الهوية المتعددة للثقافة المغربية انعقد بمدينة مديونة التي تبعد عن الدارالبيضاء بحوالي 20 كلمترا جنوبا، لقاء ثقافيٌّ شكل محطة أخرى للمثقفين الجامعيين من تخصصات مختلفة ومساهمة منهم في نشر ثقافة مرتبطة بالواقع وسط مختلف الفئات الاجتماعية. وإلى جانب جمعيات من المجتمع المدني لأجل تسليط الضوء على جانب أساسي من ثقافتنا المغربية المنسية، وجعلها حلقة فاعلة ضمن نسقنا المعرفي. انعقد هذا اللقاء الموسوم بالمهرجان الأول للتراث الشعبي الشفهي: ظاهرة الحداويات نموذجا، والذي ترأسه د/عبد الواحد خيري بإشراف وتنظيم جمعية وفاق للتنمية الاجتماعية والثقافية وحماية البيئة بتيط مليل بتنسيق مع جمعية رابطة الطفل القروي بإقليم مديونة وبدعم من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك جامعة الحسن الثاني المحمدية ومندوبية التعاون الوطني بمديونة ، وذلك يوم 29 يونيو 2010 بفضاء دار الطالبة بجماعة المجاطية أولاد طالب. وهكذا افتتح د/ شعيب حليفي باب المداخلات بورقة تحدث فيها عن التنوع الثقافي والعولمة متوقفا عند أشكال الثقافات التي يزخر بها المغرب في كافة مناطقه وجهاته؛ قبل أن يعود للحديث عن منطقة الشاوية ..رابطا بين تفاعلات شتى، تاريخية وحضارية وجغرافية وثقافية في صهر رؤى تُسعف في إضاءة الحياة اليومية وإكسابها معنى متجددا باستمرار. وتوقف شعيب حليفي عند عدد من النصوص الزجلية التي أبدعتها الثقافة الشعبية المحلية منذ نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن الماضي، مفككا مقدرات الكلمة في صوغ وجدان شعبي وتحقيق إدراك يتمتع بحساسية مفتوحة على الحياة العميقة . وفي ختام ورقته تساءل عن دور الوزارة الوصية في صون التراث الثقافي الشعبي المحلي؟ ملاحظا غياب أية رؤية أو استراتيجية تدعم ثقافتنا وسط إهمال مقصود وتحقيري لثقافات المدن السفلى وبالتالي الإبداع الشعبي المعبر عن شفافية الروح المغربية. ورقة د/محمد الفلاح العلوي انكبت على دراسة نماذج كثيرة وتمثيلية من التراث الغنائي للحداويات، مفصلا الحديث حول الأبعاد التاريخية والاجتماعية والثقافية للنصوص الزجلية، ومتوقفا عند الدلالات التي تفرزها من خلال المعاني المترابطة مع أحداث معينة في التاريخ المغربي أو شخصيات تركت بصماتها في مجال من المجالات. وكان د/ الفلاح في كل مرة يقدم أمثلة من الزجل الغنائي الذي يمثل للمحاور المتطرق إليها، كما ربط هذا الفن بالوعي الثقافي والاجتماعي الذي تشكل في المغرب منذ القرن التاسع عشر. المداخلة الثالثة قدمها د/عبد اللطيف محفوظ وكانت تحت عنوان «الشعر الشعبي وخصوصيات تجربة الحداويات»، وقد استهل كلمته بتحديد المفاهيم الأساسية للثقافة حتى يحدد الإطار الخاص الذي يناسب موضوع مداخلته، وهكذا تحدث عن الثقافة بوصفها إنتاجا رمزيا للقيم والأفكار، وربطها بالمفكرين والمبدعين، والثقافة بوصفها سننا اجتماعية عرفية تنظم مختلف أنماط المعاملات وتعطيها معناها، وربطها بالأعراف والقيم والسيناريوهات العملية التي توحد فعل وتصور الأفراد المنتمين لنفس المجموعة الاجتماعية، وأخيرا الثقافة بوصفها أنشطة روحية وذهنية ورمزية والتي لا ينتجها المفكرون والمبدعون الذين يرجعون إلى نسق منظم، بل العامة الموهوبة والتي تبلور انطلاقا من أشكال متداولة أو مستحدثة تصورات المتشارك الثقافي في لحظة ما من تطور الوعي لدى الجماعة، وقد ربط هذا النمط بمختلف المظاهر الإبداعية، غير الفلكلورية، التي ينتجها من يستحقون لقب فنان شعبي أو مبدع شعبي. وقد حاول بعد ذلك ربط العلاقات بين الأشكال الثلاثة. ثم انتقل إلى تحليل المتن الشعري الشعبي للحداويات الذي ربطه بالمستوى الثالث، ملاحظا أنه لا يختلف كثيرا من حيث البناء والمضمون عن الشعر الشعبي المغربي عامة، ذلك أنه يقبل التمفصل إلى تيمات الموت والزهد والأعراس والعشق، وأنهى مداخلته بتحليل قصيدة «عندي وردة في الجنان» وضح من خلالها خصوصيات البلاغة التي تحكم هذا المتن الغني. وفي الختام تناول د/ عبد الواحد خيري في مداخلته الأبعاد المعجمية واللسانية في شعر الحداويات المغنى. مبينا مدى ارتباطه بالفطرة اللغوية من خلال الانتقاء المعجمي والتلاؤم الدلالي والصور النمطية التي تداخل فيها البعد الديني بما فيه من أعراف اجتماعية وتقاليد بالغزل وبالمديح وبالرثاء، معبرة جميعها عن مضامين اجتماعية تُدون لأنماط الحياة التي كانت سائدة في بداية القرن 19 بمنطقة مديونة الكبرى. وكما بين الباحث كذلك، من خلال المقابلات المعجمية، كيفية تمام البناء الشعري في ظاهرة الحداويات، الشيء الذي أكسبه روعة وجمالا قل نظيره. في نهاية هذا اللقاء انتقد المتدخلون والحضور التعامل الإقصائي لوزارة الثقافة المغربية مع هذا الفن، مقابل تشجيع بعض الأشكال التعبيرية المبتذلة التي تخدم مصالح فئات تحيا في البذخ وتُبخسُ كل ما لا يستقيم مع رؤاها. وأوصوا بضرورة الاهتمام بهذا الفن وأهله ماديا ومعنويا حفاظا على جزء من تراثنا المهدد بالاندثار.