«تكريم بصيغة منتهى الجموع» لصرحين جمعهما النضال والإخلاص والدفاع عن المبادئ ثلة من رجال السياسة والفكر والثقافة والإبداع من مختلف المشارب، ورفاق الدرب والتلاميذ، لبوا دعوة حزب التقدم والاشتراكية لحفل تكريم وجهين بارزين ومناضلين فذين، افتقدتهما الساحة الوطنية في الأشهر الماضية، جمع بينهما تاريخ نضالي حافل، وشغفهما بالثقافة والإبداع. نذرا حياتهما للدفاع عن مبادئ قلما تجد لهما مثيلا في هذا الزمن. محمد فرحات «أبو منية»، الصحفي والأديب، وشمعون ليفي، المثقف العضوي التعددي، اللذان غادرانا إلى دار البقاء على التوالي في 11 نونبر و2 دجنبر 2011، في وقت ما أحوج البلاد إلى نضالهما وتضحياتهما النبيلة التي نذرا حياتهما للدفاع عنها على مدى سنوات عمرهما. ليس من قبيل الصدفة أن تحتضن المكتبة الوطنية حفل تكريهما، فكلاهما كان شغوفا بالثقافة والفكر والإبداع في أسمى تجلياتها، وكلاهما نهل من منابعها المتعددة والمختلفة، تعدد التربة المغربية المتميزة بجذورها المتنوعة وروافدها المتعددة، فكانا مثالين صادقين للتفاني والإخلاص للقيم الإنسانية النبيلة، ومبادئ التسامح، وخصال الدفاع المستميت عن الأفكار والقناعات الراسخة. أجواء مهيبة خيمت على اللقاء الذي حضرت فيه بقوة روح فقيدي الوطن والحزب، سي محمد فرحات وأستاذ الأجيال، شمعون ليفي، الغائبين بقوة القدر، والحاضرين دوما بتاريخهما الطويل، الذي لا تكفي الكلمات التي ألقيت بالمناسبة وكل العبارات الرقيقة والجميلة أن توفيهما حقهما. بل كان اللقاء مناسبة « لتجديد العهد على المضي، قدما، في المسير الذي نذرا له حياتهما، مسير الدفاع، باستماتة وتفان وإخلاص، عن قضايا الوطن ومصالح الشعب، عن وحدة البلاد الترابية، وسيادتها الوطنية، وهويتها المتعددة الجذور والروافد والمكونات، مسير مناهضة كل أنواع الحيف والظلم والعنصرية، ومساندة كفاح كافة الشعوب من أجل الحرية والتقدم والديمقراطية»، بحسب ما قاله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، محمد نبيل بنعبد الله. شهادات كثيرة قيلت في حق الراحلين، اللذان فقد فيهما الحزب مناضلين من طينة رفيعة، لا يكل لهما طرف في إبداء آرائهما، مع الاحتفاظ على مساحة الود والاحترام لمن يخالفهما الرأي والقناعة. سيظل اسم «أبو منية» منقوشا إلى الأبد في ذاكرة الذين عاصروا وعايشوا سي محمد فرحات، من الذين اشتغلوا معه في مختلف محطاته العملية، أو الذين كانوا يتشوقون إلى قراءة ما تطرزه أنامله من مقالات في جريدة الحزب. حيث جمع بين الصحافة والأدب، وكان بحق مدرسة في الصحافة، وأديبا لامعا متنوع الروافد، وأيضا «معلما في العلاقات الإنسانية يتميز بصدق وعمق وغنى وقوة حبه لذويه ومحبته للرفاق والأصدقاء، وروح غنية أنيقة، ينطبق عليه وصف سان جون بيرس: ‹›لا أناقة ولا غنى إلا أناقة وغنى الروح››، كما جاء في شهادة أحد تلامذته ورفاقه الأوفياء، مصطفى اليزناسني. لا تقتصر خصال الرجل في هذا المجال فقط، بل كان أيضا مكتشفا ومشجعا للطاقات الشابة من المبدعين والشعراء والأدباء من الشباب الموهوبين، الذين لازالوا يحملون له العرفان على ما أسداه لهم من نصح جليل، وفتح لهم آفاق الكتابة على صفحات جريدة «البيان» الناطقة بلسان الحزب ليطلقوا موهبتهم، فأصبحوا من المبدعين المرموقين. وكشف الباحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، محمد مخلص، عن العرفان بمثالب وخصال الراحل، وتشجيعه للشباب، وكان سباقا إلى «مصالحة المغاربة مع تاريخهم وهوية المتعددة» فكان بحق رائد الدفاع عن الأمازيغية، حين فتح له ولزملائه أبواب الجريدة، التي كان يشرف عليها، لإطلاق موهبتهم وأفكارهم النضالية.