آسفي .. إحياء فريضة الحج، بين فتاوى التحريم والتحدي اختلف المؤرخون في تاريخها، كما تم الاختلاف في أصل تسميتها، وبين كل خلاف أو اختلاف، كان لابد من إعادة رسم المشاهد والصور والوقائع التاريخية .. مدينة تحمل أكثر من اسم، وتنتسب لأكثر جهة .. لكنها تظل شاهدة على كل ذلك الاختلاف بالكثير من الإصرار على مواجهة المستقبل .. فمن هنا مر الفنيقيون والكنعانيون والبربر والبرغواطيون واليهود والفاتحون المسلمون والبرتغاليون والإنجليز والإسبانيون والمورسكيون والفرنسيون، جميعهم مروا من مدينة وديعة تنام على ضفاف الأطلسي، بينما بقيت آسفي شاهدة على زخم تاريخي يمتد إلى بدايات البدايات، دليلنا في ذلك أن التأريخ لهذه المدينة ينطلق من مرحلة ليس لها امتداد كما باقي الحواضر والمدن، فكان لزاما علينا أن نعود لما وراء الكتابات التاريخية، إلى حيث تم الاتفاق رغم روح الخلاف، إلى آسفي الأصل. والأصل منارة ووادي ومنحدر وبحر. وحين يجتمع البحر بالوادي والمنارة، تكون ولادة آسفي التي سماها ابن خلدون «حاضرة المحيط» . من أجلها سنكتب تأريخا بسيطا يعتمد أمهات الكتب رغم قلتها، وبحوث المؤرخين الجدد رغم اختلافها، والرواية الشفهية رغم تضاربها. لكننا حتما لن نذهب أبعد من كل ذلك، لتبقى آسفي تحمل لغز البداية، من بداية الحكاية، والحكاية رواية بين بدايتها. والنهاية ألف سؤال. آسفي .. إحياء فريضة الحج، بين فتاوى التحريم والتحدي توقفنا في الحلقة السابقة عن الفتاوى التي حرمت الحج وجعلته في بعض الواضع مكروها وإثما وضررا يُسقط الفريضة على من أدَّاها، وذكرنا حتى تلك التي أطلقها أبو حيان التوحيدي في مؤَلَّفِه «كتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي» قرن ونصف قبل مولد الشيخ أبي محمد صالح وبالضبط في سنة 380 هجرية الموافق ل 990 ميلادية، ونتحدث الآن عن الدوافع والمقاصد التي كانت وراء إحياء فريضة حرمها العلماء في وقت من الأوقات، وهي أمور تحدث عنها حفيده أحمد بن إبراهيم الماجري في كتابه «المنهاج الواضح»، ونقلها عنه الكثير من المؤرخين والباحثين، منها أن الشيخ أبو محمد صالح رأى منامة رواها لتابعيه ومريديه وصحابته، يقول فيها حسب ما جاء في الصفحة 37 من كتاب «الشيخ الصوفي أبو محمد صالح الدكالي الآسفي المغربي وإحياء فريضة الحج والجسر بين المغرب والمشرق» يقول فيها: «نمت ليلة، فرأيت فيما يرى النائم كأن ركن البيت الغربي شرفه الله سقط، فقمتُ وتحزَّمتُ وأخذت في بنائه، فأعانني عليه من الناس، أبناء العشرين والثلاثين حتى بنيته»، وهي رؤيا كانت حافزا له ودافعا ليتفكر في طريقة لإصلاح الركن الغربي، أي ربط صلة الجهة الغربية من أرض المسلمين بأرض الحرمين الشريفين، كما أن من بين المؤرخين من يعتبر أن هذه الرؤيا ما هي إلا ترجمة لحب وشوقٍ كان لدى عموم المغاربة لزيارة قبر الرسول الأعظم وزيارة الكعبة الشريفة، مستشهدين برسائل الحنين وقصائد الشوق التي كان المغاربة يبعثونها مع من تيسر له الحج، رسائل حفظها التاريخ، وكانت دليلا قاطعا على أنه ورغم فتاوى