قبل حَوالَيْ عشرِ سنواتٍ، كنا في بَهْو مسرح مُحَمد الْخامس، ننتظر بدْءَ عرض مسرحي. وكان بالقرب من ثُلَّتنا الراحل أحْمد الطيب العلج، يتحدث إلى أصدقائه، فسمعني أقول: بصراحةٍ إن ذلك الشخصَ ذو سلوك سيئ (مايْتْهَزْشْ من الأرض باللَّقاطْ)!أي مثل مسمار صَدِئٍ، يستَحيلُ أنْ تلتقطَه بِالْمِلْقَطِ.!..فترك أصدقاءه، وأدار وجهه إلَيَّ قائلا: من أين التقطت... هذا التعبير القديم؟ !أجبته باسِما: من نفس الصَّحن الذي تلتقط منه أنت تعابيرك!ردَّ متعجِّبا: إن هذا التعبير لَمْ أسْمعْه منذ أكثرَ من أربعين عاما، وأنا كنت أظن أنه اندثر، ولَمْ يَعُدْ له وُجود، إلى أن سَمِعتك بأذُني تستعمله في حديثك!قلت له: ياسيدي أحْمد، لَمْ أجِد أحسنَ منه دقةً في وصف شخص قَذِرٍ، يدَّعي الثقافة، وهي منه بريئة!سألني: وهل لك ديوان زجل؟اِبْتَسَمْتُ قائلاً: لا، أنا أكتب قصصا ومقالات بالفصيح، ولَمْ يَخْطُرْ ببالي نَظْمُ الزَّجل!قاطعني متسائلا: ولِمَ لا تكتب زجلا، مادامت دارجتك قوية؟!أجبته فورا: كيف أكتب زجلا، وفي الْمغرب شاعر كبير، اسْمُه أحْمد الطيب العلج؟! سأبدو أمامه قزما، ومتعسِّفا على هذا الفن الرَّفيع!اِحْمَرَّ وجْهُهُ خَجَلا لِمَدْحي وثنائي، ثُمَّ قال لي: لالا، أنتَ تُبالِغ وتُغالي في كلامك!وطلب مني أن ألتقي به من حين لآخر، لكنَّ دوامة الْحياة ومشاغِلَها التي لا تنتهي، حالتْ دون أيِّ لقاء بيننا، إلى أنْ علمت بوفاته، فرحمة الله عليه. ولعائلة العِلْج قصة وأية قصة! فهي تعود إلى سنة 1760 ميلادية، عندما أراد الْملك مُحمد بنعبد الله بناءَ مدينة الصويرة، لتكون ميناء، يصل الْمَغربَ بسائر دول العالَمِ، ولتعزيز الاقتصاد الوطني، عبر التبادل التجاري مع أروبا. ففي ذلك العهد، أحضر من إنْجلترا أربعَمئةِ مهندسٍ وتقني في البناء، لتصميم وتشييد الْمدينة. وبِما أن هؤلاءِ الأُطرَ، لقيتْ في بلادنا كلَّ العناية والرعاية، ولَمَسَتْ في الدين الإسلامي مبادئَ إنسانية وقيما عالية، فإنّها أعلنتْ إسلامَها، وكَوَّنتْ لَها أُسَرا، وفضّلتِ البقاءَ في الْمَغرب، فأطْلِقَ عليها اسم (العِلْج) بالكسر، وإنْ كان ينطق بالفتح تَخْفيفا!..ولهذا الاسْم معنيان: الأول، عِلاجٌ، أي مُزاولة العمل، كالتشييد. والثاني، الْمُهاجر الأروبي. وبفضل هؤلاء، تَمَكّن الْمغرب من إتْقانِ فنِّ البناء والزخرفة والتعامل التجاري. وكانتْ دول الْمغرب ومصر واليابان في هذا العهد، شرعتْ في إرسال بعثاتٍ طلابية إلى فرنسا، لتلقي العلوم العصرية!فإذنْ، كان الراحلُ أحْمَدُ يَجُرُّ خلفَه تراثا حضاريا، مزيجا من العطاءِ الغربي والعربي، ولَمْ يكنْ في حاجة إلى تعليم ولا دراسة، لأن الْمُجْتمع الْحَضاري الذي فتح عليه عينيه، كان كافيا لِحَقْنِه تلقائيا بالرصيد الثقافي والأدبي والفني السائد حينئذ. ففي 9 سبتمبر 1928 ولد أحْمد في عائلة تَحْتفي بتقاليدها وعاداتِها العريقة، وتُقَدِّر الْمُناسباتِ الدينية والوطنية، وتُوفي الأعيادَ والْمَواسِمَ حَقَّها. فنشأ بين جلسات الذِّكْر، وليالي الْمَديح النبوي، وترديد قصائد الْمَلْحون. كما أنَّ ورشة النِّجارة، التي عَمِل بِها صغيرا، كانتْ تَحْتضِن كلَّ يومٍ، بعدَ العصر، نُخْبةً من رجالاتِ الْحَكْي والسَّرد والتَّلْغيز. فيُرْهِف سَمْعَه لَها، ويُدَوِّن مايُطْرِبُهُ ويُعْجِبه من حكاياتِها وخُرافاتِها وألْغازِها وأُحْجِياتِها الْمُسَلية.غير أنَّ شوقَه إلى العلْم والْمَعرفة، دفعه إلى السفر لبعض الدول العربية والأروبية سنة 1960، للنَّهْل من رواد الْمَسْرح فيها، فأثْرى ثقافته وتَجْربته، بِما تَحَقَّق في تلك البلاد من إنْجازاتٍ فنية. وعاد إلى أرضه ووطنه، ليساهم في إقامة قواعد الْهَرم الْمَسرحي، بالإضافة إلى فنانين ومبدعين آخرين. بل ليساهم كذلك، في نَظْمِ قصائد الفن الغنائي الْمَغْربي. فكان مثالا للجيل الصاعد يُحْتذى، سواء في أب الفنون، أوفي الزَّجل. والْحَرِيُّ بالذِّكر، أنَّ الراحل كان عضوا باتِّحاد كتاب الْمَغْرب منذ 1986 ونال جائزة الآداب الْمَغربية في 1973 ووسام الاستحقاق الفكري من سورية في 1975.