راكم دفناء هذه المقابر شهرة ترسخت في كتب التاريخ ومكنتهم من أن يجمعوا حولهم مريدين، سواء على الصعيد المحلي أو الوطني أو حتى العالمي، وساهموا بتصوفهم وزهدهم وبساطتهم وتواضعهم وعلمهم الديني الواسع في أن ينسج عنهم مريدوهم العديد من الحكايات الغريبة، التي رفعتهم إلى درجة الولي الصالح، الذي تنفع بركته في علاج عدد من الأمراض المستعصية على الطب الحديث. وإلى جانب هذه «البركات»، أدرجت زيارة الأضرحة والزوايا، في الآونة الأخيرة، ضمن ما يعرف بالسياحة الروحية التي يمكن أن يعول عليها المغرب لجلب المزيد من السياح الأجانب وخلق انتعاشة في السياحة الداخلية. لكن هذه الأضرحة، في المقابل، أصبحت نتيجة الإهمال وانشغال بعض «الأتباع» بجمع «التبرعات» فقط مهددة بالفضائح الأخلاقية التي ترتكب في محيطها... إذا كان لمدينة أزمور معلمة دينية وصوفية ينتسب إليها الشعيبيون نسبة إلى أبي شعيب السارية دفين أزمور، وللأمغاريين، نسبة إلى رئيسهم أبي عبد الله أمغار معاصر أبي شعيب، نموذج نير في التصوف، فإن لمدينة آسفي معلمة دينية وتاريخية خالدة ينتسب إليها السفيانيون أو «الماكريون»، كما يصطلح عليهم البعض، نسبة إلى الشيخ سيدي أبي محمد صالح بن ينصران بن غفيان الدكالي الماكري نزيل رباط آسفي، هذا العلم الشامخ بالمدينة الساحلية كانت له بصمات لم يستطع العديد من الباحثين إحصاءها أو عدها، لما له من فضل وفير على المدينة في العديد من المجالات خصوصا الفكرية والتاريخية بله الدينية والعلمية والاجتماعية.. كان أبو محمد صالح إماما ذائع الصيت، يَرِد عليه الصوفية من المشرق للأخذ عنه، وانتشرت طريقته خلال القرن السابع، فكثر تلاميذه في الشام ومصر، حتى مدحه الإمام البوصيري قائلا: قفا على الجرعاء من جانب الغرففيها حبيب لي يهيم به قلبي تعتبر آسفي مسقط رأس هذا الولي الصالح، يقول حفيده صاحب «المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح»: «وأما بلده فهو آسفي المحروسة، وهي مسكنه وفي زمانه سورت، وأما تاريخ مولده فولد عام خمسين وخمسمائة، وتوفي رضي الله عنه عند صحوة يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي الحجة رحمة الله عليه ودفن في رباطه من البلد المذكور». تتلمذ أبي محمد صالح على أساتذة دكاليين كبار، من بينهم الفقيه أبو عمران موسى بن هارون السفطوري الماكري، والفقيه أبو عيسى المعيطي، ثم رحل إلى المشرق بعد تعريجه في الغالب على حاضرة فاس، التي قضى بها بضع سنوات، ثم انطلق في رحلة علمية، يقول عنها الفقيه يوسف التليدي في كتابه «المطرب في مشاهير أولياء المغرب» إنها كانت واسعة النطاق. تنقل صاحبنا في رحلته المشرقية بين مصر والشام والحجاز وتونس المحروسة وبجاية من أرض الجزائر. درس الفقه والشريعة وعلوم اللغة، على عدد من شيوخ المغرب والمشرق. يقول الأستاذ محمد جنبوبي في كتابه «الأولياء بالمغرب» (الصفحة 78): «في مصر، التي كانت إذاك مقاما للعديد من علماء ومتصوفة المغرب، من مثل أبي محمد عبد الرزاق الجزولي، وأبي العباس التميمي، وأبي عبد الله القرشي، والشيخ عبد الرحيم المغربي، وأبي الحسن