لذة الاسترجاع ومتعة اللعب الروائي كيف تتحقق «لذة الاسترجاع» في رواية «بريد الدارالبيضاء» لنور الدين محقق؟ وما هي قسمات اللعب الروائي في هذا النص؟ وكيف تُحقق تلك القسمات متعته؟ وهل يمكِّن هذا اللعب الجمالي من تشكيل دلالات النص وأبعاده التصويرية؟ وما دور التلقي في الكشف عن الجانبين: لذة الاسترجاع، وأبعاد اللعب الروائي في النص؟ هذه بعض الأسئلة التي سننطلق منها في قراءة رواية «بريد الدارالبيضاء»، وهي الرواية الثالثة للروائي والشاعر والناقد نور الدين محقق، بعد روايتيه:»وقت الرحيل» و»وشم العشيرة». وتشتغل هذه الرواية استنادا إلى لعب فني يوهم باستثمار السيرة الذاتية للمبدع نور الدين محقق ذاته، عن طريق توظيف الذاكرة وآليات الاسترجاع، لكن من يتأمل النص يجد أن لعبة الإيهام بالسيرة هو ما يشكل قسمات اللعب الروائي في «بريد الدارالبيضاء»، ويؤكد انتماءها إلى هذا الجنس الأدبي الفاتن. تبدأ الرواية من رصد حركة الشخصية المحورية- نور الدين- وأفعالها وأقوالها وطبيعة علاقاتها داخل الأسرة وخارج نطاقها: في المدرسة والشارع... وغيرهما من الفضاءات. ومن خلال هذا الرصد والتتبع السردي الدقيق لمسيرة نور الدين تتشكل أمام ناظرينا سيرته الروائية، وسر رسائله البريدية التي استأثرت باهتمامه، وشغلته وشغلت الناس من حوله، كما تكشف سر علاقته بالطفلة كوثر التونسية وتطور هذه العلاقة بينهما. تُشرع الرواية باب لعبتها المتخيلة منذ الفصل الأول الذي يحكي- في لمحات سريعة- بداية علاقة الصبي المغربي نور الدين بالطفلة التونسية كوثر عن طريق المراسلة التي انفتح مجالها بينهما من خلال مجلة الأطفال «عرفان» التي نشرت رسالة لنور الدين كانت سبيله نحو كسب صداقات أصدقاء وصديقات من بلدان عديدة، ومن بينها صداقة الطفلة التي لا تقل عنه تميزا من حيث القدرة على الكتابة، ومن حيث الاطلاع الواسع على الأدب: «كوثر التابعي» التي سيلتقيها مرة أخرى في «موقع دروب» ويربط بينهما العالم الافتراضي الذي وفرته وسائل التواصل الحديثة، بعدما كبرا وعركتهما الحياة، فكانت هذه الصدفة الجديدة حافزا على الكتابة: كتابة الرواية/السيرة، واسترجاع الذكرى وتحويلها إلى متخيل سردي ماكر وفاتن. وفي الفصل الثاني تتشكل «لذة الاسترجاع»، هذه، عبر كتابة رسائل إلى الأديبة كوثر، وإلى القراء، الذين سيشجعون الراوي على كتابة سيرته الروائية، ونبش ذكريات طفولته وسر علاقته بالصغيرة كوثر. وهكذا تمضي الرواية في بناء متخيلها مستثمرة مدونات مختلفة، وتقنيات فنية شتى قصد تشكيل لعبتها السردية وتأثيث عوالمها الحكائية. تذهب الرسائل التي ضمها الفصل الثاني: «عذراء أريانة» إلى الماضي، وتؤوب إلى الحاضر، وتنبئ بالآتي في تشكيل سردي لا يخلو من طرافة ومقدرة على السفر في أغوار الذات والذاكرة والتاريخ والأدب والسينما والغناء. وقد كان الاسترجاع في هذه الرسائل يؤدي دورا في عملية إحياء الذكرى وإثارة الانتباه إلى الذات الساردة في أفق ربط أواصر الصداقة من جديد بين نور الدين وكوثر، ولو في أفق روائي قوامه النوستالجيا والتغني بالزمن الجميل: زمن الطفولة في براءته وأشواقه وتطلعاته العفوية. يقول السارد في الرسالة الثانية من الرسائل السبع التي بعث بها إلى الأديبة كوثر التابعي عبر «موقع دروب»: «...