الشعبوية على المستوى السياسي تنم عن ديماغوجية. وفي وسائل الإعلام تعني الافتقار إلى الاحترافية. الشعبوية هي بمعنى من المعاني الفكر الكسول. ويمكن تناول هذا الموضوع من خلال ستة عناصر: الشعبوية وخطوط عامة تدعو الشعبوية إلى الاعتقاد بأنه لكي يكون المرء شعبيا، بمعنى أن يكون مقبولا من طرف الشعب، عليه أن يجعل أفعاله وأقواله شعبية، عبر التطرق إلى قضايا وحالات ذات بعد شعبي. في حين أن الشعبوية ليست علاجا، إنها داء. تتأسس الشعبوية على مثل بدائية. إنها تزهر في أجواء الأزمة الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، مع إحساس بالفشل إزاء تطلعات أغلبية الشعب. إن الحل السياسي الذي يبرز انطلاقا من هذا الوضع هو الاشتراكية الشعبية التي تعرض أفكارا لا تتقاطع مع الخطاب الشعبوي الذي يخفي قلة الرزانة والنجاعة في ممارسة الفعل السياسي والاجتماعي. هذه الشعبوية ليست إلا تعبيرا عن الفشل. مع الشعبوية، يتجلى أن صحة القضايا المطروحة لا تتأتى من صحة المحتوى أو تلاؤمه مع الواقع، لكن من خلال الأخذ بعين الاعتبار الرأي الذي تشكله كتلة. فآراء الآخرين تصير معيارا للحقيقة. هذا التحول يعد أمرا خطيرا، لأنه يقصي العقل. فالإحساس السليم يتم تعويضه بالإحساس المشترك. فلكي يبيع الإعلام أوراقه، تتم كتابة أي شيء على هذه الأوراق. ولأنه ينبغي على السياسي أن يتكلم؛ فإنه يقول أي شيء. فيما يتم دفع الحكيم إلى السكوت. الفكر الشعبوي يعتقد نفسه أنه يمثل الشعب، وأنه يعرف حق المعرفة ما يريد الشعب معرفته أو فعله أو التفكير فيه. إنه يؤمن بشرعيته في تمثيل الشعب، في حين أن الشعب ليس إلا رهينة في يد الشعبويين. هذا الفكر الشعبوي يعتقد أن الشعب هو دائما على حق، إنه يختزل المشاكل والقضايا إلى حد التطرف، أي بكيفية كاريكاتيرية. لكن الشعبوي هو الكائن المتناقض بامتياز، إنه يتكيف مع جميع الأوضاع، يمكن أن يكون ثوريا، محافظا، لبيراليا، يساريا.. إنه يتبع منحنيات الاتجاهات السالكة. الخطاب الشعبوي إنه يعلن نفسه بمثابة صديق الشعب. مثل الخسيسين الأغنياء، الأشرار أو بعض الغرباء. حيث أن قسما منهم يفصحون عن أخلاقية متزمتة أو وطنية مبالغ فيها معتبرين أنها الكفيلة بإنقاذ الشعب. الخطاب الشعبوي يحيل من وقت إلى آخر على نظرية المؤامرة. إن مرجعية الشعبوي هو نفسه، إنه معيار الحقيقة. الملامح الأخرى لهذا الخطاب، هي الاستعمال السائد لنعوت من قبيل: «الحاج»، «الشيخ».. وكذا استعمال الحكايات والروايات الشعبية، التعاليم الدينية والأخلاقية، حكم، طرائف.. حتى حواره، عندما يكون هناك حوار، فإنه عادة ما يكون حوارا خلافيا وسجاليا، حيث أن القيمة الأولى هي: «أنا على حق، أنت مخطئ». فضلا عن الأحكام الجازمة، تصنيف الناس، إنه بحاجة إلى إلصاق علامات على الكل، ثم إنه يفضل عدم الدقة، الشفاهي أكثر من الكتابي، المبالغة، الكليشيهات، الكلام المختزل، وإضفاء الذاتية على بعض الأشياء. هناك دائما قناعة ذاتية بأن الخطاب الشعبوي يخشى المثقفين، الإحصائيات، الكتابي، النقاش، الحرفية، الإعلام.. إنه يخشى أن يكون محط عدم الرضى، ولكي يعالج هذا الأمر، يمكن أن يلجأ إلى الخطاب القدحي والكلام النابي. الشعبوية والإعلام إن العلاقة بين الإعلام والشعبوي هي أن كلا منهما بحاجة إلى الآخر، إنهما يمارسان فن التسويق، لكنهما في العمق، يبديان نوعا من النفور من الذات، لأنهما يرغبان في الشيء نفسه: الشعب. مع الأسف، بالنسبة لكلمة الشعبوية، فإنه ليس هناك أي شعبوي - سواء في السياسة أو في الإعلام - فخور بأن يكون شعبويا، إنهم لا يصرحون بذلك. وحسب تعبير الناقد تزفطان تودوروف، فإن «الشعبويين في وسائل الإعلام