أغلب من تابعوا ليلة أول أمس البرنامج التلفزيوني (90 دقيقة للإقناع) على قناة ميدي1 تيفي، والذي استضاف الأمين العام لحزب الاستقلال، وحضر للمساهمة في محاورته والتعقيب على أجوبته القيادي التجمعي رشيد الطالبي العلمي، لم ينجحوا في فهم الفرق بين أن تكون ضمن أغلبية حكومية أو أن تكون في المعارضة، وقد سقطت كل تفسيرات علم السياسة، وتساوت الأضداد في المبنى وفي المعنى. أن يصر الزعيم الجديد لحزب الاستقلال على قول كل ما يريده، فهذا حقه، ولكن من حقنا أن نخشى على ما يجري تقديمه للمغاربة كعرض سياسي غارق في السوريالية وفي اللامعنى، ومن حقنا أن نعتبر أن من يصر اليوم، ولو من وراء ستار، على العودة إلى خلط الأوراق والتأسيس لغموض سياسي جديد في مشهدنا السياسي، هو يسير بالبلاد نحو المجهول، ونحو... الانتحار. وعندما كنا نتحمل «تخراج العينين» من المعارض الأزرق الواقف منتشيا، كان الكثيرون منا يسألون عنه: من يكون؟ ولماذا علينا تحمل كل هذا اللاخجل؟ في البرنامج التلفزيوني المذكور لم نسمع، بصراحة، من زعيم حزب يشارك في الحكومة ولو تقييما إيجابيا واحدا لعمل هذه الحكومة، ولو فعل ممثل الحزب المعارض السلوك نفسه لهان الأمر، ولكن ما تابعه المشاهدون كان في الواقع أكبر من الحكاية القديمة التي سميت ذات زمان ب «المساندة النقدية» أو «مولا نوبة» وما ارتبط بهما من قصص ومحكيات معروفة. من دون شك هناك اليوم من يريد أن يخرج من القمقم، ويطل على المغاربة من بين ثنايا الأغلبية والمعارضة معا، ويتمنى أن يعيد زمننا السياسي والمؤسساتي إلى ما قبل خطاب الملك في تاسع مارس الماضي، أو إلى ما قبل نتائج انتخابات 25 نونبر، وحتى في مثل هذا الجنون يبقى الناس أحرارا، ولكن لنتذكر أن المغرب نجح في تفاعله مع الحراك الديمقراطي والشعبي، بخلاف بلدان الجوار، لأنه اختار بالذات هذا العبور من خلال العمل الديمقراطي ودولة المؤسسات، وهذه المنظومة هي التي قادتنا إلى اقتراع 25 نونبر وإلى نتائجه التي قررت من احتل الرتبة الأولى ومن احتل الرتبة الثانية ومن رفعت في وجهه شعارات «ارحل»، والمنطق الديمقراطي يفرض اليوم أن يسير المسلسل إلى نهايته، لأنه واهم من يعتقد أن الخطر زال، و»لي كايحسب وحدو كايشيط ليه» كما تأكد ذلك مليون مرة سواء لمنظري التحكم أو لغيرهم. والانتخابات بطبيعتها، وفي كل الدول الديمقراطية، يمكن أن تضع هذا الحزب في المرتبة الأولى وذاك في المرتبة الثانية أو الأخيرة، وفي الاستحقاق الموالي يمكن أن تأتي النتائج عكسية، وهذا هو معنى التداول في أبجديات الكلام، ومن حق كل الأحزاب أن تعمل كي تكون في صدارة النتائج الانتخابية، لكن أن تفعل ذلك ضمن دائرة احترام مواقعها الحالية على الأقل، وليس أن يتم تجريد الجميع من أدوارهم ويجري الاكتفاء بتمجيد الذات والرقص حواليها بالتلميح والتصريح. المغاربة ليسوا بلا ذاكرة أو عقل... هم يعرفون أن الحكومة الحالية يقارب عمرها سنة واحدة، وبالرغم من أن سابقاتها حققت منجزات مهمة وراكمت إصلاحات، فهي أيضا خلفت