راكم دفناء هذه المقابر شهرة ترسخت في كتب التاريخ ومكنتهم من أن يجمعوا حولهم مريدين، سواء على الصعيد المحلي أو الوطني أو حتى العالمي، وساهموا بتصوفهم وزهدهم وبساطتهم وتواضعهم وعلمهم الديني الواسع في أن ينسج عنهم مريدوهم العديد من الحكايات الغريبة، التي رفعتهم إلى درجة الولي الصالح، الذي تنفع بركته في علاج عدد من الأمراض المستعصية على الطب الحديث. وإلى جانب هذه «البركات»، أدرجت زيارة الأضرحة والزوايا، في الآونة الأخيرة، ضمن ما يعرف بالسياحة الروحية التي يمكن أن يعول عليها المغرب لجلب المزيد من السياح الأجانب وخلق انتعاشة في السياحة الداخلية. لكن هذه الأضرحة، في المقابل، أصبحت نتيجة الإهمال وانشغال بعض «الأتباع» بجمع «التبرعات» فقط مهددة بالفضائح الأخلاقية التي ترتكب في محيطها... برز القاضي عياض كأحد فطاحلة علماء المغرب، وإماما من أئمة اللغة في زمانه، إضافة إلى براعته ونبوغه في النحو، والحديث، وعلومه، وأخبار العرب، وأيامهم وأنسابهم. وما ميز القاضي عياض هو العدل والصلاح اللذان طبعا شخصيته. يعود أصل الإمام القاضي عياض إلى «حمير» إحدى قبائل اليمن، ولد عام 476ه/1083م، بمدينة سبتة، التي كانت ملتقى علماء المشرق والمغرب والأندلس، ومركزا من المراكز العلمية. درس بها على يد شيوخ كبار من أمثال عبد الله بن سهل، الذي درس على يديه القراءات، ودرس الفقه وأصول الدين على يد عبد الله بن محمد اللخمي، وعلم الكلام على يد عبد الغالب بن يوسف السالمي، واستكمل دراسته بالأندلس على يد ابن عتاب، وابن حمدين، وأبي علي الجياني، وغيرهم. «لولا عياض لما عرف المغرب» عبارة صارت بذكرها الركبان، تدل على مكانة الرجل في عصره، وهذا ما جعل الملوك في المغرب يحترمونه ويقدرونه، ومن ذلك أن القاضي عياض عندما رحل إلى الأندلس، بعث الأمير علي بن يوسف برسالة إلى قاضيه بقرطبة، يوصيه فيها بالقاضي عياض خيرا، ومما يبرز مكانته العلمية أيضا، ما قيل له حين عزمه على إتيان بعض الأشياخ: «لهو أحوج إليك منك إليه». وبعد ذلك رجع عياض إلى سبتة مزودا بإجازات شيوخه عام 508ه، وأجلسه أهل بلده للمناظرة عليه في المدونة، وهو ابن اثنين وثلاثين عاما أو نحوها، ومن المعروف أن المناظرة هي أرفع مستويات العلم، كما أن المدونة هي أعلى مرجع في الفقه المالكي، واشتغل القاضي عياض بالقضاء، والتدريس، وتخرج على يديه عدد من كبار علماء العصر، من أمثال ابنه عبد الله محمد، وابن مضاء اللخمي، وأبي العباس أحمد الأنصاري، وأبي عبد الله محمد عطية، وعبد المنعم بن يحيى الحميري، وغيرهم. وقضى القاضي عياض زهاء عشرين عاما في القضاء بسبتة وغرناطة، فكان مثالا للقاضي النزيه العادل، إلى درجة أنه نفذ حد الخمر على الفتح بن خاقان، صاحب «قلائد العقيان»، وما كان من هذا الأخير إلا أن جعله في آخر قلادة من قلائده، إذ جعله آخر من ترجم لهم في الكتاب، لينقص من مكانته، بالإضافة إلى أنه لم يوفه حقه، إذ اختصر الكلام عنه في صفحات معدودة، بالرغم من مكانة الرجل العلمية والاجتماعية. وإلى جانب علمه وعدله، كان كثير التواضع، متين الدين، شديد التمسك بالسنة، وشديد الإخلاص للمرابطين، والتعلق بهم، كما اعتبر من أكثر المدافعين عن المذهب المالكي. وقام القاضي عياض بدور سياسي مهم، برز في فترة انتقال الحكم من المرابطين إلى الموحدين، والدافع إلى هذا الموقف هو معارضته للمذهب الموحدي القائم على القول بالعصمة والمهدوية والإمامة، مما يتعارض والاتجاه السني المالكي، الذي يقول به القاضي عياض، فأعلن عن ثورته الأولى عام 536ه، والثانية عام 543ه، وانتهتا بنفيه إلى مراكش حيث توفي عام 544ه، ودفن بباب أغمات. وهذا من أسباب اختياره ضمن رجالات المدينة الحمراء، وذلك حسب الباحث حسن جلاب: «لأن دولتهم المرابطين، دولة الفقهاء والعلماء» و«لتمسكهم بالسنة، وزهدهم وتواضعهم»، و«لدفاعهم عن الإسلام بالأندلس، ومحاربتهم البدع والخرافات»... وخلف القاضي عياض عدة مؤلفات، منها «مشارف الأنوار»، و«بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد»، وهما في الحديث ورجاله، «والإعلام بحدود قواعد الإسلام» و«ترتيب المدارك» و«التنبيهات» في الفقه، وفي السيرة ألف كتاب «الشفا»، وفي الفهارس الغنية في شيوخه وفي النوازل: «أجوبة القرطبيين». وله رسائل إخوانية وعظية، كما له كذلك أشعار جيدة.