أعلن رئيس تحرير صحيفة «القدس العربي» وناشرها، الصحافي الفلسطيني عبد الباري عطوان، الثلاثاء الماضي، استقالته من منصبه وانتهاء علاقته كليا مع الصحيفة التي تصدر من لندن، وذلك دون أن يُفصح عن الأسباب الكامنة وراء قرار الاستقالة، إذ اكتفى بالقول إنّ القرار أملته «الظروف ومتطلباتها، خاصة عندما تكون هناك أطراف أخرى لعبت دورا بالدفع باتجاه هذا القرار». من دون شك، أن حيثيات هذا القرار وملابساته ستتضح مستقبلا، وذلك بالموازاة مع المسار الذي ستتخذه الصحيفة التي احتضنت كثيرا من الكتاب والمثقفين العرب، وقدمت مادة ثقافية جيدة، فضلا عن مواقفها السياسية المعروفة ومتابعاتها الصحفية للأحداث الفلسطينية والعربية والعالمية، وبالرغم مما يمكن تسجيله من اختلاف مع الصحيفة أو مع كتابات ومواقف ناشرها، فمع ذلك فهي تعتبر تجربة بارزة في الإعلام العربي، ويبقى عطوان واحدا من الأسماء الصحفية العربية الوازنة خلال السنوات الأخيرة. إن التغيير الذي حدث على رأس صحيفة «القدس العربي»، واستقالة ناشرها، بالإضافة أيضا إلى تطور التجربة ككل منذ ميلادها، يجسدان بامتياز علاقة الإعلام بالسلطة السياسية، وتداخلهما، وربما تكون تناقضات هذه العلاقة وتداخلاتها هي بالذات سبب التغيير اليوم. وإذ نسجل هنا أن علاقة صحيفة عبد الباري عطوان بالمغرب بقيت في المجمل عادية، ففي المقابل شهدت علاقتها بعدد من الأنظمة العربية كثير مواجهات، وأيضا كثير صداقات مع أنظمة وحركات وقوى أخرى طيلة الربع قرن الأخير، وقد تكون حراكات ربيع اليوم، وتبدل المصالح والأهداف وموازين القوى والضغط في المنطقة هي التي سرعت بإدخال «القدس العربي» مرحلة جديدة لا زالت لم تتضح ملامحها التحريرية والسياسية بعد. إن مؤشرات عديدة تبرز هنا وهناك تغلف أخبار التغيير الذي وقع في «القدس العربي»، وغالبيتها لها اتجاه واحد يقود نحو العاصمة القطرية الدوحة، وبالذات إلى داخل حسابات التغيير السياسي الذي حدث مؤخرا على رأس هذه الإمارة الخليجية الغنية، وبالتالي قد تكون «القدس العربي» من ضمن أهداف وركائز قطر الجديدة على عهد أميرها الشاب تميم بن حمد، إلى جانب وسائل إعلامية وآليات إشعاعية أخرى. وواضح جدا أن التباسات العلاقة بين الصحافة والسلطة السياسية ستبقى لصيقة ب «القدس العربي» حتى بعد استقالة مالكها عبد الباري عطوان، ولن يكون استبيان خطها التحريري المستقبلي إلا من خلال معرفة منطلقات وأهداف وحسابات مالكيها الجدد. وتكشف تجربة «القدس العربي» اليوم، وأيضا تجربة قناة «الجزيرة» وسواهما من كبريات المؤسسات الإعلامية العربية المعروفة، الحاجة إلى توضيح العلاقة بين الإعلام والسلطة، وبالتالي تنظيم الإعلام وفق قواعد مهنية وتدبيرية واضحة وحديثة، على غرار المعمول به في بلدان أوروبية متقدمة(بيبيسي مثلا في بريطانيا)، والابتعاد عن الاقتحام الفج من طرف السلطة لشؤون الإعلام، وبلا هذا، فالدوران سيستمر ضمن حلقة مفرغة، وكل تغيير شكلي سيحدث هنا أو هناك سيكون حاملا في أحشائه أسباب موته آجلا أم عاجلا.