عديد قضايا تتطلب اليوم الاستمرار في معالجتها. هم يعرفون أيضا أن البلاد تحتاج اليوم إلى قرارات شجاعة بشأن ملفات كبرى مثل: المقاصة، التقاعد، الجبايات وغيرها، وهكذا قرارات لا تستطيع النجاح فيها إلا أغلبية سياسية تمتلك شرعية شعبية وانتخابية، وهو الحاصل اليوم، ويجب مساندة الحكومة للقيام بذلك، أما خياطة سيناريوهات متوهمة أخرى، فهو ببساطة سيقود البلاد برمتها إلى ... المنغلق. لقد فهم مشاهدو البرنامج التلفزيوني ليلة أول أمس تلميح الضيفين لقطاعات وزارية معينة، وخصوصا وزارة التشغيل وأيضا وزارة الصحة، وأدركوا معنى استهداف البروفيسور الحسين الوردي مثلا، ورغم أن الموضوع قيل وكتب فيه الكثير، فإن اختيار مواجهة المسار الإصلاحي والتخليقي في وزارة الصحة اليوم بالذات يفضح بقية الحكاية، والهجوم، ولو بالتلميح على وزيرين من حزب التقدم والاشتراكية، يجعل الصورة معبرة عن وجود من يحرك كل هذا اللاشيء الرائج أمامنا اليوم. ثم ما معنى القول اليوم بأن الحكومة فشلت في ملف البطالة، وفي الرفع من مستوى القدرة الشرائية، وفي التخفيف من حدة الاحتقان الاجتماعي ووووو.......، أليس الكلام هنا غرائبيا فعلا؟ وعندما نقول هذا الكلام عن حكومة لم يمر عليها في المسؤولية سوى أقل من عام، فماذا عسانا نقول عن الحكومة التي أنهت ولايتها كاملة، وعن التي قبلها؟ وماذا يمكن أن نقول عن القطاعات الوزارية التي دبرها الحزب نفسه لسنوات وليس لأقل من عام؟ لقد كان «التشيار» طيلة مدة البرنامج التلفزيوني في كل الاتجاهات، يمينا وشمالا، واستهدف كل الأحزاب المشكلة اليوم للتحالف الحكومي، ولم تقدم الورود سوى للحزب المعلوم الذي أصبح «عاديا» اليوم. بإمكان رئيس الحكومة وحزبه الدفاع عن أنفسهم، ولكن من حق المغاربة المطالبة بالمعنى في السياسة وفي الاصطفافات وفي ... الأخلاق، ومن حقهم أيضا الخوف على المستقبل من كل هذا التبخيس الذي يمارس في حق السياسة، وفي حق مصالح البلاد. كل هؤلاء اليوم، ماذا يريدون بالضبط؟ لماذا لا يتكلمون بوضوح؟ لماذا يتخبطون؟ لماذا يرتبكون؟ إن البلاد اليوم لا تستحق كل هذا اللامعنى الذي يهجم علينا، وشعبنا لا يستحق كل هذا التبخيس الذي يصر عليه البعض من أجل جرنا جميعا إلى ... الخواء. البلاد أمامها تحديات جوهرية، وشعبنا يعبر عن مطالب وانتظارات أساسية، ومحيطنا المغاربي والعربي يغلي بالسخونة، ويقدم لنا يوميا التنبيهات، ويحذرنا من المخاطرة بكل شيء، فقط لأن هذا الحزب أو ذاك لم يصدق ما منحته له صناديق الاقتراع، ويريد إعادة البداية كلها. من حق الأحزاب أن تمارس التاكتيك الذي تريده، وأن تقرر الاستراتيجيات السياسية والتواصلية والكلامية التي تروق لها، ولكن ليس من حقها إطلاقا جعل الذات محور كل الأشياء، والأحزاب الأخرى بلا أهمية، وليس من حقها أيضا أن تغمض العيون عن كل القواعد والمؤسسات، ولا تفتحها إلا على اتهام الآخرين والتنقيص منهم، وعلى قول الشيء واللاشيء. السياسة هي فعلا أكثر جدية من كل الذي تابعناه عبر (90 دقيقة للإقناع).