وفي الساحة السياسية يعدون العدو اللذوذ للديمقراطية». التمغرب لا أتحدث هنا عن الوطنية ولا عن أولائك الذين يحبون المغرب، أولائك الذين يشعرون بالفخر والاعتزاز، كونهم مغاربة، لكن أعني ذلك الحرص على استعمال علامة المغرب للدفاع عن أفكار وإقصاء مغاربة آخرين. هذا التمغرب يرتبط بالشعبوية في أجل معانيها، على سبيل المثال، خلال مدة طويلة، دأب بعض رجال السياسة وبعض وسائل الإعلام على القول إن العرب أقل تمغربا من الأمازيغ، وأن الأندلسيين أقل تعربا وتأسلما وتمغربا من السابقين. وهذا يعد تحولا جد خطير؛ لأن هذا التمغرب أو هذه الشعبوية هي بصدد وضع طبقة خاصة للتمغرب بالنسبة للمغاربة. هذه الشعبوية المغربية نجدها مدعمة بتمغرب للأحاسيس والأذواق وميولات نحو فكرة العودة إلى الإرث القديم، ونحن نطلع في مختلف وسائل الإعلام، ومن طرف رجال السياسة على أفكار من قبيل: «جدي أو جدتي قالت لي إنه في الماضي البعيد كذا وكذا..». هذا الانكفاء الهوياتي أمر خطير كذلك؛ لأن الوطنية من خلال العربية أو الأمازيغية، كإيديولوجية الصراع الانتخابي، أو لأجل الحصول على وضع اجتماعي واقتصادي ما، ليست مواطنة طبيعية. ففي وسائل الإعلام، يقال لك: «إننا نفهم الشعب، التلفاز يعكس حياته، ومشاكله على نطاق واسع: الحياة القروية، في مدن الصفيح، الخصومات، الصراخ، العرافات، الفقر.. إن حياته في قلب النقاش. التربية هي: «اعرف نفسك في تلفازك، حلمك لا يمكن أن يكون مكسيكيا ولا تركيا..»، وبما أن المثقف يشكل أقلية في المجتمع وأنه عبارة عن كائن يعيش في الليل، تخصص له ساعة واحدة أسبوعيا في الساعة الحادية عشرة ليلا. حلول الشعبوية هي بمثابة جواب تبسيطي على مشاكل الحياة. إن فهم شعبويتنا ومقاومة أسباب تجلياتها لا يمكن أن يكون سوى أمرا حميدا بالنسبة للديمقراطية، خاصة بالنسبة لبروز خطاب سياسي حقيقي، ونقاش حول الحلول الحقيقية التي تقطع مع الديماغوجية، الازدواجية، الهوية المحاصرة. إن المهنية وخطاب المثقفين، وروح التحليل والنقد، اللغة المنبنية على المعرفة وعلى المعطيات الإحصائية، وليس الأقوال والثرثرة، مجتمع المعرفة، احترام القانون، وقواعد الحوار، التعليم الجيد، إعادة تأهيل الحقل السياسي والإعلامي.. هي بمثابة بعض الحلول لهذه الشعبوية الدنيئة، لكن في واقع الأمر، يبدو من السهل جدا التخلص من الشعبوية في وسائل الإعلام، أكثر مما هو الأمر في المجال السياسي؛ لأنه يكفي تكريس مزيد من المهنية. خلاصات يتحدث السياسي باسم الشعب الذي يعد في الحقيقة شيئا مجردا وفضفاضا؛ لأن الشعب لا وجود له، إنه مجرد جسم انتخابي مختزل هو الآخر في عدد الأصوات المحصل عليها. كما أن الإعلام بتعدد وسائله يقدم حياة الشعب في مختلف مظاهرها. السياسي في وسائل الإعلام، كائن حقيقي، حي، وبالأخص مفعم بالكلمات والصور الملونة وحتى المسموعة. غير أنهما معا، يميلان نحو تقديم بشكل أفضل إرادة الشعب، وآماله، ومستقبله، وحياته، وتطلعاته.. لكن هذا الشعب الذي يتحدثان عنه، لا يشكل سوى ستة ملايين ناخب وأربعمائة ألف قارئ للصحف، بمن فيهم هواة الكلمات المتقاطعة. وعوض التحدث عن الشعب، ينبغي العناية بإقامة تعليم حقيقي وجيد، إعلام احترافي، مجتمع المعرفة، نقاش عمومي حقيقي، مع إعطاء الكلمة لأولئك الذين يملكون منطق التحليل والأرقام والأفكار. لنعمل على تلقين آداب العيش والوجود لمواطن هذا البلد. إن تلفزة الواقع هي تلفزة الرداءة. لنواصل بناء ديمقراطيتنا، لنغرس الثقة في أنفسنا، والإحساس بالواجب والذوق السليم.. أما هذه الشعبوية المتنقلة، فهي رديئة الطعم. *دكتور في الفلسفة (عن لوماتان 28 يناير 2013) ترجمة: عبد العالي بركات