-عن الشعبوية -عن التحريفية الجديدة هل كان مقدرا أن تؤول الرئاسة والسياسة والكياسة والزعامة والأمانة، إلى من يصرخ أكثر، من يُخْرِجُ عينيه من مِحْجَرَيْهِمَا أكثر، وإلى من يناور أكثر، ويتصل ويسمع، ويتكيء على الذي في البال، أكثر؟. أم هي حتمية مسار، وحقيقة وضع، ومستوى ذهنية عامة، وعقلية مهيمنة وطافية، وإفراز مَسِيرٍ ربيع عربي خديجٍ، أَتْلَعَ الفُطْرَ سريعا بعد برق خَلَّبٍ، ورعد ملعلع في البعيد؟.. بما يعني أنه : "ليس في الإمكان أبدع مما كان". إذ أنها –وليس غير- انتظارات جماهير عربية عطشى للخبز والكرامة، والكلام المنمق المزوق والهادر، والأوداج المنتفخة للزعماء العظماء القصار، عريضي المناكب، كبيري الرؤوس، منتفخي البطون والثرثرة. وأنها (أي الجماهير العريضة)، تتطلع إلى من يكلمها بلسانها، وينزل إلى مستواها، ويقاسمها الخبز والملح -وإن مداهنة ورياء واستثمارا -، ويدغدغ عاطفتها، ويجيش انفعالها ووجدانها، ويستنفر حواسها وأجراسها، ويستثير مكامن الإيمان والدين لديها، ويَسْتَبِرُ ضعفها وهشاشتها، كل ذلك، وَقُودًا يستدفيء به الزعيم، "الأكْرُوابَتي" العظيم، يشعل به الآتي الهلامي، والمستقبل الغامض الضبابي، قافزا على حرائق الراهن، وتَرَنُّحات الحاضر. فهؤلاء الأمناء الزعماء، العتاة الرماة، إن عندنا أو عندهم، كلِيشْ فَاليسا وَهَوغُو شَافِيزْ اللذين لم يفعلا شيئا لبلديهما إلا ما كان من حشو أيام مواطنيهم بالرفاه الهوائي المنتظر، والأمل المرتجى، وشتم وذم الرأسمالية المتوحشة، والأمبريالية العالمية. هؤلاء جميعهم شعبويون –نعم- لا شعبيون. فالواو الفارقة بين التوصيفين، هي واو دلالية قدحية طبعا. ذلك أن القائد الشعبي هو من جمع فأوعى، من جمع بين "الكاريزما" والصرامة المبدئية، والمستوى الثقافي والسياسي العالي، مع النجاح التواصلي مع الفئات الشعبية المحرومة، ومع الحفاظ على المسافة المطلوبة والمدروسة من النظام، ومركز القرار. الشعبي من الأطر القائدة والنافذة سياسيا ونقابيا واجتماعيا وجمعياتيا، هو من يمتلك موهبة التسيير المحكم الفردي متصلا بالجماعي، لا المسايرة، ويحوز ملكة الاستقراء والتحليل الملموس المدموغ بالمعطيات والحقائق، وكفاءة البلورة والتركيب، والإتيان بالحل متى ما استعصى الأمر، وحَزُبَ الظرف، وعسر التفاهم مع أولي الأمر. أما الشعبوي فهو من أوتي "السنطيحة" في الأول والأخير، والدخول والخروج في الكلام قبل إتمام الفقرة، بل قبل تركيب جملة مفيدة. وهو من يكثر الكلام، ويلقي به كيفما اتفق، ضاحكا، مقهقها، منتصرا "لِلتَّلْهيج" و"تتبيل" خطابه بالطرائف والمستملحات والمُلَح والألغاز، وآي من الذكر الحكيم، ونُتَف من أحاديث الرسول الكريم، موظفا إياها خدمة لمصلحة، وتوخيا لمطلوب، ونشدانا لإفحام الخصم، حتى ولو أدى به الأمر أن ينسب أحاديث إلى خير الورى، قيلت في فاس وأهل فاس. ثم إن الشعبوي يستهدف الفرجة والإضحاك، ويستجلب التلفيق والتصفيق، والإبْهار السريع والخاطف. وبإمكانه أن يسب الحكومة، وينال من مؤسسات القضاء، والشخصيات