الحكامة الجيدة مدخل لإنقاذ الدارالبيضاء وزرع الحماس في جميع الفاعلين المحليين والمنعشين العقاريين والمهنيين أكد مهندسون معماريون أن توفير شروط الإقلاع الشامل لجهة الدارالبيضاء الكبرى أضحى ضرورة مستعجلة وأولوية للسياسة الحضرية، مشددين على ملحاحية توفر الجميع على إرادة قوية لإنقاذ الدارالبيضاء كرهان، لا يكتسي فقط طابعا محليا أو جهويا، بل أضحى رهانا وطنيا ودوليا بالنظر للمكانة الإستراتيجية التي تحتلها الدارالبيضاء الكبرى . وقال رشيد الحوش مهندس معماري، في لقاء نظمه فضاء اطر حزب التقدم والاشتراكية، أول أمس السبت بالدارالبيضاء، أن القضايا الأساسية للعاصمة الاقتصادية ليست شأنا يهم الساكنة المحلية والمسؤولين المحليين وحدهم، بل هو شأن وطني ومسألة حيوية بالنسبة لمستقبل البلاد ككل، على اعتبار أن «الدارالبيضاء تشكل القطب الرئيسي لمواجهة تحديات العولمة، ولربح رهان الانفتاح على الأسواق العالمية «. واستعرض رشيد الحوش، في مداخلة من خمسة محاور، أعقبت عرضا لفيلم وثائقي حول العاصمة الاقتصادية، يعود لبداية الستينات،( استعرض) تاريخ الدارالبيضاء كمدينة أنشأت على أرض تغمرها المياه وتضم العديد من «العيون»، وكمدينة أريد لهندستها أن تخدم مصالح المستعمر في الجانب الأمني. فبعد إعلان الحماية، يقول الحوش، في هذا اللقاء الذي أداره أستاذ الاقتصاد سعد بلغازي، شرع ليوطي ومهندسه المعماري هنري بروس في إنجاز « وسط المدينة العصري ..حيث قاما ببناء شوارع عريضة تحفها عمارات كبيرة، وعمدا إلى بناء ثكنات عسكرية لازالت تحتل مساحة 600 هكتار في قلب العاصمة الاقتصادية. وهو ما سيدفع، بعد رحيل المستعمر، إلى خلق أحياء جديدة، ، في كل من البرنوصي وعين السبع وغيرها من المناطق شكلت مدنا قائمة الذات، وكلفت ميزانيات ضخمة... . ولم تفتأ مدينة الدارالبيضاء تعرف توسعا عمرانيا بشارع رئيسي واحد يمتد على الخط الذي يطلق عليه اليوم شارع الزرقطوني والمقاومة وواميل زولا، وظلت تحتفظ بمركز واحد أدى إلى اختناق قوي لحركة المرور، ازدادت حدة اليوم مع إحداث خط الطرامواي..» ويرى المتحدث أنه بالإضافة إلى الاختناق المروري، يبرز اليوم مشكل غياب ممرات خاصة بالراجلين الذين لا يملكون وسيلة نقل والذين تصل نسبتهم إلى 50 بالمائة من سكان العاصمة الاقتصادية، وذلك في ظل « غياب نص قانوني خاص بالأرصفة التي تعتبر غير الصالحة أصلا للاستعمال في كثير من الأحياء، بالإضافة إلى ندرة أماكن التوقف الخاصة بوسائل النقل». في هذا السياق، وفي ظل غياب شوارع رابطة بين أطراف المدينة تمنح فرصة التخلص من المرور الاضطراري عبر مركز المدينة، اقترح الحوش إنشاء خط تحت أرضي لامتصاص حركة السير سيكلف ميزانية تصل إلى 5 ملايير درهم قابلة للتمويل على مدى خمس سنوات، وإعادة النظر في مخطط التهيئة الذي طالت تبعاته السلبية المجال الصحي. في هذا الإطار، كشف الحوش أرقاما صادمة تفيد بأن كل بيضاوي لا يتوفر سوى على نصف متر مربع واحد من المساحة الخضراء ، بعيدا بذلك كل البعد عن معيار ال 12 متر مربع الذي تفرضه منظمة الصحة العالمية في المجال الحضري وال 25 متر مربع في الضواحي. ويلاحظ من أول وهلة، يقول الحوش، أن أهم الفضاءات الخضراء التي توجد بالدارالبيضاء « تعود إلى فترة الاستعمار وكانت تبلغ حوالي 165 هكتارا، وهي مساحة تضاعفت بالكاد بعد 50 سنة لتصل اليوم إلى ما يقارب 300 هكتار، بينما عرفت المدينة توسعا هائلا في نسيجها العمراني بحوالي 20 ألف هكتار. وتؤثر