لم يشرح الأديب المبدع والباحث في الأسطورة والتوراة ناجح المعموري دلالة اختياره عنوان: قبعة موفق محمد لكتابه النقدي عن الشاعر موفق محمد.. سؤال قد يكون إضافيا لما انشغل به وهو يرصد ويتابع قصائد الشاعر وشعريتها في نصوصه، مثلما نشر بعضها في الملحق/ القسم الثاني من الكتاب. وقد يكون السؤال هذا نافلا إلا أن العنوان له دلالته أيضا في المتن والنص. ولأن النصوص الشعرية والشاعر ألفا القراءة بين جمهور، وتحولت إلى مشاهد يومية لصلات الشعر والشاعر والحدث اليومي في الشارع ومع الناس، لابد أن يسلط المؤلف ضوءه عليها للاستدلال والتعريف وتقديم النص الشعري وما اكتنزه في طياته إلى القارئ المهتم والمتابع. ولأنه الأقرب إليها روحا وزمانا ومكانا من خلال صداقته ومكابدته للظروف المشتركة، القاهرة والتي لم يعرفها إلا من عاشها، فهو يعبر عنها بما يليق بها معرفة وشرحا. جمع ما سجله ووضعه بين دفتي الكتاب مع النصوص وأخرى للشاعر الذي أبدعها وعبّرت عنه، كما أرادها أو كما نثرها ب «قوة الشعر وطاقته السحرية والتخيل».. الكتاب مقالات نقدية كتبت على فترات متباعدة، كما يقدم في الابتداء، «وتاريخ كتابتها هو تاريخ قصائده الذي أعرفه أنا. لأنني أول من يستمع لها في لحظة ابتداء الكتابة أو مفاجأتي بها مكتملة. موفق محمد شاعر أمين جدا على وظيفته الشعرية، يلاحق مصائر الناس ويكتب عنها بشجاعة لا يعرفها آخر منذ زمن الطاغية وحتى زمن الطغاة.» ص6. في الأسطر السابقة يحدد المؤلف مهمته في القراءة النقدية والكتاب. ويسلط الضوء على تشخيصها واختبارها مرتكزا لقيم نقدية للشاعر بورخيس ومعرفته الشخصية بالقدرات والإمكانيات. «موفق محمد شاعر المألوف/ اليومي/ المعروف لنا جميعا، لكنه يصفعنا به وكأننا لا نعرفه». ورغم ذلك فما حمله الكتاب يقدم الشاعر الذي تجاوز المكان وتعمق في الزمان، وحملت نصوصه المعاناة التي كابدها سوية مع الناقد وما بينهما، ومع التغيرات التي وسمت المرحلة، سياسيا وانعكاساتها شعريا ونثريا. في النصوص فجاءة ودهشة مقصودة من طبع الشاعر، وجدة تتحملها اللغة والخطاب الشعري الضدي الذي وظفه الشاعر والناقد أيضا. تتخلل النصوص صلات مباشرة مع اليومي والساخن والانحياز إلى الناس والربط في ثنائية الوضوح والترميز إلى درجة التوزع بينهما. إضافة إلى استخداماته المتكررة للكوميديا العراقية، نصا ودلالات عيانية، ظلت كما سجل الناقد: وأنا أول من نبه لامتدادها الفني والوظيفي/ ماثلة في المرويات/ والشفاهي التداولي وكأن النص لديه محكوم بعديد من الوظائف الاتصالية اليومية والمعروفة بطابعها التقليدي» ص11. ومن خلال الرمز وأسماء الحيوانات والأمكنة تستثمر النصوص طاقاتها واستفزازها.. وهو امتداد بارز في النصوص منذ نص «الكوميديا العراقية» وحتى نصه «محلة الطاق»، وصولا إلى التحريض والاستفزاز برؤية فانتازية مجابهة تتداخل مع لغة الجسد والقراءة الشفاهية والمباشرة مع المتلقي والمستمع والمشاهد أيضا، لصورة الشاعر ونصه وقراءته في