العمومية، والمقاومين، والمناضلين القادة الذين أفنوا زهرة عمرهم في النضال والكفاح من أجل النهوض بالوطن، ومن أجل الشعب الكادح. بإمكانهم فعل ذلك، من دون أن يطرف لهم جفن، أو ترتجف شفة، أو يَخزُهُمْ ضمير. فإذا كان القائد الشعبي ينتج الأفكار، فإن الزعيم الشعبوي ينتج البهلوانية و التهريج و توزيع التهم المجانية. لم تنبثق الشعبوية فجأة من فراغ، كما لم يأت بها هذا الربيع العربي الخديج، وإن كان عجل بإظهارها وإبرازها، حتى أكلت الحشمة والوقار والتؤدة والحكمة والتفكير الملي، والتدبير الهاديء، ودفعت بالمفكرين ورجال الدولة والساسة الكبار إلى الزاوية المعتمة، وحشرتهم في ركن مظلم وعطن. كانت الشعبوية كامنة، مختفية وراء الأدراج، بين أسوار النقابات، وبعض الفضاءات. كانت هناك، وهنا، وفينا. ولما انهمر شيء من المطر، واعشوشبت بعض الأراضي، أَتْلَعَتْ رؤوسها الشَّتَّى كالتّنين، أو كزهرة النار الأسطورية. الشعبوية كالخُفَّاش لها بَيَاتُها وخروجها. وعندما تخرج لا تلوي على أحد، تدوس بالحوافر الفولاذية، الأخضر واليابس، لتصل إلى الغاية. مكيافيلية في منطلقها واشْرِئْبَابها. خفاش متعطش للمص، وشرب الدم، في جنح الظلام، وإنزال السدول. ذلك أن الخفافيش تخاف النور، فتتفاداه، وتتحاشاه حتى لا تعمى، وتظهر حقيقتها كأوضح ما يكون، وتعرى من أقنعتها، فإذا هي مسخ تماما، لا هي بالطائر ولا بالفأر، مخلوق منكر، وبنية موروفولوجية مخيفة ومرعبة دونها غُراب إدْغَارْ آلانْ بُو"، ودونها السَّعْلاَة العربية. قلت إن الشعبوية كانت فينا، أمّا الذي سرع ظهورها، ودفع بها إلى الواجهة حتى ملأت الدنيا العربية / ومنها المغربية، وشغلت الناس، فهو الربيع العربي الخديج. وإذا كانت الذاكرة تنفع، و السياق التاريخي السياسي، يُسْعِف، لانْبَرَيْتُ قائلا : إن الأنظمة العربية الاستبدادية الفاسدة هي من كان وراء ظهورها بما يعني، من مهد لها السبل، وخَصَّبَ الأرضية، وَسَهَّل نشأتها وترعرعها، ونموها إلى أن صارت ما هي عليه الآن، غولا مدمرا، يعتاش على التخويف والتجريف، والصراخ، والجَرَاءَة الصفيقة، والشجاعة التي بلا ضفاف، والتهور عند نهاية المطاف. وقد ساعد على نمائها، وخصوبتها، واحتلالها المشهد السياسي العام، وتبوئها مقدمة الصفوف محفوفة بالدفوف، الجماهير العريضة، الشعب المسالم الذي وطئه الفساد، ونال منه الجوع والقمع والقهر والتهميش. فإذا المخرج –الآن- استدارجه ونيل رضاه بالضجيج الكلامي لِمحاربة الفساد، ووعده بحسن المآب والمعاد، وإذا الخلاص، خلاصه في الدين واليقين، والجنة التي أعدت للمتقين. بهذا المعنى، تكون الشعبوية كحضور وخطاب وسياسة وكياسة، وتدبير، وأمان وائتمان، قشة الخلاص، وخشبة النجاة لأوسع الفئات المحرومة. وبهذا المعنى، تتعلقها الفئات هذه، لأن الشعبوي لا يقيم للكلام وزنا، وهو إن فعل فلعلة يعلمها الذين زينوا له الطريق وَعَبَّدُوه، فأوصلوه. فالإرغاء والإزباد، وتكوير القبضات في الهواء، و التلويح بالفضح والنطح والردح والشطح، والكشف عن