التداخل الثقافي والوضع الاجتماعي للراوي تحت المجهر شهدت مدينة بني ملال ونواحيها، فعاليات الدورة السادسة لمهرجان ليالي الحكي، الذي يسهر على تنظيمه المركز الدولي للأبحاث في فنون الكلام،وقد اشتمل على ثلاث فقرات أساسية: عروض فن الحكي، وندوتان حول "الحكي والتثاقف"، و"مهنة الراوي"، بمشاركة باحثين ورواة من داخل الوطن وخارجه. وتم خلال هذه التظاهرة الثقافية التي امتدت أربعة أيام، إبراز مجموعة من المظاهر: - انتشار نفس الحكايات في مختلف أقطار المعمور، وهي إن كانت تروى بصيغ متعددة، غير أنها تظل محافظة على جوهرها. - الوضع الاجتماعي للحكواتي المغربي، على وجه الخصوص، لا يزال مهزوزا، وهو ما يتطلب تضافر الجهود، لإعادة الاعتبار إليه، مع ضرورة الاهتمام بإنشاء أقسام لتكوين الرواة، في سبيل تحقيق الخلف وبالتالي ضمان استمرارية هذه المهنة، المرتكزة على فن القول والتربية والإمتاع وتفعيل المخيلة. كانت الأيام الأربعة من عمر المهرجان، حافلة بالعروض الفنية والنظرية، صباحا وعشية وليلا، بمشاركة رواة وباحثين من بلدان مختلفة: كنداوفرنسا والسينغال والجزائر ومصر، فضلا عن المغرب، كما أن الفضاءات التي احتضنت هذه الفعاليات، كانت متنوعة: الصالون الأدبي لفندق البحيرة بجماعة بين الويدان، وسوق الأحد والجزيرة والخزانة الوسائطة الفشتالي ومجموعة من المدارس بمناطق نائية. وقد وقفنا من خلال غنى العروض المتنوعة، على أن مهنة الراوي، لا تنحصر فقط في الحكي التقليدي، حيث برز ما يطلق عليهم "الحكواتيون الجدد"، خاصة أولئك القادمون من أوربا وكندا، حيث اشتملت عروضهم كذلك، على الرقص والغناء والعزف الموسيقي والفكاهة والمهارات اليدوية ووو..وهو ما أتاح للمتفرجين من أعمار وفئات اجتماعية مختلفة، السفر إلى عوالم أخرى، لا تخلو من عجائبية ومغامرة ورموز وألغاز ودهشة ومتعة وفائدة. كلمة محمد قاوتي الرئيس الشرفي للمهرجان أيتها السيدات الفاضلات، أيها السادة الأفاضل، من موقع الرئيس الشرفي للمهرجان الدولي لليالي الحكي، أستسمحكن وأستسمحكم عن عدم انضباطي و"بَرْوَلَةَ" كلمة بروتوكولية، كما شاءت وتشاء شروط وقواعد تنظيم اللقاءات والمحافل، إذ عوض هذا سأستقي من روح المقام نِسغهُ وأقتسم معكم تأملا في بعض أقوال الحكيم الكاتب عبد الله ابن المقفع، مستقاة من كتابه "الأدب الصغير"، وهو يحكي عن الأدب وتواتره والحكي، والحالة هذه، فن وأدب ويحكي عن الاقتداء بمن أبرع في الأدب، ويحكي عن أجر راويته لمجرد روايته... فيقول... جل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. وليس من الأدب حرف من حروف مُعْجَمِه، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، مُتَعلَّم، مأخوذ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ سابق. وذلك دليل على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولَهُ ولم يأتهم علمُهُ إلا من قبلِ سَبْقِ سَابِقْ. فإذا خرج الناسُ من أن يكونَ لهم عمل أصيل وأن يقولوا قولاً بديعاً، فليعلمِ الواصفونَ أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً، فنظمه قلائدَ وسموطاً