تحريم التوجه للحج، فإن وجدان المغاربة ظل قبل الشيخ أبو محمد صالح وفي حياته وحتى بعد وفاته مُعلقا شوقا وحنينا لمهد الإسلام، أرض الحرمين الشريفين، منها تلك التي حررها القاضي عياض وأبي الحسن اليوسي، وابن زاكور الفاسي، وأبي عمران موسى الزياتي وآخرون، وقد أدرج المؤرخون نماذج لهذه الرسائل التي تقطر وحبا وتعلقا وشوقا لزيارة قبر الرسول الأعظم عليه صلوات الله ورحمته، ويكفي أن نتوقف مع رسالة الشوق لأبن الخصال أوردها المؤرخ الفقيه الكانوني في مؤلفه «آسفي وما إليه» رسالة بدمع يسفح ونفس تلفح وصدر بأشواقه ملآن يطفح ...... فلم أملك يا رسول الله إلا رقعة «رسالة» تشكو بث التبريح، وتحية خفيفة المحمل طيبة الريح. وبالعودة إلى المنامة التي رآها الشيخ أبو محمد صالح في منامه، والتي كانت بداية لتحدي كبير، بدايتها تلك المُعارضة الشديدة التي لقيها منذ رجوعه من المشرق العربي وبداية طريقته الصوفية، وفيها يقول الشيخ أبو محمد صالح: «لما قدمتُ من بلاد المشرق، وأخذت في استعمال هذه الطريق، أنكر علي فقهاء الوقت وبَدَّعُونِي حتى ضاق صدري، وعيل صبري، فدعوت الله إن كان ما أنا فيه من هذا الطريق مما يُقرِّبُني إليه فيسره علي» مما يؤكد بأن طريق الشيخ لم تكن مفروشة بالورود، بل لقي معارضة من بعض فقهاء زمانه، وهو ما جعله يدخل تحدي كبير، بدايته تقوية طريقته وتوسيع أعداد مريديه وأتباعه، فكان أول تحدي منازعة أولئك الفقهاء في الكثير من الأمور الدينية، خاصة منها فتوى تحريم وإسقاط فريضة الحج التي يعتبرها ركنا أساسيا إذا توفرت الاستطاعة والقدرة ومعها توفر الأمن، فكانت التجربة الطويلة التي قضاها بالمشرق العربي جزء من ذلك التحدي الذي سيدخله الشيخ لإحياء فريضة الحج والدفع بالمسلمين المغاربة والأندلسيين للمشاركة في قوافل للحجيج، يسهر عليها شخصيا، خصوصا أنه خَبِرَ أحوال البلاد انطلاقا من الجزائر إلى لبنان شرقا مرورا بتونس وليبيا ومصر والشام تم لبنان، فكان أن فكر في إنشاء محطات أو مراكز أو زوايا لاستقبال الركب، قال عنها المؤرخ الكانوني نقلا عن حفيد الشيخ بأنه بلغت 46 وأربعين زاوية ومركز استقبال ركب الحجاج، انطلاقا من آسفي تم دكالة وحاحة وسوس ودرعة والجزائر بمدينة بجاية، والقسنطينة بتونس تم الإسكندرية بمصر تم الشام وانتهاء بلبنان وبأرض المقدس فلسطين، وكل ذلك يؤدي إلى أرض الحجاز، ولعل كل ذلك ما كان ليكون بتلك الطريقة التي لازال العلماء والمؤرخين يتحدثون عنها وعن طريقتها المُحكمة في الانتقال من مكان إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى، لولا الشخصية القوية التي كان يتمتع بها الشيخ أبو محمد صالح، ومعها ما نسميه رابطة الامتثال والتطوع والخضوع لتراتبية تبادل الأدوار وتوزيع المهام وبذلك فتح الله على يديه سلوك طريق تلك الأماكن المقدسة وكان أولاده وأحفاده وتلامذته على هذا المنوال في كل مكان مبشرين بالدعاء إلى بيت الله الحرام حتى تكون الركب الحجازي رسميا في الدولة المغربية له قاضيه وقائده، وكان أولاد الشيخ أبي