المخبوء والمستور، قوة الشعبويين، ولسانهم الذَّرِب، وانتفاخهم المزبلي الرهيب. فكأن الشعب يجد بلسما في الصراخ الغرائبي، والكلام الفضائحي، ويجد راحة وَشَبَعًا في تهديد الشعبويين لخصومهم، ووعيد الشعبويين للحاكمين، والطبقات المتنفذة، وآل الفهريين عندنا مثلا، إذ ينفسون عن كربهم، ويخففون من احتقانهم، ويطعمونهم من جوع، ويلبسونهم من عري بالكلام، وفي الكلام وعبر الكلام. ساهم الحكم –هنا وهناك- في خلق الشعبوية، وتشكيل هؤلاء العباد الأفذاذ، عندما أرْخَى الزمام للوهابية المتحجرة البشعة، تسرح وتمرح من دون هاد ولا رقيب، وكانت مراهنته -إذ احتضنها، وأكرم وفادتها- على دحر اليسار، والفكر الماركسي اللّينيني، الفكر الاشتراكي الذي رأى فيه النظام خطرا مَاحقًا على وجوده وانوجاده واستمراره. فبسلاح الدين الذي يجد له مرتعا خصبا وسط الشعب بحكم تدينه وإسلامه، قاومت الأنظمة الأوليغارشية، الديمقراطية والتحرر، والكرامة الإنسانية، بدعوى كونها بضاعة غربية منحلة ومتهتكة. وقد زعمت الأنظمة – ونجحت في ذلك إلى حد بعيد- أن بعض الشعب: – نخبته المثقفة ومناضليه الشرفاء، وجمعياته الحقوقية- يحمل فكرا شيوعيا هداما، يستهدف السلم الاجتماعي، والتماسك الوطني، ومؤسسات الدولة، ويستهدف السلم الاجتماعي، و التماسك الوطني، ومؤسسات الدولة، ويستهدف الإسلام والمقدسات الأخرى. فكان أن أطلقت يد المندسين، والرعاع، وعتاة المجرمين، والأصوليين والوهابيين، لتضرب أحرار هذه الأمة، وتخيف ذويهم وأسرهم، بل وتغتال خيرة رجالاتها، أولئك الذين قاوموا الاستعمارين معا: الكولونيالي، والداخلي، سارق الأرزاق، وَمَاصّ الدماء، ومُجَوِّع الغالبية العظمى من المواطنين. والأمثلة أكثر من أن تحصى، لعل في مقدمتها –تمثيلا- فيما يخص حالتنا المغربية- : المهدي بنبركة، وعمر بنجلون... وآخرون يضيق المقام عن ذكرهم. إن ما جرى ويجري الآن، وخوفي من أنه سيظل جاريا إلى أجل غير مسمى، هو عَقْبلٌ من عقابيل سياسة استبدادية أوليغارشية، ونتيجة من نواتج استراتيجية شيطانية ماردة، أرادت إلهاء الفئات والشرائح المجتمعية في خصومات واقتتالات لا تنتهي، ليسعد –مع أقلية كومبرادورية –بالثروة والجاه والسلطان- حارسة نفسها بالبطش والسجن والنفي، والإرضاء أحيانا، وشراء الذمم. وكان أن انساق إليها "زعماء"، واستجابت لها "أحزاب" مصنوعة ومخدومة ، من مهامها التشويش العام، والإرشاء والإرتشاء، وتمييع الأفكار والبرامج، واستنساخها حتى تنبهم الرؤية لدى الشعب، فلا يقدر على فرز هذا من ذاك، وتخليص الخيط الأبيض من الخيوط السوداء، وقد أخذت بخناقه، والتوت "بحراشفها" و"أهدابها" حواليه، وتكبكبت عليه. وإذا كانت بعض الأحزاب الوطنية الديمقراطية ذات القاع والباع الجماهيري، قد استعصت على الترويض، ونأت بنفسها عن "التقريد" و التدجين، بفضل مناضليها الأشداء، وساستها المتمرسين الكبار، الذين انحازوا إلى القاع ضدا على الذروة والبرج، فإن أحزابا أخرى، نَاسَتْ بين الحدين، ولعبت على الحبلين. فتغلغل "الحزب السري" [في