وأكاليلَ، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لونٍ شَبَهَهُ وما يزيده بذلك حُسْناً، فسمي بذلك صانعاً رقيقاً. فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسنه أو يُستحسَنُ منه، فلا يعجَبن إعجاب المخترع المبتدعِ، فإنه إنما اجتناه كما وصفنا. ومن أخذ كلاماً حسناً عن غيره فتكلم به في موضعه وعلى وجهه، فلا عليه في ذلك ضَؤولَة، فإن من قدر على حفظِ كلامٍ المصيبين، وهدي للإقتداء بالصالحين، ووفق للأخذِ عنِ الحكماء، ولا عليهِ أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس بناقصهِ في رأيه ولا باخسهِ من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه. خصوصا، خصوصا، إذا جعل الكلام مثلاً، فكان ذلك أوضح للمنطق، وأبيس في المعنى، وآنق للسمعِ، وأوسع لشعوبِ الحديثِ، فأخذنا بدورنا من كلامه الحَسَنَ نستحسنه ونستحسن منه ونحن نتراوح بين إعجاب المخترع المبتدع وتواضع المقتدي المهدي. لعلنا في هذا المحفل، ونحن نهتدي بحكمة السلف الصالح، نأخذ من خرقة الحكي خيوطا، كلما تصرمت أعدنا ترتيبها، وباشرنا نسجها على منول الذاكرة المشدودة للذي مضى والذي يحل بنا، ينشينا، والذي سيأتي، لا محالة، في حكي اللاحقين. فليكن حكيكم مباركا، وليكن محفلكم مباركا، ولتكونو مباركين. والسلام عليكم. بين الويدان في 15 أبريل 2010 صورة شخصية الراوي عمر الدوعامي بمجرد ما أقف وسط الحلقة تأتي إلي الحكاية طوعا سافر إلى الرباط، بعد مغادرته للدراسة، يقول إنه لم يعلمه أي أحد حرفة فن الحكي، بل هو من لقنها لمجموعة من الرواد البارزين، مثل محمد باريز. منذ الصغر كان لديه ميول نحو قراءة القصص، يذكر أنه قرأ ألف ليلة وليلة بكل أجزائها. لا يعرف كيف قدم إلى الرباط من مسقط رأسه ببني ملال، كل ما يذكره أن نقوده انقطعت، وهو يتجول في السوق؛ فصادف أحدا يحكي للناس قصة سبق له أن سمعها، لكنه لاحظ أن طريقة حكي هذا الراوي مقلوبة-على حد تعبيره- وقال لنفسه إنه يستطيع أن يحكيها أفضل منه، وفي اليوم الموالي، أتى إلى السوق قبله،وتحلق الناس حوله، وعند التحاق ذلك الراوي بهذا المكان، وجد حلقة كبيرة؛ فاندهش ودخل في نزاع مع الدوعامي، مدعيا أن هذا مكانه، وأنه سرق منه جمهوره وأن وأن.. وتم الاتفاق بينهما في النهاية على أن يعملا معا في نفس الحلقة، على اعتبار أن الدوعامي يحكي الحكايات، في حين يتولى الراوي الآخر قراءة الفاتحة وجمع النقود، غير أنه بعد مرور أسبوع على هذا العمل المشترك، اكتشف الدوعامي أن النصيب من المال الذي يحصل عليه، هو أقل بكثير من نصيب شريكه، وكان كلما استفسره عن ذلك، يتلقى الإجابة نفسها: "هذا ما أعطى الله.."، يتذكر الدوعامي حدثا طريفا له ارتباط بذلك قائلا:"كنت ألاحظ دائما أنه يحك خصره، في حين أنه كان يقوم بذلك للتمويه، لأنه في الواقع كان يدس النقود في جيبه، فخاطبته بالقول : اعطيني التساع..". بعد مرور سنة على اشتغاله في دوار الدوم، كان قد تمرن جيدا على قراءة الفاتحة،وأحس بأن عقله تفتح، واخذ يجتهد في فن الحكي، حيث أنه لم يعد يكتفي بسرد الحكايات التقليدية، بل صار يشاهد الأفلام السينمائية، ويستنبط