ليس تاريخ الحضارات إلا حصيلة تراكمات الإبداعات البشرية بمختلف تلويناتها، والتي تجسد الموروث الثقافي للشعب والدولة، وبالتالي تجسد هويتهما ومعالم وجودهما وحضورهما السياسي والاجتماعي. وعلى هذا الأساس فإن أسئلة الثقافة هي أسئلة الذات والمجتمع والدولة، ومن تم سيكون لزاما على كل مواطن أن يعيشها فكريا ووجدانيا. إن المغرب كيان ثقافي يحمل كل مقومات التميز، سواء من حيث نسيجه البشري والاجتماعي وعادات وتقاليد أقاليمه وجهاته وقبائله ومدنه، أو من حيث لغاته ولهجاته وتمثلاته، أو من حيث فنونه المحلية وجماليات إيقاعات ونغمات أهازيجه ورقصاته، أو على مستوى أشعاره وكلمات أغانيه وملحون قصائده وتلاوين العروض الفرجوية في ساحاته الشعبية وغير ذلك. إن المغرب أرض للتنوع الإبداعي والثقافي، فضاء للتصالح والتسامح والتبادل والتعايش بين كل مكونات فسيفساء ثقافته، حيث تلتئم كل هذه المكونات لتشكل المغرب الثقافي. هذا المغرب الثقافي الذي يفرض علينا وعي رهانات الثقافة وشروط تنزيل سياسات تدبير الواقع ونقد معيقاته، والانفتاح على الأسئلة الممكنة للتصالح مع انتظارات المغاربة في مختلف أبعادها الفكرية والإبداعية والفنية والتراثية. كما أن موقع المغرب الجيوستراتيجي كشريك لأوروبا في التاريخ والحضارة المتوسطية، وكبوابة لإفريقيا بكل جذورها الرمزية، يفرض علينا اليوم تخليد وإعلاء المعالم والقيم الوطنية المُوَحِّدَةِ سياسيا واجتماعيا ودينيا ورمزيا لهوية مغربية متجذرة في أصالتها وجامعة لمكوناتها ومنفتحة على امتداداتها في التاريخ والجغرافيا. وعلى هذا الأساس فالمغرب الثقافي نعتبره أفقا ورهانا سياسيا تتكامل حوله كل أهدافنا السياسية، كمسؤولين سياسيين وكمثقفين ومبدعين وكمناضلين في أحزابنا ونقاباتنا وكمواطنين أبناء هذه الأرض الطيبة. إن أية سياسة عمومية في مجال تدبير الشأن الثقافي في مغرب اليوم يجب أن ترتكز على هذه المرجعية الأصيلة التي أقرها دستور المملكة ونص عليها برنامج العمل الحكومي لسنة 2012، هذه المرجعية التي تتطلب منا كل من موقعه ومسؤوليته الانخراط في ورش الإصلاح والارتقاء بالشأن الثقافي في بلادنا، على مستويات المشاريع والتدابير وأشكال التنزيل الإصلاحي للثقافة في جهات وأقاليم المملكة. لقد أصبح لكل المغاربة الحق في التوفر على بنيات استقبال ملائمة للعمل الثقافي والفني ضمن تصور حقيقي وملموس لثقافة القرب، ضمن كل الجماعات الترابية، وهذا حق يجب أن تتكامل الإرادة السياسية الحكومية، وقطاعات المجتمع المدني والخواص لتنزيله وجعله ملموسا على الأرض، الأمر الذي يفرض مقاربات إرادية جهوية ومحلية لإنشاء وإعداد بنيات تحتية ثقافية متعددة الاختصاصات، لكي تحتضن المسرح، والمعهد الموسيقي والخزانة وفضاءات العرض، دونما إغفال الاهتمام بالتراث والمواقع الأثرية المحلية، عبر الترميم والصيانة وربطها بالدورة الاقتصادية الثقافية في أرضها ومجالها. إن التراث المادي واللامادي جزء من هوية وذاكرة كل المغاربة، ولذلك وجب علينا من باب المسؤولية التاريخية اتجاه الأجداد والآباء والأحفاد أن نرفع شعار: «عظمة المغرب في تراثه ومآثره». إنه نداء لتثمين تراثنا وآثارنا ورد الاعتبار لها في المدن والقصبات، إنه تحدي الحفاظ على الأنا والذاكرة التاريخية، وهذا رهان آخر يفرض علينا مقاربة تدبيرية إصلاحية علمية وإدارية وسوسيو اقتصادية اتجاه مواقعنا الأثرية وتراث أبائنا وأجدادنا. فسيكون مفيدا جدا، مثلا، أن نحدث تدريجيا بجماعاتنا القروية «دارا للتراث» تمكن من تجميع ورسملة كل ما تتوفر عليه الجماعة في مجال التراث المادي واللامادي. وستسمح «دور التراث» هذه للساكنة بالمحافظة على خصوصياتها الثقافية ورد الاعتبار لها وإدماجها في تنمية الجماعة والبلاد عموما، كما ستمكن هذه