الشاذلي، وغيرهم، سيلازم أبو محمد صالح بمدينتها الساحلية الإسكندرية لمدة عشرين سنة الشيخ إسماعيل بن مكي بن عوف الزهري، كما لازم من بعده ولديه أبا نجم وأبا محمد عبد الوهاب، ثم أخذ عن الفقيه محمد بن أبي بكر الكرخي، وأحمد بن محمد السلمي ومخلوف بن جبارة.. وغيرهم». وقد انتشرت الطريقة الصالحية وبلغت فروعها أكثر من ثلاثين زاوية منها الموجودة بعبدة، ودكالة، ومراكش وأحوازه، والسراغنة، والرحامنة، وورزازات، وحاحا، وبني ملال، وسلا، وفاس، وصفرو، والأطلس المتوسط، وماسة، وتارودانت، ودرعة، والجزائر، ومصر، والشام. وقد ذكر الفقيه العبدي الكانوني في كتابه «آسفي وما إليه» أن «أبا محمد صالح كانت له عدة زوايا في المشرق والمغرب، وهذا الرباطبآسفي هو مركزه الوحيد الذي طار له الصيت في الآفاق وشد إليه الرحلة الرفاق. فكم تخرج منه من الأئمة الأعلام والشيوخ المرشدين.. وقد ظلت هذه الزاوية بآسفي شاغلة فراغا كبيرا طيلة النصف الثاني من القرن السادس وكامل السابع والثامن والتاسع». لكن المشروع الفكري والإصلاحي والتربوي عند الإمام أبي محمد صالح الماكري سيعرف مداه مع «ركب الحاج المغربي». وأثارت مسألة الحج جدلا كبيرا في بلاد المغرب، حتى أصدر في حقها الإمام الطرطوشي والإمام المازري فتوى تسقط الحج عن المغاربة، وكذلك بعض فقهاء دكالة الذين نحوا نفس المنحى.. وبقيت الأمور بين أخذ ورد إلى أن ظهرت دعوة أبي محمد صالح لتأسيس «ركب الحاج المغربي»، الذي عرف أول الأمر ب «الركب الصالحي»، حيث كان ينطلق من مدينة آسفي في اتجاه الحجاز.. وذكر الأستاذ علي الغزيوي في مقاله «الركب النبوي والهدايا السلطانية الرسمية خلال موسم الحج» بمجلة دعوة الحق، س.41، ع350 /مارس 2000 ص 28) أن العلامة محمد المنوني يرجح أن تكون الطريق التي سلكها «ركب الحاج المغربي»، هي الطريق نفسها التي سلكها الرحالة العبدري، الذي بدأ رحلته في 25 ذي القعدة من سنة 677ه براً من بلده «حاحا» على المحيط الأطلسي في المغرب الأقصى، وقطع كثيرا من المدن في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر، ثم دخل أراضى الحجاز، فأدى فريضة الحج، ويمم شطر فلسطين، فزار بعض مدنها ثم عاد إلى بلده برا. وبذلك عملت الطريقة الصالحية على محاربة الدعوة إلى إسقاط الحج عن المغاربة بذريعة المخاطر التي يتعرض لها الحاج أثناء السفر. وذُكر أن الدعوة الصالحية للحج سن لها صاحبها عدة تنظيمات، منها نصب مقدمين للحجاج موزعين بين الجهات التي بها مريدوه، وتوصية الحجاج بالتزام السفر على طريق البر، وحظر عليهم ركوب البحر»، ويشير العلامة المنوني: «أن أبا محمد صالح قد أعد خريطة، انطلاقا من رباطه بمحروسة آسفي، لمراكز استقبال ونزول المسافرين المتوجهين لأداء مناسك الحج، وعين قيمين عليها. لقد بث الإمام أبي محمد صالح أصحابه في المراكز من آسفي إلى الحجاز، وجعل ولده السيد عبد العزيز بمصر، حتى توفي بها، ثم كان حفيده إبراهيم بن أبي محمد صالح بالإسكندرية، وكان بعده العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم صاحب كتاب «المنهاج الواضح في كرامات الشيخ أبي محمد صالح»....