منها القصص، ويبتكر. معظم الحكايات التي دأب الدوعامي على حكيها، هي من التراث، كما هو الحال بالنسبة للعنترية والأزلية وسيرة بني هلال وفيروز شاه، وحمزة البهلوان.. يوضح أنه لا يحتاج لكي يتمرن على العرض، الحكاية في رأسه، وبمجرد ما يقف وسط الحلقة، تأتي إليه الحكاية طوعا، فيسترسل في حكيها، عادة ما يختار موضوعا مطابقا للجو السائد حوله، قد يكون عبارة عن ألغاز، أو أخذ بالتأثر، أو مجرد حيل ومكائد، كما هو الحال بالنسبة لمكائد النساء.. لكن في جميع الأحوال، يحرص على أن تكون الحكاية "جيدة للسمع ومقبولة" على حد تعبيره العفوي. هناك حكايات تتطلب منه وقتا أطول لسردها، كما هو الحال بالنسبة لحكاية الأميرة ذات الهمة، التي تستغرق بالنسبة إليه عاما ونصفا، بمعدل ساعتين كل يوم، أما حكاية عنترة فتستغرق أحد عشرة شهرا، في حين يمتد سرد حكاية فيروز شاه، وكذا الأزلية، ما يناهز ستة أشهر. منذ أربعين سنة وهو يمارس فن الحكي، بالفضاء نفسه، وهو سوق برة ببني ملال، وعندما يريد إعادة الحكاية نفسها؛ فإنه يدخل بعض التعديلات، حتى لا يمل المتفرج، مع العناية ببث روح الفكاهة، يردد بهذا الصدد قائلا "وعلله بشيء من المزح"· يعترف الدوعامي بأنه منع على أبنائه اكتساب مهنته، مبررا ذلك بالقول: " كنت أرى نفسي مبهدلا في هذه الحرفة، لكنني كنت أصبر من أجل المعيشة وتربية الأبناء، قبل عقد من الزمن، كانت هذه الحرفة مذلولة، لم أكن أرضى أن تقيد ببطاقتي الوطنية مهنة الحلايقي، بل كنت أقول إنني صباغ، لأنني فعلا اشتغلت بمهنة الصباغة، في بداية حياتي المهنية،لكن حاليا بدأ يولى شيء من الاهتمام، لمهنة الحلايقي، وذلك بعد أن ظننت أن هذا الفن سقط..". يتمنى الدوعامي أن يزدهر هذا الفن، ويهتم به الشباب أكثر، لأن الحكي -على حد تعبيره- فن حلو. رجال المنشار أو الحكواتيون الجدد كانت فرقة رجال المنشار القادمة من منطقة الكيبيك الكندية، بمثابة الضيف المتميز واللافت، في الدورة السادسة لمهرجان ليالي الحكي ببني ملال، ويعود هذا التميز إلى الآلات التي يعتمدونها لإحداث المؤثرات الصوتية المصاحبة لحديث الراوي. إنها آلات بسيطة، يبرز بينها المنشار، الذي يتم بواسطته إحداث صوت باعث على الشجن، يتفاعل مع المضامين الحكائية، ذات البعد الخرافي، وفي ذلك تمرد على الآلة التي تتمرد بدورها على الطبيعة، أي المنشار. ولهذا لقبت الفرقة ب"رجال المنشار"، إنهم يجسدون بحق، ما يسمى بالحكواتيين الجدد، الذين تجاوزوا الطرق التقليدية للحكي، دون الانزياح عن عنصر الإبهار والإمتاع وتنشيط المخيلة. يقول المسؤول عن الفرقة، في التصريح الذي خص به بيان اليوم "إننا نحرص في جل عروضنا على توظيف الصور الشعرية،إنها تجربة غنية، لكنها في نفس الوقت مقلقة، فأنا عندما أروي الحكايات، أنظر إلى المتفرجين لأطمئن على أنهم يتجاوبون معي. هذه الحكايات مستقاة من آبائنا وأجدادنا، وهي مصدر إلهامنا.