محمد قاوتي: «صناعة» الساكنة المواطنة عبر الثقافة والتربية أبرز المشاركون في الملتقى الوطني حول سياسة المدينة، أول أمس الأربعاء بالرباط، أهمية اعتماد التشارك والتعاقد باعتباره آلية ضرورية للتمكن من تحديد المسؤوليات وتفعيل إنجاز البرامج وضمان الالتقائية الناجعة بين مختلف المتدخلين، داعين، في هذا الصدد، إلى وضع إطار بين وزاري يعنى بالمدينة تحت الإشراف المباشر لرئيس الحكومة. ذلك لأن أي سياسة للمدينة لا تستقيم إذا كانت تقتصر في مقاربتها على مجالات التعمير والتشريع وتدبير الوعاء العقاري فحسب، بل ينبغي بالضرورة أن تتسع لتشمل فضاءات العيش، ومجالات الثقافة والتربية والفنون والبيئة والرياضة والترفيه... باعتبار أن الفضاءات الثقافية والفنية والمساحات الخضراء والمرافق الرياضية... جزء لا يتجزأ من فضاء العيش داخل المدينة. هذا فضلا عن ضرورة البحث في صيغ ملائمة لتأثيث المجال العمراني في نطاق نسق معماري يعكس جماليات المعمار المغربي ولا سيما في المدن العتيقة والتاريخية.. ولعل ذلك ما يتطلب بالفعل وضع إطار مؤسساتي بين وزاري لتنسيق العمل بين سائر المتدخلين في سياسة المدينة. في ذات السياق، وفي نطاق الورشات الموضوعاتية المنعقدة ضمن أشغال الملتقى الوطني حول سياسة المدينة، تدخل الكاتب المسرحي والفاعل الثقافي محمد قاوتي ليبرز مدى أهمية الجانب الثقافي والتربوي في كل مخطط تنموي يستهدف فضاء المدينة ومجالاتها. هذا واعتبر محمد قاوتي أن المغرب، قبل فترة الخمسينات، كان بمثابة «إحدى عربات الجرار الفرنسي الذي دفع بنا إلى حداثة ثقافية»، وعاؤها التربية الشعبية وصبيبها السياسة الثقافية التي سنتها فرنسا الحديثة، أي فرنسا القرن العشرين، مع الحركة السياسية التي واكبت النقلة النوعية التي أحدثها اضطلاع اليسار الفرنسي بالحكم إبان «الجبهة الشعبية Front Populaire « التي متحت من أفكار تقدمية عبر عنها بسخاء جان جوريس ورفاقه، يقول محمد قاوتي، الذي أضاف في ذات السياق، أن هذه الأفكار التقدمية هي التي جعلت من المجتمع الفرنسي ءانذاك مجتمعا ينتقل من «تقديس» إلى آخر مع فرنسا اللائكية.. غير أن ملابسات ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، يقول قاوتي، لم تسمح بطرح هذا المشروع التحديثي المرتبط بالتربية والثقافة إلا بعد خروج فرنسا من الحرب العالمية الثانية، ودخولها في إعادة بناء مجتمعها من جديد، بسن سياسات جديدة تعنى بالمدينة / الوطن، سواء في مجال التعمير أو مجال «صناعة» الساكنة المواطنة عبر الثقافة والتربية. وذلك بواسطة مخطط أشرف عليه على الخصوص الكاتب الكبير أندري مالرو. وهو مخطط ينبني أساسا على فكرة تعميم الثقافة ويلح على لا مركزيتها، عبر انتشار دور الثقافة في كل أنحاء فرنسا، وانتشار ما يسميه الفرنسيون ب «المسارح الوطنية الشعبية Théâtres Nationaux populaires»، مع ما يعني ذلك من سياسة إتاحة دمقرطة الثقافة ودعمها ودعم القيمين عليها. بالمقابل، نجد أنفسنا بالمغرب، يقول قاوتي، متأثرين، بناء على التبعية التي كانت تربطنا بفرنسا، بهذا المشروع التثقيفي التربوي الحداثي. وكانت السلطة الحكومية المكلفة بالشبيبة والرياضة هي الجهة الموكول إليها بلورة هذا المشروع عبر إحداث وتعميم دور الشباب، وإحداث مراكز التخييم للأطفال والناشئة، وبرامج في التكوين والتأطير خاصة بالمسرح، وجعل المسرح، ءانذاك ولمدة طويلة، رافعة أساسية من روافع التوعية والتثقيف والتربية، وأداة من أدوات دمقرطة الثقافة والمعرفة. غير أن ظروف المغرب، يضيف المتدخل، وبعد فك الارتباط بفرنسا، جعلت أن «وضعت يد ميت على هذا المخطط»، فتم الإجهاز على لب وجوهر المشروع. ومن بين الإجراءات التي اتخذت في هذا الشأن، الإجهاز على فرقة المعمورة سليلة «فرقة التمثيل المغربي» التي أنشأتها فرنسا. وختم محمد قاوتي مداخلته بالتحسر على كون المغرب وفر على نفسه عبء التفكير في ساسة المدن من منظور يشمل الثقافة والفنون، لأن ذوي القرار كانوا، إلى وقت قريب، يعتبرون أن الثقافة والفن ترف ليس إلا؟ والحال أنه لا يمكن لأي سياسة للمدينة أن تقف وتبنى على رجل واحدة، إذ يلزمها رجلان بالتأكيد: ما هو مادي وما هو روحي، والروحي، يقول الكاتب المسرحي محمد قاوتي، لا تضطلع به سوى الثقافة، ولا تبلوره سوى الفنون. ومن ثمة تأتي أهمية التفكير في سياسة مندمجة تجعل المدينة للإنسان والإنسان للمدينة على منوال سياسة «صناعة» الساكنة المواطنة عبر الثقافة والتربية، يقول محمد قاوتي. هذا وتواصلت أشغال الورشات التي عرفت سيلا من التدخلات لعدد من المهتمين، ومنهم مسؤولون حكوميون ومنتخبون ومهنيون وخبراء وباحثون وفاعلون من مختلف الآفاق، الذين أجمعوا على ضرورة مواكبة سياسة المدينة بتأطير قانوني ومؤسساتي متطور يمكنها من الآليات الكفيلة بتوفير فضاء عيش كريم للمواطن في إطار تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية مستدامة. داعين إلى تعزيز استدامة المدن عبر إحداث فضاءات عيش لائقة تأخذ بعين الاعتبار محدودية الموارد وضرورة الحفاظ على محيط العيش وتطوير بيئة حضرية سليمة والعمل على وضع الشروط الملائمة للنهوض بالمدينة الإيكولوجية. كما دعوا إلى وضع مخطط وطني للمدن يهدف إلى تنمية المدن الكبرى وتعزيز المدن المتوسطة والصغرى وإنعاش المراكز الصاعدة وتأطير إحداث الأقطاب الحضرية الجديدة، مشيرين إلى أن الرصد والتقييم والتتبع أساسي لاستدامة سياسة المدينة وتطويرها المستمر وملاءمتها للحاجيات المستجدة. وأشار المشاركون إلى ضرورة تأهيل ورد الاعتبار للأنسجة العتيقة وإعادة إحياء القطاعات الحضرية التي تفتقد إلى التنافسية، داعين إلى وضع إطار مؤسساتي وقانوني وتمويلي ينظم التدخل في الأنسجة العتيقة والدور الآيلة للسقوط والتجديد الحضري. ولم يفت المشاركين في هذا الملتقى أن يبرزوا أهمية الإشراك الفعلي والبناء للمجتمع المدني باعتباره خيارا لا مناص منه لوضع مقاربات للاستجابة للانتظارات الملحة للساكنة ولترسيخ قيم الهوية المحلية. وكان رئيس الحكومة، عبد الإله بن كيران أكد، في كلمة افتتاحية للملتقى، أن تصحيح الاختلالات التي تعرفها المدن يقتضي العمل بطريقة تشاركية ومندمجة لإعادة الاعتبار للمدن والرفع من إشعاعها وتنافسيتها وطنيا وإقليميا ودوليا. وبدوره، أكد وزير السكنى والتعمير وسياسة المدينة، نبيل بنعبد الله، أن تجاوز هذه الاختلالات لا يمكن أن يتم إلا عبر التقائية وانسجام مختلف المتدخلين، من قطاعات حكومية ومؤسسات عمومية وجماعات محلية، في إطار سياسة للمدينة محددة الأهداف ووسائل التمويل والتنفيذ. يشار إلى أن الملتقى عرض في إطار ثلاث جلسات عمل، مضامين الرؤية الاستراتيجية لسياسة المدينة، وقضايا الحكامة المرتبطة بها، ووسائل الأجرأة والإجراءات التنظيمية الكفيلة بتقديم حلول للإكراهات والتحديات المطروحة. ويأتي هذا الملتقى تتويجا لمسلسل متعدد الأبعاد والشراكات من المشاورات الوطنية والجهوية حول سياسة المدينة، بغية إنتاج جماعي لمرجعية سياسة المدينة تتمحور حول التنمية البشرية وتخطط وتواكب نمو مدن مستدامة مندمجة ومدمجة ومواطنة وتشاركية ومتضامنة وعادلة ذات استقطابية وتنافسية.