تسمية موفقة لمحمد اليازغي ذات انتفاضة "مضرية" وصحوة ضميرية]، ضمن التنظيمات، وتسرب من بين الشقوق، والثغرات، ونجح في شق الصفوف، وشق التنظيم، وبث الشكوك والإرتباك بين المناضلين حتى بات بعضهم يُخَوِّنُ بعضهم، ويزكي الإشاعة والفبركة، ما حقق مراد "المخزن" وأوفى على الوسيلة والغاية اللتين عَزَّتا عليه في فترات معينة من تاريخ المغرب المعاصر. وقد أجازف بالقول إن ما مَيَّعَ الحقل السياسي بالبلاد، وأنبت مكانه السياسوية الفلكلورية، والتطبيل والتزمير والزعيق، وصولا إلى الشعبوية –فترتئذ- وراهنا، هو الإنخراط في أتون العمليات الانتخابية، والاستحقاقات الجماعية التي شهدت، في كل دوراتها ومواسمها، "تبوريدة" حقيقية في شراء الذمم واللمم، ودوس الكرامة البشرية من خلال توزيع المال، وإقامة المآدب والولائم و"الوَعْدَات". وأستطيع القول، بأن العمل الجماعي القروي أو البلدي على نبله وقربه من المواطن في تدبير شؤونه اليومية، مدرسة تخرج فيها عتاة الشعبوية، الذين تمخزنوا بحكم الوجاهة القروية أو المدينية، وتشبيك العلائق وتكثيرها مع أصحاب القرار المحلي أو الجهوي، وذوي الشأن القبلي والاجتماعي. وعطفا على هذا، لم يَنْجُ الاتحاد الاشتراكي في شخص بعض ممثليه، والمحسوبين عليه إقليميا وجهويا ووطنيا، من السقوط في هذا المطب، ومن عقد الصفقات المشبوهة مع كِيتْ أوهِيتْ من الأعيان، ما أضر بتاريخ الحزب، وأساء إلى مجده وصولته وإشعاعه وقوته. وهاهو "الفيروس" الكامن، يتسرطن الآن، ويتعملق على حساب جسد متعب، منهوك، يكاد ينهار وقد هزمت مناعته، وَفُتَّ في عضده، إذ صار بعض أبنائه العصاة التحريفيين يتهافتون على الموائد أَنَّى كانت، وأيَّما وجبة حضرت. بل صار يسيل لعاب "بعضهم" على السلطة والجاه، سيفه مع معاوية، وقلبه مع علي، وموعده مع ابن سيار. ومن ثم، أصبحنا نُكَاتِفُ -ونحن نلج نفس الباب – وصوليين، وانتهازيين، همهم الأول والأخير، الفوز بالمقعد، والكتابة والأمانة ما دام أنها ستوصل إلى الوزارة حتما. وصارت المؤتمرات تغرق بالزبناء لا بالمناضلين إلا من رحم ربي وربك. بل –فيما سرى وانتشر- عرف المؤتمر الحزبي التاسع الأخير، إنزالا لمنتمين حزبيين آخرين لا علاقة لهم بالاتحاد الاشتراكي. وسمعنا كيف انتقلت كتلة صوتية جنوبية معتبرة –في رمشة عين- أو قبل أن يرتد إلينا الطرف- إلى الكاتب الأول الذي كشف عن اسمه الصندوق السحري الاقتراعي، وكان قبل قليل، قريبا أو أدنى من التساوي أو –ربما- السقوط المدوي. هل في الأمر تدخل ما؟ هل في الخلفية، شبح بغيض، يفعل ما يريد. هل هناك يد خفية، يد آثمة، يد أخرى، يد ثالثة..؟ يد من تكون؟... هي من فَصِّل وعدَّل، وقَلَّم، وأضاف وحذف، وَوَجَّهَ بالهواتف الذكية، والأسلاك المشتعلة. كل شيء محتمل ما دام أن الشعبوية مكيافيلية في البدء والمنتهى، وثور مهتاج لا يبقي ولا يذر، يدوس في طريقه العشب والزرع والسياج، وما دام أن الزعامة ذَهَبٌ يلتمع في آخر الدرب، وسِيرينَة فاتنة لا تني ترفع صوتها بالنشيد العذب، سيرينة فاتنة وهالكة لا لا يهم. ما يهم هو الكرسي ثم الكرسي ثم الكرسي، ولك المباديء التي أنت فيها يا مسكين ! هو –إذًا- زمن الأخطاء التي زرعناها ... هي –إذا- انزلاقات وقعت، وانحرافات حدثت، وتواطؤات تمت بليل، وفي واضحة النهار، حَادتْ بالحزب الذي كان له الإعتبار كله، والحساب جميعه، والإحترام الواجب له من لدن الخصوم والأعداء الألداء قبل الأحباب والأصدقاء. وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فهو –وفقا لما سبق- زمن الأخطاء التي زرعناها، وكنا –بهذه الصفة أو تلك، طرفا فيها، ما أفضى إلى التذبذب والتردد، والإنعطاف يمينا ويسارا، تحتا وفوقا، وأفضى –بالنتيجة- إلى راهنيتنا ووضعنا القلق اللامستقر، المتلاعب بالشعار واللافتة والموقف والاختيار، والخلفية الفكرية و الفلسفية والمعرفية التي كانت وراء قوة الاتحاد الاشتراكي، ووراء حضوره الضارب، وتاريخيته، ومعادلته التي لم تستطع مرحلة الرصاص والجمر، بجبروتها وطغيانها ورهبوتها، إخافته أو مساومته أو تحجيمه. لكن الرياح هبت بما لا تشتهي السفن، وظهر شعبويون في زمن الضحالة، والتبسيطية الفجة، والجفول الجماهيري، والزعيق العالي الذي ينأى بنفسه عنه كل من كان له الوقار والحشمة والفكر الثاقب، والمبدأ الثابت، ديدنا وملاذا ومأوى ووجهة ودارا. قال عبد الواحد الراضي بعد إعلان فوز ادريس لشكر بالكتابة الأولى، في جموع المؤتمرين الحاضرين، أو فيمن تبقى منهم على الأصح : "إن الإتحاد الاشتراكي يبرهن على صدق كلامه وسلوكه، وعلى أنهما يصبان في نفس الإتجاه. الإتحاد حزب ديمقراطي واشتراكي وحداثي. السفينة توقفت لتتزود ببعض المؤن، وما تحتاج إليه من خدمات وطاقات بشر، والآت، ستساعدنا على الاستمرار في الطريق. لكنها ستنطلق من جديد وستبحر وتصل إلى شط النجاة". والسؤال هو : هل اسْتَقْرَأَ الراضي ملامح الآتي القريب أو المتوسط أو البعيد؟ هل سأل عن طبيعة الأنواء الحَافَّة والقادمة؟ وعن فورة البحر من عدمها؟ وعن حنكة الربان والرجال، ومدى حرصهم واستوائهم وإمساكهم الدفة بإحكام؟ أما الوصول ففيه وفيه : فيه الحزم والعزم والهِمّة الدَّرَّاكة، واستحضار التاريخ، وشهادة الضحايا، وعنفوان المباديء التي رسمها الحزب منذ 1975. وفيه : التفريط و"التغليط" و"التكريط"، والبيع والشراء، والمقايضة على المباديء، و الإسترشاد إلى الوصول ، "بربابنة" آخرين أوفر عدة، وأكثر حيلة، وأثقب ذكاء، وأخس مكرا. يدي على قلبي، وأنا أثير الاختيار الأخير. إشارات : ولنا أن نقول إن زمن الأخطاء هذا، بدأ بعد إحداث ما يسمى ب "الكتلة الديمقراطية"، وبلورة مع تنفيذ فكرة "المرشح المشترك" مع حزب الاستقلال لخوض الانتخابات الموتورة والفلكلورية في التسعينيات من القرن الماضي. فضلا عن الانشقاقات والنزيف الذي عاناه جسم الاتحاد الاشتراكي، والذي ساهم فيه تصلب القيادة الستالينية، والإنفراد بالقرار، والكولسة، وانتفاء الديمقراطية الداخلية، والتحريفية، والإنزياح عن بعض الثوابت والقيم النضالية والفكرية التي أرساها المؤتمر الاستثنائي العام 1975.