كما نطعمها بالطرائف التي نصادفها ونعايشها في حياتنا اليومية. العرض الذي نقدمه في هذه الدورة، عبارة عن قصة حب أولى، إنها شبيهة بمرحلة انتقالية ناجمة عن حدث مأساوي. في كندا، هناك عودة إلى الحكاية الشعبية وإلى التراث الشفاهي، منذ منتصف التسعينات، ولكن مع شيء من الابتكار والخلق. يمكن الحديث عن خلف جديد، وبلا شك سيحافظ على استمرارية هذا التعبير الشفوي، بشكل هائل، المثير أن النساء الراويات، يشكلن نسبة أكبر في كندا، وهذا يساهم في إغناء هذه الثقافة. أمين الحلايقة محمد مخلص نسعى إلى أن يخصص لنا تعويض مادي قار * كيف هي ظروف عملك؟ - أجد الناس عادة ينتظرونني بساحة بوجلود بفاس، أحمل معي كرسيا وكأس شاي، ودائما أفتتح العرض بالسلام والصلاة على رسول الله. لقد أتيت إلى هذه المهنة بسبب ولعي بها، لم أكن مولعا بالسينما، بل كنت منذ الصغر أجلس قرب الحكواتيين، وأحفظ ما يروونه، وهناك أشياء صرت أكتبها وأرويها، لأن شباب اليوم ليس هو شباب الأمس.علاقتي مع الجمهور جيدة، فقد علمتني التجربة أنه علي التعامل معه مثلما أتعامل مع الموجة، أستريح فوقها أو أغوص بداخلها، دون عناد. * نلاحظ حملك للعصا،أثناء الحكي، وأحيانا أخرى تحرص على حمل منديل، ما دلالة ذلك؟ - العصا رمز، لقد خرجت من الجنة،بها أخيف الأطفال، وبها أصور الفارس المغوار، لأجعل المتفرج يتصور أنه يرى شريطا أمامه.الراوي بلا عصا مثل مطرب بلا آلة. بالنسبة للمنديل، هو طريقة لجلب انتباه أنظار المارة، لأجل تكوين الحلقة، عبر القيام ببعض الحركات البسيطة. * نود أن تقربنا من التنظيم الذي أسستموه لتسيير نشاط الحلايقة في ساحة باب بوجلود؟ - لقد تم انتخابي أمينا للحلايقة بساحة بوجلود، بعد أن أسسنا جمعية للنهوض بهذه الساحة، ولتحسين الظروف الاجتماعية للعاملين بها. دوري يتمثل في الدفاع عن حقوق الحلايقة، وتنظيم العمل في الساحة، وحمايتها من المتطفلين، علما بأن كل واحد منا يحمل رخصة من الجماعة المحلية، ويضع شارة على صدره، ونسعى إلى أن يخصص لنا تعويض مادي قار، لكي نعمل بارتياح ونجتهد في عملنا ونعطي أكثر، ولا نعذب المتفرجين بشكاوينا، لحد الساعة لا تزال هناك وعود بخصوص الدعم المفترض. إننا نسعى إلى أن تتبوأ ساحة باب بوجلود نفس المكانة التي توجد فيها ساحة جامع الفنا، أو أكثر من ذلك الناقد حسن المنيعي: التفاعل الثقافي لا يمكن أن يحقق هدفه إلا عبر التفاعل المسرحي الذي يقوم على الحكي * مامدى أهمية فن الحكي؟ - موضوع الحكاية، جدير بالاهتمام به، باعتبار أن له ارتباطا بالتراث الشفوي، يجب أن نأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار والعمل على تقديم دراسات بشأنه، وجمعه وإعادة بنائه وتقديمه للأطفال، بطريقة أصيلة، تخول لهم الاطلاع على عوالمه والكشف عن ثرائه وإمكانياته التي تجعل منه تراثا فرجويا، يعوض لهم ما انفلت منهم عن طريق ما تعودوا مشاهدته في التلفاز وعبر فرضيات ما تقترحه الثقافة الرقمية. البحث في مجال الحكي، يحتم على الباحثين أن يقوموا بعمل استقراء تاريخه، لأن هذا التاريخ غير مكتوب بصفة رسمية ونهائية، الشيء الذي يجعل الباحثين أمام مادة لغز، لا يمكن لنا الوقوف على خفاياها إلا من خلال بعض الدراسات الجامعية. كثيرا ما يعتمد الباحثون الجامعيون، على ما يسمى عملية التجميع التي قامت بها الإدارة الاستعمارية، حيث قد قدمت هذا التراث، لا في جوانبه المشرقة، ولكن في بعض جوانبه الفولكلورية، وهو ما يجعل الباحث أمام إشكال كبير، وهو إعادة النظر في عملية التجميع هاته وقراءتها ونقدها والكشف عن مرجعياتها الحقيقية وكذا تدوينها، لتشكل مادة بحث بالنسبة للجامعيين أو الذين يهتمون بهذا التراث. * ما تقييمك للعروض الفكرية التي ألقيت في هذا المهرجان، حول الحكي والتثاقف وكذا مهنة الراوي؟ - راقتني جلسات النقاش، حيث أن هذه الجلسات لم تأخذ طابعا أكاديميا، بما في الكلمة من معنى. كانت المشاركات عبارة عن أحاديث ونقاشات متبادلة بين المتخصصين في هذا المجال، وفي نفس الوقت كانت هناك مشاركة فعالة للرواة التقليديين والجدد. * ماهو تحليلك لقضية الحكي والتداخل الثقافي؟ - الحكي هو قاسم مشترك بين الشعوب، فالشعب الذي لا يحكي، هو شعب ميت. الحديث عن التفاعل الثقافي، يحتاج إلى تأمل كبير. على اعتبار أن تداول الحكي، هو تداول مشترك، وقد نجد حكاية شعبية مغربية، تشبه حكاية فلندية أو أمريكية أو فرنسية، لكن الطريقة التي يشتغل بها الأوربيون بهذا الصدد، هي طريقة لا تسيء، لأن الذين يتعاملون مع الحكي، هم الرواة الممثلون الذين يجعلون من مهنتهم مادة فرجوية، للحصول على الكسب المادي اليومي عبر توقيع عقود. وهذه الظاهرة غير موجودة لدينا، بدليل أن الراوي في المغرب، هو إنسان يقدم فرجته في الساحات العمومية أو في أماكن خاصة، حيث يرتبط قوته اليومي بالفرجة التي يقدمها، بمعنى أنه لا يمتلك قانونا مسطرا يحمي هذه المهنة، ورغم أن بعض المدن قد سارعت إلى تأسيس، تجمعات لهؤلاء الرواة، إلا أن ذلك لا يكفي، لأن التجمع هو مجرد حصر المشاركين في هذا البلد. بل يجب إعادة النظر في تمفصلاتها المستقاة منها. التفاعل الثقافي، هو طريقة ترويج الحكي بين الشعوب، وهي طريقة لم ينظر إليها بجدية وبأدوات تشريحية، ومن هنا فالتفاعل هو عبر تبادل القصص، وهذا ما يفعله بعض الأوربيين عندما يلجأون إلى التراث العربي، من أجل توظيفه في حكيهم. إن التفاعل في هذا المجال، لا يمكن أن يحقق هدفه إلا عن طريق ما يسمى بالتفاعل المسرحي الذي يقوم على الحكي. الكاتب المسرحي سعد الله عبد المجيد يجب إحداث فضاءات جديدة للرواة وتنظيم مهنتهم * ماذا يشكل بالنسبة إليك، مهرجان ليالي الحكي ببني ملال؟ - هذا المهرجان، هو حلقة من حلقات الدراسة والبحث في هذا الشكل من التواصل الذي يهتم بسرد الحكاية، والخروج عن نطاق اللعبة المسرحية واللجوء إلى الشارع، حتى يتم الاتصال مع الجمهور بواسطة فن القول. * ماهو انطباعك حول محور هذه الدورة المتمثل في الحكي والتثاقف؟ - المسرح وجد، عندما وجد الإنسان، وعندما يتواصل بالمسرح، فهو يعبر عن خوالج وعن خواطر وقضايا يعيشها، هذه القضايا قد تكون محلية، ولكن الفن لا يصبح عالميا إلا إذا انطلق وتجاوز المحلية، بمعنى أنه لابد أن يكون إنسانيا، لابد له من معرفة هذا الآخر، الذي لا يتكلم نفس اللغة، والذي يعيش حضارة أخرى، إذن هذه فرصة للتلاقح بين الثقافات. * باعتبارك كاتبا مسرحيا، ما مدى حضور فن الحكي في كتاباتك؟ - ما يغلب على كتاباتي، هو أنها تقوم على الحكي، وهذا ناتج عن تأثري بالكتابة اليونانية والإغريقية. الحكاية تعد عنصرا أساسيا، تحقق ذلك التواصل بين صانع العرض والمتلقي، عبر عناصر التشويق والمفاجأة والذروة. لا أخفي سرا، أن من عناصر الثقافة الشعبية-بالإضافة إلى الأقوال المأثورة وذخيرة السرد والقصص- هناك الحكايات التي تكون عبارة عن نصوص قصيرة أو طويلة مترجمة إلى العامية. * ما مدى تأثير الوسائط الحديثة على مصير مهنة الراوي؟ - لا ننكر أن أصحاب الحلقة، يشعرون بضيق، لأن مساحاتهم وفضاءات تواصلهم، أصبحت قليلة، نتيجة لزحف العمران. من الواجب التفكير في إحداث فضاءات جديدة، وتنظيم هذه المهنة شهادات - الحكواتي السينغالي زومبا: ضحك في غاية الجدية فن الحكي جنس إبداعي يصعب الإحاطة به، مع ذلك فهو غير مكرس باعتباره مادة للتدريس، وذلك يرجع إلى عدم الثقة وعدم اعتبار قيمته التربوية والمعرفية. وأعتقد أن مهرجان الحكي ببني ملال، يعد مناسبة جيدة للقيام بما هو عملي، لفائدة هذا الفن. إن حضور رواة من بلدان مختلفة، سيسمح بالوقوف على مدى التداخل الثقافي، الذي يبرز بشكل واضح على مستوى الثقافة الشفاهية، إلى حد يدعو إلى الذهول. إن المهرجان فرصة كذلك لمن يشتغلون على الأدب المقارن. إن مهنة الراوي، لا تزال على الهامش، ولهذا ينبغي إعادة الإعتبار إليها، وإبراز قيمتها. لقد عنيت من خلال مشاركتي في هذا المهرجان، بتقديم حكايتين: واحدة للأطفال وأخرى للكبار. إنني أعتبر فن الحكي، عبارة عن فرجة، للضحك بصفة أساسية. لكنه ضحك جدي. هذه هي فلسفتي. إنه محاولة إلى جعل المتفرج يستمع إلى ما لا يقال، ولكل شعب حكاياته. وبالتالي لا بد من وضع جسر بين الثقافات، وأعتقد أن منظمة اليونسكو، مؤهلة أكثر من غيرها للاضطلاع بهذه المهمة. - الباحثة الجزائرية مونية شكوك: الثقافة الشفاهية لم تأخذ نصيبها من التدوين حاولت في العرض الذي قدمته في هذه التظاهرة الثقافية، القيام بجرد للبحوث الجامعية المنصبة على الحكاية الشعبية في الجزائر، لتبيان كيف تم هذا الاشتغال. وقد انطلقت من البدايات، أي تلك الدراسات التي قام بها المستعمرون، والتي لم تنحصر فقط في فن الحكي، بل امتدت إلى ما كل له صلة بالثقافة الشعبية، من قبيل: الغناء وشعر الملحون والخرافة والنكتة والأمثال.. وغير ذلك. وقد أوضحت كيف أن هذه البحوث، اتسعت لتشمل عدة جوانب، منها ما أخذ منحى أنتربولوجيا، ومنها ما ركز على الجانب اللغوي أو الجغرافي، وغير ذلك. وقد قمت برصد الكتب التي وثقت للنصوص الحكائية، لكن ليس فقط المستشرقون من اهتموا بالتراث الحكائي الجزائري، بل الجزائريون أنفسهم قاموا بذلك، مثل محمد بنشني الذي أنجز دراسة لسانية للحكاية الشعبية. حاليا، هناك اهتمام من طرف الأوربيين بنشر الثقافة الشعبية للتراث العربي، حيث نجدهم يدعمون المهرجانات التي تنظم في هذا الإطار، وهذا راجع إلى وعيهم بوجود أزمة تعايش سلمي. علينا الاستفادة من ذلك، لكن مع الحفاظ على خصوصيتنا. لأن في ذلك إغناء للمعرفة، وهذا يتطلب منا فتح أوراش في هذا الميدان المعرفي. عن طريق فن الحكي، نستطيع التعرف على الخلافات اللغوية بين منطقة وأخرى. مع