كم هي بائسة هذه القيادات التي كي تبرر لنفسها التهرب من مسؤولياتها، وكي تبرر عجزها وإفلاسها، لا تجد ما تقدمه لشعبها سوى الموت المجاني بذريعة أن الأعمار بيد الله (!) إحدى الفضائيات العربية، أجرت، مشكورة، حديثا مع إحدى الشخصيات الفلسطينية، التي تقدم نفسها مسؤولة عن الشعب الفلسطيني، وممن تولت يوما ما منصبا رسميا. أثارت قضية العائلات الفلسطينية التي نزحت من سوريا إلى لبنان تحت ضغط الأوضاع المؤسفة في البلد العربي الشقيق. الفضائية أشارت إلى حوالي 600 عائلة (ولربما كان الرقم يرتفع إلى 800)، لجأت إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان، ووجدت لدى أقاربها ومعارفها مكانا يحفظ كرامتها، ويقيها، ولو نسبيا، مآسي النزوح واللجوء القسري. الفضائية سألت «المسؤول» الفلسطيني عما ستفعله منظمة التحرير الفلسطينية (دائرة شؤون اللاجئين مثلا) لإغاثة هذه العائلات المنكوبة، التي اضطرتها الأحداث المؤسفة لمغادرة منازلها. صحيح أن الأقارب والأصدقاء استقبلوا هذه العائلات، لكن الصحيح أيضا أن الأوضاع الاقتصادية والمالية لأبناء مخيمات لبنان، لا تستطيع أن تتحمل أعباء عائلات نازحة، تحتاج إلى ما تحتاجه العائلة مما يسد حاجاتها، خاصة في شهر له خصوصيته، هو شهر رمضان. ومن تابع الحديث بين الفضائية والشخصية الفلسطينية لاحظ تلك المحاولات الفاشلة التي لجأت إليها هذه الشخصية لتبرر تهرب قيادة المنظمة من واجباتها، بما في ذلك الغمز من قناة العائلات النازحين إلى لبنان. فقد أسهب «المسؤول» الفلسطيني في الحديث عن وحدة الحال بين الشعبين السوري والفلسطيني، وتحدث عن الظروف الواحدة التي ألمت بالشعبين على أرض سوريا، ليخلص بالتالي إلى التأكيد أن الفلسطينيين ليسوا طرفا في الأزمة السورية، وأن المخيمات الفلسطينية في سوريا ليست مستهدفة، وبالتالي لا داعي للهجرة إلى لبنان، وعلى الذين نزحوا أن يعودوا إلى منازلهم وأن يثبتوا في أماكنهم، وأن يعيشوا الظروف نفسها التي يعيشها إخوانهم أبناء المخيمات الذين لم ينزحوا، وبالتالي ليست هناك قضية تحتاج أن تلتفت إليها قيادة م.ت. ف. صحيح أن الفلسطينيين ليسوا طرفا في الأزمة السورية، وصحيح أنهم يعملون بشكل ملح على عدم الزج بهم في هذه الأزمة. وصحيح أن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ليست مستهدفة. لكن الصحيح أيضا ولعل هذا غاب عن بال صاحبنا أن الفلسطينيين في سوريا ليسوا كلهم من سكان المخيمات. هناك فلسطينيون في مدينة حلب، وأعدادهم فيها ليست قليلة. وفي أحياء دمشق وريفها تسكن مئات، بل آلاف العائلات الفلسطينية: في دوما، وركن الدين، وكفر سوسة، والحجر الأسود، والتضامن، ودمر، ومشروع دمر، وقدسيا، وجوار السيدة زينب، وحجيرة، وجوار سبينة، وبعض أحياء يلدا، وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره، دون أن ننسى من هم في درعا وحمص وحماة، واللاذقية. وبالتالي فإن كثيرا من العائلات الفلسطينية النازحة إلى لبنان، كانت تسكن هذه المناطق، والتي إن نحن تابعنا الأخبار الواردة من دمشق، للاحظنا أنها كانت مسرحا للاشتباكات، وسقط فيها قتلى وجرحى، وشهدت دمارا مؤسفا في الدور والمنازل. لذلك لا يلام رب العائلة إن هو نزح مع عائلته بعيدا عن مسرح الاشتباكات، خاصة وأن النزوح كان جماعيا، ولم يقتصر على الفلسطينيين وحدهم. نزح السوريون، والفلسطينيون وكل السكان، أياً كانت جنسيتهم. والعودة إلى البيت تتطلب أولا وقبل كل شيء توفر الأمان، كما تتطلب ترميم البيوت التي