كلما حل اليوم الوطني للموسيقى تتناسل الأسئلة وتتجدد عما تحقق في قطاع الموسيقى بالمملكة منذ انعقاد المناظرة الوطنية الأولى حول التعليم الموسيقي في ماي 1994 أو على الأقل خلال السنة المنصرمة٬ من مكتسبات لفائدة العاملين في فنون الموسيقى٬ وعن وضعية هذا القطاع ككل. اليوم الوطني للموسيقى٬ الذي يخلده الموسيقيون المغاربة في السابع من مايو من كل سنة٬ في ذكرى الرسالة التي وجهها الملك الراحل الحسن الثاني إلى المشاركين في هذه المناظرة (5 - 7 ماي 1994 بالرباط)٬ مناسبة لرصد واقع وأحوال الموسيقى المغربية بمختلف تلاوينها٬ وآفاق تطورها ومسارها٬ والتفكير في وسائل الحفاظ على الموروث الموسيقي المغربي وإعادة تأهيله٬ وصيانة الهوية الموسيقية الوطنية وحمايتها. وأكدت رسالة الملك على «مواصلة الجهود لبلوغ النتائج التي من شأنها تحسين أساليب التلقين٬ ورفع مستوى التعليم٬ والسهر على جودة التكوين الموسيقي العام في مجالات التلحين والعزف والأداء والتأليف وغيره»٬ كما أنها تضمنت أمورا أساسية بالنسبة للرفع من التذوق الفني لدى المتلقي٬ وتأطير العمل الفني وفتح مجالات جديدة لتحريك الفنون ونشر تعليمها للناشئة والسهر على الجودة وتميزها. ويجمع العديد من الفنانين الموسيقيين والمتتبعين والمشتغلين بالمهن الموسيقية عامة على أن قطاع الموسيقى والغناء بالمغرب شهد٬ في السنوات الأخيرة٬ نوعا من التراجع والتدهور يعزونه إلى الإعلام والجهات الوصية على القطاع٬ مؤكدين أن الإبداع الموسيقي أصبح متسما بالرداءة والابتذال. ويقول الباحث سعيد المغربي (أستاذ الأنتروبولوجيا الثقافية) إن الموسيقى من حيث هي تركيب وتأمل وإيحاء إبداعي ذات دلالات ومعاني تعبيرية٬ غير موجودة في المغرب (على صعيد المضمون والمؤلفين)٬ معتبرا أن الذي يطغى هو نوع من «المجانية والارتجالية» في الصناعة الموسيقية في المغرب التي يغلب عليها الطابع «الفرجوي البئيس» بدعاوي فيها كثير من التصنع واللامبالاة. ويدعو للعمل من أجل إطلاق نهضة موسيقية حقيقية٬ بخلق مقوماتها وشروطها٬ في غير ركون إلى الاستلاب٬ أو انسياق كلي مع الموجات الوافدة٬ وعدم انسلاخ عن الهوية الوطنية الفنية والمحافظة على الذوق الفني الذي يميز المغرب. ويرى يونس الشامي٬ الباحث والمدون للتراث الموسيقي المغربي٬ أن اليوم الوطني ينبغي أن يستحث الهمم والجهود للعمل على إزالة العوائق التي تعرقل نمو الموسيقى ببلادنا٬ وبحث السبل الكفيلة بالنهوض بمستواها وضمان ازدهارها. ولهذه الغاية٬ طرح الشامي جملة من المقترحات من شأنها أن تساعد الجهات الوصية والمنظمة على تحقيق الغاية من الاحتفال باليوم الوطني ومن ضمنها إشراك المجموعات الصوتية للأطفال من مختلف الأعمار في الاحتفالات التي تنظم بالمناسبة٬ وتنظيم مباريات محلية في التلحين والعزف والغناء ورصد مكافآت معنوية أو مادية للفائزين٬ وتنظيم حفلات للتوقيع على الإصدارات المتعلقة بالموسيقى والتي يتم نشرها خلال السنة السابقة لحلول اليوم الوطني للموسيقى. وأكد على أهمية دعم جهود البحث والتوثيق في مجال التراث الموسيقي المغرب٬ ودعوة وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية البصرية لتغطية الأنشطة الفنية والثقافية التي تقام بالمناسبة. وشدد الفنان محمد الغاوي على أنه لابد من وقفة تأمل من طرف الجميع في أسباب هذا التراجع والتردي الذي يعرفه قطاع الموسيقى عامة والأغنية المغربية على وجه الخصوص٬ والتي كانت رائدة وحاضرة في جميع المناسبات والاستحقاقات٬ مسجلا تخلف وسائل الإعلام الوطنية٬ وخاصة المرئية منها والمسموعة٬ عن دورها