توطئة قدمت جمعية أزول مسرحيتها الأمازيغية (مارمي غانبذا ستيذات/ إمتا نبداو بصح)، ضمن برنامج الأيام المسرحية الثانية لمندوبية وزارة الثقافة بمدينة الناظور، بالمركب الثقافي يوم الجمعة 29 مارس2013م. ومن المعلوم أن المسرحية من تأليف وإخراج الفنان الموهوب حفيظ البدري، وترجمة الطيب المعاش، وتشخيص كل من: سميرة المصلوحي، ورميساء لعريف، والطيب المعاش. وقد تكلفت أمينة أحكيم بالإنتاج، وخديجة الطجاوي بالملابس. في حين، كان الإشراف الموسيقي لتوفيق فاخر، والسينوغرافيا لسعيد أفزيوم.هذا، وإن أهم ما تمتاز به هذه المسرحية أنها خرجت عن نطاق مسرح الهوية والمقاومة الذي بصم المسرح الأمازيغي لسنوات كثيرة بمنطقة الريف، كما يتبين ذلك جليا في مجموعة من العروض الدرامية التي لا تعد ولا تحصى، منذ انطلاقتها الأولى في فترة التسعينيات من القرن الماضي إلى يومنا هذا. وقد حاول المخرج القدير حفيظ البدري في هذا العرض الميزانسيني أن يؤسس لفعل مسرحي ذهني ورمزي وعبثي جديد، يؤسس ثقافة رصدية حداثية لدى المتلقي المتفرج، بعد أن تعود الجمهور الريفي على الفكاهة الساخرة والسكيتش الكوميدي من جهة، وألف المسرح التجريبي الصارخ بسواده ودراميته التراجيدية من جهة أخرى. والجديد في هذه المسرحية أنها تندرج ضمن المسرح الذهني العابث، الذي يعتمد على سينوغرافيا تشكيلية رامزة، زاخرة بالصور الدرامية البصرية والسيميائية، التي تدفع الراصد إلى استخدام مخيلته وقدرته التأويلية على تفكيك الشفرة المسرحية دلالة ومرجعا وسننا، وإعادة بنائها تقبلا وتلقيا وجماليا. البنية الموضوعاتية ينبني العرض المسرحي الذي قدمه حفيظ البدري على تيمة دلالية كلية، تتمثل في تصوير معاناة المرأة من جراء الظلم والاستغلال والحيف الاجتماعي، حيث تشعر عاملتا الخياطة داخل معمل ليلي بالوحدة، والضياع، والاغتراب الذاتي والمكاني، بل عن إحساسهما بالتعب والشقاء والبؤس؛ من جراء العمل المجهد الذي ينهك جسديهما باستمرار. علاوة على ذلك، تزداد أحلامهما انتعاشا بالهجرة نحو الضفة الأخرى لتأمين العيش الكريم. بيد أن ذلك سيؤول إلى الفشل المأساوي، وذلك بالعودة القسرية إلى البلد الأصلي، وإصابتهما بخيبة المصير سأما ومللا وكآبة، وضياع الفرص المناسبة اليانعة، مثل: الزواج، وبناء الأسرة، وإنجاب الأطفال، والبحث عن الأمن والاستقرار والعيش الكريم... وهكذا، ترصد المسرحية الغبن التراجيدي أو العبثي الذي تعيش فيه عاملتا الخياطة؛ لعدم تسوية وضعيتهما القانونية للحصول على حقوقهما بالشكل الكامل. ومن ثم، تدخل العاملتان في صراع عبثي هستيري، وهذيان سريالي، يكشف عن لاشعور نفسي متقد، يتأجج بالعدوان، والتمرد، والحقد على الرجل الخائن، والثورة على الواقع المحبط الذي تنعدم فيه القيم الأصيلة، وتطغى فيه القيم الكمية التبادلية. وأكثر من هذا، فحارس المعمل، الذي يريد أن يتزوج من إحدى العاملتين، يبتزهما ماديا، طالبا منهما الزيادة في كمية الإنتاج لتحقيق الربح الأكثر، وكل ذلك على حساب شقاء العاملتين