وسائل الاتصال الحديثة التي أخذت تتداولها الشبكة العنكبوتية. التكرار في الاستخدام للرمز ولأسماء معينة، كأسماء الحيوانات والطيور أو النهر أو الأم أو الأشجار له وظيفته عند الشاعر بفضاءات دلالية وجمالية جديدة. ويعتقد الناقد أن معجم الشاعر الرمزي لا ينطفئ بل يظل مختفيا في كمين وسط الذاكرة، ويعاود يقظته وسط تشكلات دلالية مغايرة، (ص 42). يتواصل الناقد مع النصوص بلهفة رغم درايته، وبانغماس في أسرارها وتكرار أحيانا لمدلولاتها أو مسمياتها أو ما يكشفه فيها، وبتعمق في شعريتها وارتباطها بين الأقرب ثقافيا وروحيا لدى المتلقي لها، شفاهيا أو كتابيا. مع التأكيد على مفتاح فهم «الإبقاء على فاتحة النص مقصود، حتى رسم تصور نقدي خاص عن النص وإيضاح بعض مع تكونات عناصره وتنوع بناه، حتى يبدو الانسجام أكثر وضوحا وارتباطا...» (ص53)، في إطار قراءة واعية لكنوز التراث وهيمنة التراجيديا أو الكوميديا العراقية في المنجز الشعري أو الألم البشري مقابل ما يحصل من كوارث معاصرة. يشغل المكان أبعادا متعددة مع الذاكرة في النصوص، كما هي وظيفة الرموز الأسطورية والتراثية فيها. وهو ما حاول الناقد تفكيكها والوصول إلى تثبيت قدرة الشاعر على «جعل محلة الطاق مكانا متجوهرا ليس في الحلة والعراق وإنما في العالم. تحولت هذه المحلة إلى مكان يتسع للجمال والشعرية وبإمكانه التجدد والتعالي والتسامي»! ص78. والملحق في القسم الثاني ضم قصائد معبرة عما سبق للمؤلف قراءته وأضاف إليه. وهي من عناوينها تكمل الصورة: غزل حلي، شمس الحلة، يا حلة، بالتربان ولا بالعربان، محلة الطاق، أبواب، سبع عيون، سري للغاية، الجسر العتيق، شاكيرا. عنوان القصيدة الأولى هو عنوان المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر، ضامة عددا من قصائده المطولة والمعروفة، مشيرة إلى تجربة الشاعر من بداية السبعينات من القرن الماضي، التي بدأها بقصيدته المعروفة، كما بيّن المؤلف، «الكوميديا العراقية» والتي اقترحت من لحظتها ملامح تجربته الشعرية وتوجهاته الفكرية التي ظلت صاعدة ومتطورة وتجسدت برأي الناقد في قصيدتيه «سري للغاية» و»ما يبقى من أيامه». ويضيء في مقاله عن المجموعة بأنها يوميات العراقي/ سردياته التي لم يخترها، بل كتبها الآخر وصارت رسوما دالة عليه في الزمن. قبعة موفق محمد إضاءات ناجح المعموري النقدية وقراءات واعية لنصوص شعرية ونثرية إبداعية زاخرة بالهم العراقي والشعرية الحساسة للوجع والخسارات التاريخية في وطن اختلطت فيه الكوميديا بالتراجيديا، والسحر بالأسطورة، واليقين بالغياب.. ورغم الآلام والعذاب في عراق لا يراد له أن يموت، ولن يموت، ظلت البوصلة عند الشاعر والناقد موجهة صوب مجرى النهر: تهمس لغيوم تنقر باب القلب وسنابل ترقص عارية في البيت وأنهارا تجري خبزا وخمرا * الكتاب في 160 صفحة من القطع المتوسط، صدر عن دار تموز للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 2012. والغلاف من تصميم أمينة صلاح الدين.