تضررت، وإلا فإن كل الحديث عن العودة والثبات، ليس إلا لغو وكلام أطلق في الفضاء دون فائدة. *** إن نظرة على واقع المنطقة تفيد بأن الفلسطينيين تطالهم الأحداث، أكانوا طرفا فيها أم لم يكونوا. هم في القطاع تحت الحصار، وفي مواجهة العدوان. وفي الضفة والقدس هم تحت الاحتلال وفي مواجهة القمع والقتل والاستيطان. وفي مناطق 48 هم في مواجهة نظام عنصري، أين منه النظام العنصري البائد في جنوب أفريقيا. وهم في العراق، عانوا ما عانوه على يد القوى المحلية، في صراعات غير مبدئية، ما كانوا، ولن يكونوا طرفا فيها. ونتذكر جيدا مأساة الأهل في الكويت وفي دول الخليج وكيف دفعوا غاليا ثمن صراعات دولية وإقليمية باعتبارهم الطرف الأضعف. وفي لبنان، يعيشون ظروفا مأساوية باعتراف اللجان الوزارية اللبنانية نفسها، حين زارت المخيمات، و«اكتشفت» الحقيقة القاتلة بأن هذه المخيمات هي حقاً «بؤر للمعاناة الإنسانية» تحتاج إلى مشاريع لا تعد ولا تحصى لإخراجها من ظلام البؤس إلى نور العدالة الاجتماعية. ومؤخرا امتدت المأساة إلى أوضاع الفلسطينيين في سوريا، ووجدوا أنفسهم في ظروف أمنية ومعيشية لم يكونوا يوما ليتمنونها، لا لأنفسهم ولا لإخوتهم أبناء الشعب السوري الشقيق. *** هذه المعاناة، سببها الأساسي العدوان الصهيوني المستمر منذ ما قبل قيام إسرائيل. لكن المعاناة تتفاقم عندما لا تجد من يحاول أن يتصدى لها وأن يخفف من آلامها وآثارها وفعلها في الأجساد والنفوس، وفي الممتلكات، والنداء الذي أطلقته الفضائية العربية، نيابة عن اللاجئين الفلسطينيين الذين نزحوا من سوريا إلى لبنان، يندرج في محاولة تخفيف وقع المأساة على أوضاع هؤلاء اللاجئين الجسدية والنفسية والاجتماعية. لكن للأسف قوبلت الفضائية بمحاولة مكشوفة للتهرب من المسؤوليات. وهذه ظاهرة لم تعد غريبة في سلوك شخصيات وقيادات فلسطينية، تتعامى عن الواقع المأساوي لشعبها، وتلجأ إلى اللغة الخطابية، الرنانة في ظاهرها، الفارغة في مضمونها، وكأن الفلسطيني إنسان لا يفترض به أن يجوع وأن يتألم، ولا يحتاج إلى حبة دواء ولا إلى مأوى. كان يفترض بالقيادة الفلسطينية، وإلى جانبها دائرة شؤون اللاجئين، أن تستنفر طاقاتها وإمكانياتها لنجدة المصابين بآلام الصراعات في المنطقة. ولا يقلل من أهمية هذه المسألة القول بأن السلطة والمنظمة تعانيان من أزمة مالية. كان بالإمكان تنظيم حملة في صفوف الأغنياء والممولين الفلسطينيين، لتوفير المبالغ الضرورية لنجدة المتضررين كالحملة التي نظمت، في وقت سابق، لاستحداث «صندوق الرئيس محمود عباس» لدعم الطالب الجامعي الفلسطيني في لبنان. أكثر ما يؤلم، في العودة إلى ما جرى على شاشة الفضائية، أن «المسؤول» الفلسطيني لم يكتف بالتهرب من مسؤولياته. المؤلم، أنه عندما دعا النازحين إلى العودة إلى بيوتهم المدمر معظمها سألته الفضائية عن مخاطر هذه العودة في هذه الظروف، فأجاب بكل عنجهية، «إن الأعمار بيد الله». ولعل في هذا الرد قمة الاستخفاف بحياة البشر، وقمة اللامبالاة. بل هو رد يعبر عن «استقالة» هذه الشخصية من موقعها المسؤول، لأن من يقدم الموت المجاني لشعبه، كي يتهرب هو من مسؤولياته، وكي يتهرب من الاعتراف بفشله وبعجزه عن تحمل المسؤولية، لا يستحق أن يمثل هذا الشعب ولا يستحق أن ينطق يوما باسمه. إن الشعب الفلسطيني لا يحتاج لمن يذكره بأن الأعمار بيد الله، الشعب الفلسطيني يحتاج، كما بات واضحا، لقيادة، تكون مسؤولة على مستوى هذا الشعب وتضحياته وإرادته السياسية، وعلى مستوى طموحه.