هذه الوضعية على جودة الهواء الذي يتأثر بمخلفات وحدات صناعية تمثل 97 في المائة من انبعثات غاز « مونوكسيد الكاربون «، و94 في المائة من «أو كسيد الآزوت «، و 88 في المائة من « ديوكسيد الكبريت «، و نسبة99.5 في المائة من المكونات المندمجة في الهواء، و85 في المائة من الغبار، ومن تم على حياة الساكنة التي تعيش بهذه الحاضرة والتي أصيب 25 بالمائة منها بأمراض الربو.» . ويبدو من خلال هذه الأرقام أن الصناعات هي أكبر ملوث لحاضرة الدارالبيضاء إلى جانب التلوث الناتج عن وسائل النقل (37 في المائة) ، وخاصة السيارات ، وهو ما يشكل تهديدا لصحة السكان الذين لا ملجأ لهم إلا بعض الفضاءات الخضراء التي لم يصمد أغلبها مع الوقت وطالها التهميش، ومنها «السندباد»، و»ياسمينة»، و»عين الشق»، و»إفريقيا»، و»اليونسكو». وبالتالي، يخلص الأستاذ الحوش إلى أنه «لا مفر له من إعادة النظر في مخطط التهيئة الذي حصر المساحات الخضراء في نسبة لا تتعدى 15 بالمائة». وطالب رشيد الحوش السلطات المحلية بمنح الدارالبيضاء نفسا جديدا، ليس فقط من خلال مواجهة هذا النقص الهائل من المناطق الخضراء، بل أيضا من خلال إعادة النظر في المخطط المديري الذي قرر إضافة 3000 هكتار لوعائها الحضري ومراجعة الأراضي غير المأهولة والتي تصل إلى 600 هكتار بعين السبع والصخور السوداء وخلق مدن صناعية خارج العاصمة الاقتصادية تمتص الهجرة القروية وتجذب إليها اليد العاملة. وعلى غرار الدارالبيضاء التي توجد في أمس الحاجة للخروج من مخططات القرن العشرين، دعا الحوش إلى « مصالحة المغرب مع جل مناطقه والتخلص من المقولة الاستعمارية التي قسمت البلاد إلى مغرب نافع ومغرب غير نافع» . وهي المقولة التي انطلقت منها مداخلة المهندس المعماري رشيد الأندلسي الذي فدم عرضا تاريخيا حول نشأة المدينة وتطورها قبل أن تصبح فضاء « إذا أصيب بالزكام ترتعد فرائص المغرب بأكمله». فخلال قرن من الزمن، يقول رشيد الأندلسي، « أصبحت القرية المتواضعة المسماة أنفا، حاضرة يقطنها أكثر من أربعة ملايين نسمة وإحدى أكبر مدن إفريقيا. وإن كانت النشأة تعود لبداية القرن التاسع عشر إلا أن الموقع كان معروفا منذ القدم: إذ وجدت بسيدي عبد الرحمان على مشارف أنفا، آثار منزل من العصر الحجري الأخير. وفي القرن السابع عشر، جعل الفينيقيون من الموقع مرحلة من المراحل على الطريق المؤدية لمدينة الصويرة. وستعرف المدينة طفرتها الجديدة بفضل السلطان محمد بن عبد الله الذي شيد بها مسجدا كبيرا وزاوية وبذلك اتخذت تسمية الدارالبيضاء، «البيت الأبيض. ولم تعرف المدينة بالاسم المستمد من الترجمة بالاسبانية كازا بلانكا إلا اعتبارا من 1781. شأنها شأن مدن العالم الثالث، يضيف الأندلسي، نمت الدارالبيضاء بشكل سريع جدا تطبعه العشوائية أحيانا، مرفق بنمو اقتصادي ما أدى إلى خلق بنية حضرية تستمد هويتها من اختلاف أصول سكانها الذين حملوا معهم أمل العيش في فضاء مريح بعيدا عن قراهم ومدنهم. ففي الدارالبيضاء«المدينة الأولى» للبلاد، يقول الأندلسي، « تتجمع الوظائف والأنشطة الاقتصادية الرئيسة، وتتمتع بمعطيات إيجابية جعلت من المدينة كتلة حضرية مميزة ومركزا له قوة جذب على سكان أقاليم المغرب كافة مما جعل الدارالبيضاء هدفا لهجرات داخلية نشيطة. هذا الإقبال، خلق، مع توالي السنين، اختناقا سكانيا حقيقيا وضخما يطرح اليوم مشاكل حادة على مختلف الصعد والمستويات. فرغم مكانتها الوطنية، ومؤهلاتها الاقتصادية والثقافية