العلم أن هذا التراث الشعبي الشفوي، يشهد تغيرات حسب الزمن والمحيط، إنه يتنقل ويتحول، لكنه يظل هونفسه. الإشكال الذي لا يزال مطروحا، هو أن الثقافة الشفاهية، لم تأخذ نصيبها من التدوين، وذلك راجع إلى صعوبة صياغتها كتابة، اعتبارا لأن هناك عبارات محلية ممنوعة في الفصحى، لم يتم بعد إقرار التدريس باللغة العامية، وهو ما يعكس أنه ليست هناك مرونة في استعمال اللغة، مع أنها تظل مجرد وسيلة. - الحكواتي الفرنسي جاك كومب: إثراء الهوية عبر التثاقف مهنة الراوي شبيهة بذلك الصانع الماهر الذي يلتقط الذهب والأشياء المهملة في التراب، ويخلق منها أشياء باهرة. أنا أقوم - إلى جانب تقديم عروض في مجال الحكي- أقوم منذ عدة سنوات، بتنشيط ورشات والإشراف على تداريب، لفائدة مختلف فئات المجتمع. المحور الرئيسي للمهرجان، المتمثل في الحكي والمثاقفة، يكتسي أهمية، لكونه يسمح بإبراز القواسم المشتركة مع ثقافات مختلف الشعوب، من خلال تعميق المعرفة بنصوص الحكي التي يتم سردها بطرق مختلفة، مع الاحتفاظ بجوهر الموضوع نفسه. لقد توصلنا في إطار البحث الذي أجريناه على الحكاية الشعبية، إلى الوقوف على ما يفوق أربعين صيغة لسرد حكاية: أبيض كالثلج. وذلك في العالم بأسره. فهذا التداخل الثقافي، لا يمكن إلا أن يساهم في إثراء هوية كل بلد على حدة. في العرض الذي قدمته بهذا المهرجان، أجمع فيه بين التشخيص والغناء والحكي بالدرجة الأولى، معتمدا على عنصر الإضاءة، حيث أنقل مأساة الحرب، وعبرها أكشف أثرها على الإنسان وعلى علاقته بالآخر، إلى جانب الكشف عن الطاقة الهائلة على مواجهة هذه المأساة وتضميد جراحنا والضحك وقول السخافات.++ - الحكواتي الفرنسي سام كاناروزي: إننا نتمتع بالضمان الاجتماعي أحترف فن الحكي منذ ثمان وعشرين سنة. أنا ولدت في أمريكا، غير أنني أقمت في فرنسا مع مطلع السبعينات. مهنة الحكي، تسمح لي بالتجول كثير داخل فرنسا وخارجها، حيث زرت إثني عشرة بلدا، من قارات مختلفة. قدمت عروضا كثيرة في أفريقيا السمراء، بصفة خاصة. على امتداد السنة، أقدم عروضا فرجوية، للكبار والصغار على حد سواء، بفضاءات مختلفة: المراكز الثقافية، المهرجانات، سواء تلك التي تقام بالمدن أو القرى، ولحدة الساعة قدمت ما لا يقل عن ثمانين عرضا. أنا أنظر إلى محور "الحكي والتثاقف"، من زاويتي الخاصة، وهي أن أبي من جنسية أمريكية، وأمي يوغسلافية، وزوجتي دانماركية، هذا في حد ذاته نوع من التداخل الثقافي، هناك تقارب بين الرموز التي نسخدمها في حكينا. أنا حركي في ممارستي للحكاية، ولي دراية بمخاطبة الصم، وأوظف بعض الأدوات البسيطة جدا، لتحقيق أشياء مبهرة، فمثلا أستخدم حلقة من الخيوط لأصنع بواسطتها الشباك وبعض الحيوانات مثل الثعبان، إلى غير ذلك. فن الحكي في فرنسا، بدأ يعرف اهتماما خاصا به، منذ خمس عشرة سنة تقريبا، هناك ما لا يقل عن مائتي محترف، ينشطون بشكل منتظم على امتداد السنة، أما شبه المحترفين، فهم لا حصر لهم ولا عد. إننا نتمتع بالضمان الاجتماعي، ومعاش التقاعد والتغطية الصحية، كما أن عملنا منظم ومقنن، حيث أننا نوقع عقودا، لحماية حقوقنا من الضياع.