محمد صالح يتولون قيادته ورياسته رسميا، ومن ذلك نورد بأن تلك الطريق التي رسمها شيخنا ووضع في بعض نقاطها زوايا ومراكز استقبال ركب الحجاج المغاربة كان يترأسها أبناءه كما هو حال ابنه عبد العزيز الذي كان مُكلفا بزاوية الشيخ بالإسكندرية، ليحل محله حفيده إبراهيم بن أحمد، فيما كانت الرياسة لبعض تلامذته بزوايا الشام والحجاز، كما هو الشأن بالنسبة للفقيه أبو الربيع سليمان بن محمد القيرواني الذي كان مسؤولا عن زاوية بجايةبالجزائر، وعبد الله الوسناني ببيت المقدس ، مع التأكيد على أن الزاوية التي كانت مقرا لتجمع الحجاج المغاربة قبل انطلاقهم نحو أرض الحرمين الشريفين، فتوجد بماسة بأرض سوس، وكان يترأسها الحاج أحمد الماسي وهو من مريدي الشيخ وتلامذته المقربين، والذي تم دفنه إلى جوار قبر شيخه برباط الشيخ بآسفي. ولعلنا لن نقفز على الدواعي لحقيقية التي كانت وراء إحياء الشيخ أبو محمد صالح لفريضة الحج، بعيدا عن التحدي وما إليه من الدفوعات التي قدمها المؤرخون وهم يتحدثون عن كل ذلك، إذ يرى عدد من الباحثين ومنهم الدكتور عبد اللطيف الشاذلي في كتابه «أبو محمد صالح بن ينصارن الماجري» بأن رغبة الشيخ أبو محمد صالح في إحياء فريضة الحج، تتمثل في ربط مريديه وطائفته بالجماعة الإسلامية لتأكيد ارتباطهم بالإسلام، فيما يؤكد المؤرخ « جورج درا Gorge Drague « بأن ذلك كان من أجل تمكين طائفته وأصحابه من الاندماج في الأمة الإسلامية والابتعاد عن كل نزعة انفصالية، وفي ذلك أي في طريقة إحياء فريضة الحج والدعوة إليها، سلك الشيخ أبي محمد صالح مسلكين مختلفين، مسلك الإلزام والإكراه بالنسبة لمريديه وأتباعه وتلامذته، ومسلك التحريض عليه والتحبيب إليه بالنسبة لزواره وعموم الناس ممن يقصدونه للتبرك والتيمن به، بل كان يضع شرط أداء فريضة الحج كطريق للإنخراط في طائفته، معتبرا بأن التوبة لا تكتمل إلى بأداء فرائض الإسلام كاملة والحج أحد أركانها إذا ما توفرت القدرة والإستطاعة لذلك. ولعل الكثير من المؤرخين والباحثين قد توقفوا طويلا أما هذا التحدي الذي ركبه في تنظيم ركب الحجاج أو الحجيج عن طريق البر وليس البحر، رغم أن آسفي كانت من بين أهم وأكبر الموانئ والمراسي آنذاك، ليتضح بأن شيخنا كان يمنع الحجاج من ركوب البحر، وهو أمر أكده الأستاذ محمد قبلي في كتابه «قراءة في زمن أبي محمد صالح»، بأن شيخنا كان يقوم بالنهي الصريح عن ركوب البحر، وذلك أسوة بفتاوى العديد من العلماء والفقهاء، معتبرين بأن تلك المراكب هي في ملك أعداء الدين من النصارى والمسيحيين، وأنهم يجرون أحكامهم على راكبيها من الحجاج المسلمين، مع صنوف من الإذلال والمهانة والفواحش والمناكر، وهي أمور أوردها ابن الزيات في كتابه «التشوف إلى رجال التصوف»، على لسان الولي الصالح أبي زكريا المليجي الذي استقل سفينة في ملكية النصارى لأداء فريضة الحج، فرأى من فواحشهم الكثير، لدرجة أنه قال عن ذلك بأن خدمة السفينة يعملون عمل قوم لوط، ولذلك كان الشيخ أكثر حماسة للحج عن طريق البر رغم المخاطر ومشاق الطريق.