وراحتهما. وعليه، فالعرض المسرحي في الحقيقة تصوير تراجيدي لصراع المرأة العاملة مع ذاتها المهترئة من جهة، وصراعها السيزيفي مع واقعها الموضوعي الموبوء بالقيم المنهارة، والمطبوع على الأخلاق الزائفة. ويعني هذا انعدام العدالة الحقيقية في المجتمعات الأبيسية، وانهيار قيم الحرية والأخوة والحق والإنصاف، واستفحال العنف الرمزي والاجتماعي ضد المرأة عبر استغلالها، وظلمها، وتهميشها، والحط منها عضويا ونفسيا واجتماعيا. ومن ثم، تحمل المسرحية في جوهرها رؤية اجتماعية إصلاحية لأوضاع المرأة في العالم الثالث، والدفاع عن إنسانيتها وكينونتها البشرية في ضوء قيم الحق والعدالة، وتمثل فلسفة الواجب، والتحلي بالضمير الأخلاقي اليقظ. البنية الميزانسينية تحمل المسرحية في جوانبها الميزانسينية أو الإخراجية إيحاءات واقعية وطبيعية وعبثية، وقد أحسن الفنان سعيد أفزيوم تصميم السينوغرافيا الواقعية، وذلك بوضع المسارب الإسفنجية المنحرفة في مسارها داخل المعمل الليلي (الأكواريوم)، بلصقها على أشرطة ورقية عمودية غليظة، توهم بوجود ورشة للخياطة في قبو عمارة ما. وبالتالي، لا تتوفر فيه أدنى شروط الحياة الآدمية الكريمة. كما صمم هذا السينوغراف الأعمدة التي تمتد عبرها مسارب المياه تصميما تشكيليا موفقا، مراعيا المنظور الهندسي والبصري للرؤية التشكيلية والرصدية المتوازنة لدى المتفرج. ومن ثم، تتسم هذه السينوغرافيا التشكيلية بالبساطة الموحية، واللوحات التصويرية المعبرة بصريا وسيميائيا. هذا، وقد أثث المخرج حفيظ البدري ركحه السينوغرافي بآلتي الخياطة، وهذا ما يجعل المسرحية تتخذ طابعا طبيعيا من جهة، وطابعا واقعيا من جهة أخرى. في حين، يتحول الحوار الثنائي أو المستحضر أو الداخلي إلى صرخات عابثة متقطعة، وحوارات ممزقة، قوامها المعاناة، والضياع، والاغتراب، والثورة، والتمرد، والغضب العارم، والسخط العام، وغياب التواصل ركحيا واجتماعيا وإنسانيا. وهذا ما يجعل المسرحية ذات طابع عبثي، تذكرنا بشكل من الأشكال بمسرحية (الكراسي) ليونسيكو، أو بمسرح العبث واللامعقول عند كل من ألفرد جاري، وأرابال، ويونسكو، وبكيت، وأداموف، وجان جينيه، وهارولد بنتر، وسمبسون الإنجليزي، وإدوارد ألبي ، وتوم ستوبارد... والدليل على عبثية المسرحية ولا معقوليتها قلة الشخصيات (ثلاث شخصيات رئيسة)، وعبثية المواقف الدرامية، ومعاناة العاملتين بسبب غموض الأهداف، وسيزيفية الصراع، ومأساوية المصير الإنساني، والتقوقع داخل مكان مغلق ضيق محدود في قبو العمارة، يكتسي الصفة الحيوانية أكثر مما يكتسي الصفة الإنسانية. وأكثر من هذا، يتميز هذا المكان بالضوء الخافت، والعتمة المخيفة، وظلمة الوحشة القاتلة، والبرودة القاسية، والرطوبة القاهرة. ويفسر كل هذا مدى إحساس الشخصيات بالخوف، والقلق، والضياع، والوحدة، والغربة، وعدم الاطمئنان. كما أن الإنسان لا يمكن إطلاقا أن يشعر في هذا المكان الموحش بالاستقرار والأمان والعيش الكريم. ومن ثم، يتسم دور المرأة في هذه المسرحية العابثة بالدونية اجتماعيا