كنت أنزوي في سريري، وأحمل إليه عودا مربعا، ظل بشكل من الأشكال هو المكتب اليومي المتنقل معي إلى الآن. كلما ذهبت إلى السرير حملته معي. كنت أطلق عليه سرير الكتابة. آخذ قلما وأقتطع ورقة من أقرب دفتر إلي. وأبدأ في كتابة رسالة إلى صبية فاتنة اسمها، كوثر، كان خطي جميلا، وكنت حريصا على المبالغة في جعله يبدو أجمل من المعتاد. كنت عازما على جعل هذه الصبية الأديبة، التي كانت تحرجني بأسئلتها الكبيرة جدا، على جعلها تنصاع إلى قوة أسلوبي، في حين، كانت هي تصر على معرفة آرائي في كثير من الأشياء، في الفن، في الصداقة، في الأدب، في مختلف العوالم الإنسانية المحيطة بنا، وكنت أحار في الإجابة عن أسئلتها. مرة غضبت منها، فأجبتها في رسالة قصيرة جدا، قائلا لها: «كل شيء حولي جميل، دعيني أكتب فيك قصيدة، وكفى»، كانت أعمق مني. كانت تعرف كل شيء تقريبا، أما أنا فكنت أحرص على التفوق عليها فيما تعرفه، لكني لم أعرف أنها كانت تأتي الأولى دائما في قسمها مثلي تماما. لم تقل لي ذلك أبدا، أما أنا فلعلي قلته لها من أول رسالة إليها، قصد تعريفها مع من تتراسل.» (الرواية، ص.19-20) تكشف هذه الرسالة السردية عن نوع من الحنين إلى لحظات الاختلاء بالذات لكتابة رسائل إلى الصديقة الصغيرة، وهي تستعيد لحظات من ذلك الزمن البريئ والملتبس برغبة رجولية مبكرة لدى الصبي. ونلاحظ في هذه الرسالة اهتمام السارد بالتفاصيل الصغيرة، وبتحليل شخصية الصبي الصغير في تطلعاتها وطموحها وهواجسها، وفي تصوير رغباتها الرجولية المبكرة: إبهار أنثاه الصغيرة «الماكرة» بمعارفه وتفوقه ولغته «الأدبية المتميزة». ويعكس، هذا النص، ملامح من طبيعة نور الدين، كما ستتضح لاحقا في الفصول الأخرى من الرواية. بهذه الكيفية تؤدي هذه الرسائل التي بعث بها، وهو في سن متقدمة، إلى الأديبة كوثر التابعي- التي لم تكن غير فتاته الصغيرة- عن نوستالجيا دفينة في أعماق نور الدين الكهل، كما تؤدي دورها في تشكيل لعبة الكتابة الروائية التي تشتغل بالذكرى وبإحياء التفاصيل الصغرى لتشكيل متخيل الرواية وبناء عوالمه الجديدة/الآنية. ومن بين التفاصيل التي يشير إليها السارد قوله في نهاية الفصل الثاني: «بعد أن قرأ الكاتب هذه الرسائل، تفاجأ من جديد، كيف كتب سبع رسائل بالتحديد، لا أكثر ولا أقل؟ لماذا بالضبط سبع رسائل؟ وسرعان ما استرجع أن أول رسالة تلقاها من الصغيرة كوثر، كانت هي الرسالة السابعة التي يتوصل بها من لدن الصبايا، في ذلك الزمن البعيد، تعقيبا على ما كتبه في مجلة، عرفان، فابتسم لهذه الصدفة الجميلة، خصوصا وهو يعلم أن صدفا أخرى ربما أجمل من هذه ستربطه بشكل عميق مع كوثر ذاتها، بعد أن أصبحت امرأة ملء العين والقلب. هل يتحدث الآن عن هذه الصدف أم يتركها لحديث آخر؟ القراء يطالبونه بالسير رويدا رويدا في حكي هذه السيرة الروائية، فهم يريدون معرفة كل تفاصيلها، وهو يريد أن يكون حرا في عملية السرد هاته..»(الرواية، ص.27-28) هكذا يكشف هذا النص عن لعبة الصدف الروائية التي تؤدي دورا فعالا في تشكيل عوالم الرواية، وتجعل منها بعدا من أبعادها التخييلية التي تُسهم، من جهة، في استرجاع الماضي واستحضار لمحات من لذته ومتعته الهاربة، ومن جهة أخرى تجعل السارد يحبك مكره ويلقي بسحره على القارئ الذي يغريه بمتابعة سيرته الروائية عبر بلاغة الشد والنفور: أيخضع لطلبات القراء الذين يلحون على المضي قدما في حكي سيرته الروائية، أم يتحرر من سطوة اقتراحاتهم ويشتغل بكل حرية في بناء نصه الروائي؟ بهذه الشاكلة يجعل نور الدين محقق من إمكانات ما يطلق عليه «الميتارواية»، أي التفكير في الرواية وتصوير طبيعة عمل الروائي، وكيفية تشكيل عوالمه، جانبا آخر مهما من لعبته السردية، غير أن هذا الجانب لا ينزع إلى الهيمنة، ولا إلى التعالم، كما نجد في بعض الروايات العربية التي وظفت هذا الإمكان الفني المأخوذ عن الغرب، بل إنه جعله عنصرا من الحكاية، وبعدا من أبعاد تشكيل متخيلها، ومن ثم، فإنه يؤدي دورا هاما في بناء النص واسترجاع ذكريات الطفولة والشباب كما يتمثلهما بطله نور الدين، كما يستحضر من خلال ذلك الإمكان جوانب من تقلبات حياة نور الدين وسيرورتها. وبالإضافة إلى هذه الإمكانات الفنية -المشار إليها- يوظف الكاتب صيغا حديثة في بناء لعبته الروائية، ففضلا عن الرسائل المباشرة الموجهة -عبر موقع دروب- إلى كوثر التابعي نجد التعليق على الرسائل الإلكترونية، أو الكتابة التي تُنشر في المواقع الأدبية الإلكترونية جزءا هاما من أجزاء تشكيل العوالم التخييلية في الرواية، ومن ثم بناء لعبتها الحكائية وصرحها الفني. ومن خلالها تكتمل صورة العلاقة بين الشخصيتين، كما تتناسل الحكايا، وتتخلق الرؤى حول قصتهما/سيرتهما الفريدة التي أسهمت فيها تكنولوجيا عصر العولمة إسهاما فعالا حتى تأخذ صورتها النهائية والمكتملة، وعبر تشكيل، يوهم بالبناء الحواري الذي قد يحقق -في شكل واضح- الطابع الجدلي واختلاف وجهة نظر نور الدين وكوثر في تفسير الماضي واسترجاع لحظات مشرقة منه، لكن ما نعثر عليه بين دفتي الرواية هو تعليقات نور الدين على ما تنشره كوثر، دون أن نتمكن، نحن باعتبارنا قراء، من قراءة رسائلها وتعليقاتها. وعلى العموم إن صيغ اللعب الفني في «بريد الدارالبيضاء» متنوعة وغنية، وكلها تؤدي دورا في استرجاع ما شكل وجدان وعقل، وكون شخصية نور الدين: الرسائل الورقية المفتقدة، قراءات الطفولة، علاقات الصبا، أحلام الكتابة، رغبات التفوق في الدراسة.. وهي عوالم شكلت سيرة الكتابة الروائية، وروائية سيرة نور الدين الطريفة. ناقد مغربي