ورغم المجهودات المبذولة من طرف الفاعلين الأوراش الكبرى المفتوحة في مجالات السكن والنقل والاقتصاد والبنيات التحتية، فإن هذه العاصمة الاقتصادية، يستطرد رشيد الأندلسي، «تواجه إكراهات ونواقص عديدة في قطاعات حيوية وتعاني اختلالات وظيفية وتراكم للعجز المسجل في التجهيزات والبنيات التحتية». وهي إشكاليات، يقول الأندلسي، تطرح عدة تساؤلات بخصوص مدى نجاعة نظام وحدة المدينة وأولويات التدخل ومقاربات التجديد الحضري وكيفية رد الاعتبار للمدينة العتيقة والسياسات المعتمدة لمواجهة معضلة السكن المهدد بالانهيار، والسكن الصفيحي، معتبرا أن معالجة هذه المشاكل تتطلب حلولا «مستعجلة ودائمة وحوارا صريحا وبناء، وتشخيصا تشاركيا للواقع المحلي، وتبنيا لمقاربة جديدة قوامها التشارك بين كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين كل حسب اختصاصه، والبحث عن الانسجام بين السياسات والاندماج بين البرامج والعمليات». وأوضح الأندلسي على أن بلوغ هذه الغايات يفرض اعتماد سياسة حضرية مبنية على رؤية إستراتيجية متعاقد حولها، محددة الأهداف والوسائل وإرساء قواعد حكامة ناجعة تضمن الالتقائية والتكامل والفعالية بين مختلف التدخلات». وهو ما شدد عليه فكري بنعبد الله الذي اعتبر، في بداية مداخلته، أن لقاء فضاء أطر حزب التقدم والاشتراكية يكتسي أهمية خاصة بالنظر إلى التحديات التي تواجهها على مستوى السكن والتعمير وفرص الشغل والنقل الحضري والتجهيزات الأساسية وأيضا في ما يتعلق بإعداد التراب ومتطلبات التنمية الاقتصادية وتحسين ظروف العيش والخدمات العمومية وإشكالية الحكامة. وأشار فكري بنعبد الله إلى أن الإشكاليات المطروحة في الدارالبيضاء، باعتبارها أكبر تجمع سكاني حضري في المغرب، تستدعي تضافر جهود كل المعنيين للحفاظ على التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والتناسق العمراني للجهة، مبرزا أن المدينة التي انخرطت في عدد من المشاريع المهيكلة والتنموية والمشاريع الاجتماعية الرامية إلى تحقيق تنمية مستدامة ومندمجة، تحتاج اليوم إلى مراجعة شاملة وفق مبدأ الحكامة الجيدة وذلك بغية تحديثها والحد من تداخل المسؤوليات والاختصاصات بين السلطات المنتخبة والمحلية والوكالات الحضرية. وأبرز بنعبد الله ر أن هذه مدينة الدارالبيضاء تمثل وضعا استثنائيا تحتاج معه مقاربة خاصة تلزم الدولة بتخصيص مزيد من الإمكانيات لهذه المدينة حتى تتمكن من تجاوز الإشكاليات التي تعاني منها على عدة مستويات، مشيرا إلى أن الدارالبيضاء، ومع كل المؤهلات التي تمتلكها، تبقى عاجزة بمفردها عن حل المعضلات التي تعوق مسارها التنموي، مستشهدا بأزمة النقل الحضري، داعيا إلى مساعدة الساكنة البيضاوية من خلال الحكامة الجيدة، على إيجاد حل دائم يكون في مستوى تطلعات الجميع. هذا، وأجمعت النقاشات التي شهدها فضاء أطر حزب التقدم والاشتراكية على ضرورة إنقاذ الدارالبيضاء وزرع الحماس في جميع الفاعلين المحليين والمنعشين العقاريين والمهنيين ودفعهم للعمل في إطار من التشاور والتنسيق حتى تتمكن الدارالبيضاء من جني ثمارها في السنوات القليلة القادمة وبالتالي التخلص من الظواهر التي تهددها بالسكتة القلبية. وهو ما حرص سعد بلغازي على التشديد عليه في عرضه لخلاصات اللقاء، داعيا إلى الانخراط في إصلاحات عميقة للعاصمة الاقتصادية بغية تحديثها وجعلها مواكبة للتحولات ، وتجاوز كل العراقيل القانونية والمؤسساتية التي تحول دون تحقيق نهضة عمرانية شاملة .