وحقوقيا وإنسانيا، بالمقارنة مع دور الرجل المهم؛ نظرا لما تعانيه المرأة العاملة بصفة خاصة، والمرأة العربية الأنثى بصفة عامة، من اضطهاد اجتماعي واضح وجلي، ويبدو ذلك جليا في مسرحيات يوجين يونيسكو بصفة خاصة. ويعني كل هذا أن لدى شخصيات المسرحية تداخلا بين الوهم والحقيقة، وفقدان الحلول الفعلية الممكنة، وعدم ثقة الشخصيات في بعضها البعض، وعدم القدرة على تغيير الواقع. أي أنها شخصيات غير منجزة، وغير قادرة على تنفيذ البرنامج الدرامي موضوعيا، وعجزها عن مواجهة الواقع، وتغييره، والإفصاح عن المستقبل المستشرف. ومن جهة أخرى، يلاحظ أن الإضاءة تتأرجح بين العتمة المظلمة والنور الكاشف. وبالتالي، يمكن الحديث عن إضاءة عامة، وإضاءة خافتة، وإضاءة مركزة، وإضاءة تقابلية وتناوبية. كما كان للصوت والموسيقى- تنغيما ونبرا وتصويتا - حضور جلي وفاعل، وذلك مع كل تنويع للمشاهد والمواقف والمناظر الدرامية، وأيضا مع استعراض الأزياء بكرنفالية موحية ومعبرة. ويعد هذا المشهد الاستعراضي فكرة جديدة ولافتة للانتباه في المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف. ولا نتفق مع الذين يقولون بأن مشهد الأزياء مشهد مقحم داخل العرض المسرحي، بل هو مشهد وظيفي ومهم في تحبيك القصة دراميا، والسبب في ذلك أن هذا المشهد قد ارتبط عضويا بالحلم الاستشرافي لدى عاملة الخياطة؛ من شدة إرهاقها المضني جسديا ونفسيا، وضياعها وجوديا، واغترابها ذاتيا ومكانيا. وعلى مستوى التشخيص، يعتمد المخرج على الطريقة الكوكلانية الخارجية في أداء الحوارات والأدوار، دون الاعتماد على الواقعية النفسية كما عند ستانسلافسكي. وينضاف إلى ذلك، أن المخرج يستعين – كوريغرافيا- بالحركات البلاستيكية الآلية (البيوميكانيك)، حين التعامل مشهديا مع مجموعة من الصحون، مع تشغيل الحركات الكرنفالية والاستعراضية أثناء تقديم مشهد عرض الأزياء بدقة محكمة، ومهارة جيدة. خاتمة وأخيرا، يمكن القول بأن مسرحية (مارمي غانبذا ستيذات / إمتى نبداو بصاح) للمخرج حفيظ البدري مسرحية أمازيغية ناجحة بامتياز؛ لأنها تجاوزت كل ما كان يمت بصلة إلى المسرح الأمازيغي الكلاسيكي، كالتركيز على البهرجة الفلكلورية ديكورا وسينوغرافيا، وتوظيف المشاهد والرقصات الإثنوغرافية، والإكثار من الأغاني المحلية، وتوظيف العادات والتقاليد والموروث الأمازيغي. في حين، يختار المخرج حفيظ البدري الانفتاح على التجارب المسرحية العالمية، كتجربة مسرح العبث بغية تصوير معاناة المرأة العاملة، ورصد اضطهادها الاجتماعي . وعلى العموم، فأهم ما يميز هذه المسرحية العابثة الذهنية رؤيتها للعالم التي تتسم بالطابع الاحتجاجي التراجيدي والمأساوي، فضلا عن توظيف سينوغرافيا تشكيلية واقعية موحية من جهة، وتشغيل ديكور سيميائي مفتوح من جهة أخرى، يتميز بالاقتصاد والإيحاء والإضمار، ويحمل في كنهه دلالات مرجعية وإنسانية ودرامية عدة، نابضة بالنقد الموجع واللاذع، والرسائل الزاخرة بضرورة التغيير، وإصلاح الواقع المنحط قيميا واجتماعيا وإنسانيا.