الدور الأجيال الصاعدة من الرجوع إلى موروثها والحفاظ بالتالي على هويتها الثقافية. إن المغرب الثقافي لا يمكنه الإقلاع بدون عقول وإرادات مثقفيه وشعرائه وكتابه ومسرحييه وفنانيه، هذه الفئات التي تعتبر القوى المبدعة المحركة للدينامية الثقافية في قلب المجتمع، ولهذا فإن أولويات السياسة العمومية في هذا المجال هي الاعتراف بالأدوار التنويرية والتطويرية لكل المبدعين والمثقفين المغاربة، وبالتالي تفعيل وتوسيع مجالات وإمكانيات الدعم المخصص لقطاعات المبدعين في الكتاب والنشر والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية ولكل الفاعلين في هذا المجال، مع ضرورة تطوير المقاربات السوسيو سياسية المؤطرة لعمليات الدعم والمواكبة، باتجاه الارتقاء بالمسؤولية الإبداعية، وتطوير منطق الجودة وجمالية الإبداع الحامل والمحرر لقيم الحداثة والديمقراطية والمواطنة وكل الآفاق الواعدة للمغرب الثقافي للألفية الثالثة. ولهذا فإن الارتقاء بقيمة المنتوج الثقافي والفني لا ينفصل عن ضرورة الارتقاء بالوضع الاعتباري والمادي للمبدع والمثقف، وتطوير صيغ التدبير الإداري للمعارض والمحافل والمهرجانات التي تقام في ربوع مغربنا، من أجل إدماجها في الدورة الاقتصادية المحلية والجهوية لأقاليمنا ومدننا وبلورة مقاربة تسويقية احترافية لمنتوجنا الإبداعي محليا وفي الخارج. إننا في أمس الحاجة اليوم لنهج سياسة إرادية في مجال صناعة وتسويق المادة الثقافية بالمغرب بالتعاون والتكامل بين القطاعات الحكومية العاملة في مجالات الثقافة الاتصال والسياحة والشبيبة والرياضة والصناعة التقليدية...، بالإضافة إلى الخواص وكل الفعاليات في المجتمع المدني، وهذا بعد استراتيجي واعد في مجال تطوير الإبداع ينبغي أن تتقاطب كل الإرادات من أجل إنجاحه. إن المنتوج الثقافي اليوم أصبح واجهة رمزية وحضارية للمملكة بكل أبعاده الجمالية والفنية، إنه بطاقة تعريفنا الدولية على المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية، ولذا وجب علينا جميعا الاهتمام بتطويره والارتقاء به، وفق هدفين استراتيجيين أساسيين: الهدف الأول: وهو العمل جميعا فنانين ومبدعين، للارتقاء بالقيمة الجمالية لمنتوجنا الثقافي لكي يصبح حاملا للرمزية الحضارية للمغرب الثقافي وفي هذا فليتنافس المتنافسون. الهدف الثاني: ويتعلق بالأدوار الهامة التي يمكن أن تلعبها الدبلوماسية الثقافية باعتبارها الجسر التواصلي الرابط بين مغربنا وبين العالم. إن حوار الحضارات أصبح يفرض خروج الثقافة والمنتوج الثقافي والحضاري للوطن من الانطواء، إلى فتح آفاق الحوار والتبادل ونقل الخبرات والقيم الفنية والثقافية والجمالية للإنسان المغربي، والتعريف بالكنوز الحضارية للمغرب الثقافي. وهنا تبرز مسؤولية الفاعل الثقافي المغربي سواء كان سياسيا أو مدبرا جهويا أو مركزيا للشأن الثقافي، أو كان مبدعا في مجالات الثقافة والفنون، إنها مسؤولية المثقف الملتزم بالوطن وقضايا الوطن، المؤمن بالمغرب كرأسمال رمزي حضاري بكل رهاناته السياسية والثقافية. إن التعريف بجماليات المغرب الثقافي يفترض مقاربة ترويجية وتسويقية لكل ألوان الجمال في المغرب: من معمار ولباس وطبخ وأهازيج ورقصات وأعراس واحتفالات بالأرض والفروسية والحصاد ومواسم الزيتون والأركان وحب الملوك والتمور والورود...