس. ولا يزال الوضع الأمني في تونس غير مستقر رغم أن الحكومة صنفت «جماعة أنصار الشريعة» كتنظيم إرهابي في أواخر غشت 2013 ، إلا أن الهجمات الإرهابية ما زالت تطال أفراد الجيش والأمن في تونس؛ وعلاوة على ذلك يستمر قتال الحكومة مع المسلحين الذين يدورون في فلك تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي في جبل الشعانبي على طول الحدود الغربية مع الجزائر ولا تبدو هناك مؤشرات على انتهائه. وتتوقع مصادر أمنية واستخباراتية أن يدفع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي يتخذ من الجزائر مقرا له بتعزيزات من مقاتليه إلى سلسلة جبال الشعانبي داخل الحدود التونسية «نصرة لإخوانهم» الذين تحاصرهم قوات الأمن والجيش، علاوة على ورود تهديدات إرهابية جدية ستستهدف «مناطق حساسة» داخل البلاد وهذا ما أكده المسؤولون الأمنيون الذين باتت لديهم معلومات حول مخطط أعده مقاتلو تنظيم القاعدة للقيام بعمليات داخل التراب التونسي. وتخلص دراسة معهد واشنطن إلى أنه لا تزال هناك العديد من العقبات المحتملة أمام تونس حيث تبدو العملية الانتقالية على الصعيد السياسي، هشّة بالنظر إلى ما ستتخذه الأطراف من خطوات فعلية في الحوار الوطني للخروج من الأزمة السياسية الحالية بما يكفل لها قاعدة شعبية يمكنها الارتكاز عليها للتعامل مع التطورات التي يمكن أن يشهدها الشارع التونسي، باعتباره الفاعل والمحرك الأساسي لمجمل التطورات السياسية، إضافة إلى مخاطر أمنية واقتصادية ضخمة تكمن في كل الثنايا والمنحنيات، وهي جميعها أسباب تدعو الأطراف إلى العمل بسرعة للوصول إلى الانتخابات وإكمال المرحلة الانتقالية. رويترز