في الحفاظ على الإرث الموسيقي٬ وإنتاج الموسيقى والأغنية الهادفة والرصينة. ودعا الغاوي إلى تنظيم مناظرة وطنية ثانية حول القطاع الموسيقي ككل في شقة الإبداعي والتعليمي٬ على غرار مناظرة 1994٬ وذلك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه٬ وتجاوز «الوضع الكارثي» الذي يتسم به المجال٬ معتبرا أن حضور الموسيقى الراقية ينبغي أن يكون على طول السنة٬ وأن تقام مهرجانات لذلك تعطى فيها الأولوية لإبراز الكفاءات والطاقات المغربية الواعدة٬ دون تنكر للرواد والمؤسسين. وبمرارة الفنان المتقد شعلة للعطاء الرصين٬ دعا الملحن المغربي عز الدين منتصر٬ رئيس الجوق الوطني التابع للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة٬ إلى ترسيخ الهوية الفنية الوطنية لدى الناشئة٬ مضمونا وأداء وممارسة٬ من أجل تأصيل الأنماط الموسيقية المغربية. وأعرب عن الأسف لكون الجمهور الناشئ انسلخ عن هويته في ذوقه الفني٬ على اعتبار أن الذوق الرفيع هو الذي يحكم علاقة المبدع بالمتلقي٬ كما أن طابع الرداءة أصبح مهيمنا على الإبداع الموسيقي بالبلاد٬ على الرغم من وجود مبدعين وفنانين وتوفر جميع الآليات البشرية والتقنية من معدات وتسجيل متطور وعازفين وملحنين وكتاب كلمات وموزعين. من جهة أخرى٬ يرى المتتبعون أن التوصيات التي انبثقت عن المناظرة الوطنية والعديد من الأيام الدراسية لم يتم تفعيلها٬ حيث لم يتم فتح ملف التعليم الموسيقي الذي يؤكدون أنه لا يزال يعاني من مشاكل سواء على المستويات التنظيمية أو التسييرية أو التربوية أو على مستوى البرامج والمناهج والتجهيز ومعالجة الوضعية الإدارية والمادية لرجال ونساء التعليم الموسيقي. في السياق ذاته٬ وبعد أن أكد سعيد المغربي أنه لا فاعلية بدون عنصر بشري متمتع بحقوقه الدنيا٬ أشار إلى أن التدريس الموسيقي في المغرب «غير مؤسس وغير منظم» إلا في بعض الاستثناءات٬ وتطغى عليه الارتجالية والمجانية مع عدم الاعتراف الرسمي به كمؤسسة ثقافية حضارية عليها مسؤولية «الفعل المواطن» كما هو الشأن بالنسبة لمؤسسات الدولة في هذا المجال. واعتبر الشامي٬ في نفس التوجه٬ أنه يتوجب تعميم تدريس مادة التربية الموسيقية في جميع أسلاك التعليم على غرار باقي المواد الدراسية٬ باعتبار ذلك السبيل الصحيح لتحقيق النهضة الموسيقية المرجوة ببلادنا٬ إذ أن من شأن ذلك إكساب الأجيال الصاعدة ثقافة موسيقية وحسا فنيا يجعلانها تميل تلقائيا إلى الموسيقى الجيدة. كيف يعقل أن يتقاضى الأستاذ في المعاهد الموسيقية المغربية 1200 درهم في الشهر إن لم يكن أقل من ذلك - يقول الأستاذ المغربي بحنق شديد - ويطلب منه توفير شروط الفاعلية سواء في التكوين أو في غير ذلك في المجال الموسيقي. وحول آفاق تطور الموسيقى المغربية ومستقبلها وما مدى تأثير التراث المغربي٬ أكد الباحث سعيد المغربي أن المغرب في حاجة إلى مبدعين قادرين على تلبية انتظارات المغاربة الخلاقة الرائقة٬ داعيا إلى تجاوز معوق اللغة الإبداعية التبسيطي والعمل في مجالات أرحب وأوسع دون السقوط في العشوائية أو محاولة التوطين الموسيقي التعسفي٬ الذي يسيء إلى المادة الإبداعية ولا يخدم لا الألحان ولا التراث ... ودعا إلى العمل على إعادة صياغة الموسيقى المغربية وتحديثها مع تحيين لإيقاعاتها ومقاماتها أو بالأحرى طبوعها مع تصحيح ما ورد في كتب الأولين من مغالطات مقامية٬ ووضع برامج جيدة للتلقين الموسيقي وفقا لذلك٬ وهو ما سيمكن٬ في نظره٬ في أخذ موقع مدرك للرصيد النظري الموسيقي المغربي الذي يتجاوز بكثير ما توفره البلدان العربية الأخرى من مصادر ومراجع.