إلخ. والانفتاح على كل إبداعات مثقفينا وفنانينا، هو الإطار الذي يجب أن نأخذ من عمقه الجمالي كل اللوحات التي يمكن أن تشكل إرساليات الدبلوماسية الثقافية، وعلينا العمل في إطار هذا الأفق على تنسيق الجهود من أجل تطوير أدائنا السياسي والثقافي والفني لتحقيق هذا الهدف. إن مسؤولية الفاعل الثقافي أصبحت تفترض ليس مجرد الوعي بالعمق الرمزي الوطني لأي فعل ثقافي يجب أن ينخرط في مشاريع إرساء وبناء المجتمع الحداثي الديمقراطي بكل قيمه الأصيلة والتنويرية، بل أصبح من اللازم أيضا العمل على الارتقاء بجودة الفعل الثقافي، ومن تم فإن سؤال الحكامة يأخد تموقعه في عمق سيرورات إصلاح الشأن الثقافي في مغرب اليوم؛ إذ لم يعد من الممكن القبول بالاختلالات التدبيرية في المجال المالي أو الإداري أو البشري، على مستوى تنزيل مخططات وبرامج عمل قطاع الثقافة، لأن الكل أصبح واعيا بأن حكامة الفعل التدبيري في مجال الثقافة من شأنه أن يطور إيجابيا تنزيل المشاريع الثقافية، سواء على المستوى المركزي أو الجهوي أو المحلي، وهذا ما يفرض علينا ضرورة تطوير نظرتنا ومقاربتنا التدبيرية لسؤال وآليات تنزيل الحكامة. وعلى أساس هذه المرجعية الجديدة أصبح لزاما علينا تطوير آليات التنزيل الإداري والقانوني لمجموعة من المراسيم التشريعية والقوانين المنظمة للدعم، والمرجعيات الإدارية لبناء وإعداد الشراكات، وكل الترسانات القانونية المتعلقة بالمؤسسات الثقافية. كما أننا أصبحنا مطالبين بتحسين صيغ مواكبة الفنانين والمبدعين والكتاب والناشرين وفق رؤية تضامنية تكاملية تهدف التطوير والارتقاء بالشأن الثقافي، وذلك عبر إرساء شروط قيام صناعات ثقافية وإبداعية كرافعة لدعم الإبداع والمبدعين، عبر التشجيع على خلق مقاولات وتعاونيات ثقافية وفنية بهدف تنظيم وتقنين السوق الثقافية والفنية ببلادنا. وأصبحنا ملزمين أيضا بإيلاء الاهتمام اللازم للتأطير والتكوين التأهيلي المستمر للعاملين في الحقل الثقافي، بغية الارتقاء بكفاياتهم وتطوير ممارستهم المهنية بما يضمن السير الأمثل للمرافق التي يشرفون عليها. كما أننا ملزمون بنهج سياسة تكوين في مجال مهن الموسيقى والمسرح والتشكيل والفنون الكوريغرافية وغيرها من الفنون. لقد أصبح تدبير الشأن الثقافي يتجاوز مهام حراسة المنشآت الثقافية والعتاد اللوجيستيكي، أو أدوار توزيع فضاءات المعارض والعرض أو التنظيم الزمني لذلك بين الفرق وأصحاب العروض. لقد أصبحت كفايات تدبير الشأن الثقافي تقتضي التوفر على الرؤية الإستراتيجية للتنشيط الثقافي والانفتاح على المحيط الاجتماعي وتفعيل آليات الارتقاء بمكونات العملية الثقافية التراثية والمسرحية والغنائية/ الموسيقية، والتشكيلية ومجالات الشعر والقصة والكتاب وتحديات القراءة وتنشيط الخزانات العمومية وكل ما يستجيب لحقوق وحاجيات أبناء شعبنا في الثقافة والترفيه. إن حكامة التدبير الأمثل للشأن الثقافي أصبحت تقتضي تجاوز الممارسات الكلاسيكية في إدارة الشأن الثقافي، وبالتالي التركيز على كفايات تفعيل دينامية التنشيط السوسيو ثقافي للقرية والجماعة والمدينة والجهات ضمن رؤية سياسية ثقافية تثمن الكنوز المحلية وتعلي من رمزيتها وشأنها، وتعتني بالمثقف والمبدع والمسرحي والفنان المحلي وتدمجه في محيطه الإقليمي والجهوي والوطني وتمنحه الاعتراف الذي يليق به، وبالتالي تطوير الدينامية السوسيو اقتصادية للمنتوج الثقافي برؤية احترافية تجعل النشاط الثقافي في قلب التنمية المجالية. إن هذه الرؤية تتجاوز الأدوار التدبيرية المغرقة في البيروقراطية، لأن الثقافة شأن اجتماعي جماهيري يدخل في صميم اليومي الإنساني، فلقد أصبح لزاما علينا بناء جسور محكمة بين العرض الفني والثقافي والجمهور المغربي، وإرجاع الثقة للمواطن المغربي في ثقافته ومثقفيه وفنانيه، وتحفيزه لاستهلاك المادة الثقافية الوطنية والإقبال عليها وهذا هو الهدف الجديد للإدارة والتدبير في مجال الشأن الثقافي ضمن إطار شعار الحكامة الجيدة. إن شعبنا المغربي شعب يحب الجمال والأعمال الثقافية الجميلة في الموسيقى أو الشعر أو المسرح أو التشكيل. فلتتكامل جهودنا جميعا من أجل منح هذا الشعب الأصيل هذه الهدية الثقافية الجميلة التي تليق بمغربنا الثقافي.