، فكان له السبق في صنع أول صفحة تعنى بالإبداع الأمازيغي تمكن عبرها من رعاية عشرات المبدعين والباحثين، وتوسيع رقعة الانشغال بالثقافة الأمازيغية. يسجل التاريخ أن سي محمد فرحات مناضل فذ قوي الشكيمة حمل هموم وطنه وشعبه، ودافع عنها باستماتة بالغة، في كل المحطات التي مر منها، من الجزائر العاصمة، التي طرد إليها قسرا، إلى تيرانا التي كان صوته يفعم قلوب المغاربة التواقين إلى الاستقلال، مرورا ببودابست، ومن غياهب السجون، إلى فضاء الحرية والإبداع. لقد كان محمد فرحات ضمن «أول دفعة من مناضلي الحزب الشيوعي المغربي»، كما وصفه عبد القادر الجمالي، ولم يكتف ذات يوم أن يكون منظرا أو مكلفا بتنظيمات الحزب، يستطرد في شهادته، وإنما كان رجل ميدان بامتياز «يقوم بالتواصل لفائدة الحزب الشيوعي المغربي، وكتب في كل جرائد الحزب، إبان عهد الحماية، وكم كان صعبا العمل النضالي آنذاك». برحيل شمعون ليفي فقد المغرب علما من أعلام الثقافة، وهرما سياسيا كبيرا، مناضلا قويا، ونصيرا للحرية والديمقراطية، وهو الذي وصفه مولاي إسماعيل العلوي، رئيس مجلس الرئاسة لحزب التقدم الاشتراكية، بأنه «مناضل ذو مكانة متميزة في الحقل السياسي المغربي، كأستاذ وكمسؤول حزبي وكمدافع عن الوحدة الوطنية ومعاداته للصهيونية. \ ومثل ما تحمل الأول وزر الكفاح والنضال، كان شمعون ليفي رمز التضحية ونكران الذات في الساحة السياسية، وجمع بين تربية الأجيال في السياسة والتربية والتعليم، وأنتج بغزارة قل نظيرها في مجال الممارسة السياسية، وفي الكتابة الأدبية. يقول عنه تلميذه، عبد الواحد سهيل، عضو المكتب السياسي للحزب، بأنه «يتميز بذكاء خارق، وملكة في التحليل العميق لمجريات الأحداث قل نظيرها، وشجاعة نادرة في التعبير عن المواقف». فضلا على أنه «مناضل عنيد وبيداغوجي رفيع المستوى، ونقابي صلب». عبر تاريخه النضالي الطويل أسهم شمعون ليفي في إثراء وثائق الحزب، فكان بحق نموذجا للمزج الخلاق بين النظرية والممارسة السياسية، في شتى الواجهات النضالية. لم ينل منه لا الترهيب ولا الترغيب، ولم يثنه لا التعسف ولا التعذيب، كما وصفه نبيل بنعبد الله. ولم يؤثر عليه القمع والجحود وعدم الاعتراف بمكانته العلمية، على حسب ما يحتفظ له تلميذه عبد الواحد سهيل. وكما حمل فرحات لواء الدفاع عن الامازيغية، كان شمعون ليفي مدافعا صلبا عن الهوية الثقافية المغربية اليهودية، من خلال إنشاء مؤسسة التراث اليهودي والمتحف اليهودي المغربي، المؤسسة الوحيدة في العالم العربي. لم يعرف عن شمعون ليفي إلا الصلابة في المواقف، على حد تعبير ، عبد المجيد الذويب، عضو مجلس الرئاسة، وأحد رفاق دربه، شجاعا في اتخاذ القرارات، سياسي حقيقي ووطني صادق. إلى جانب كل هذه المزايا والخصال فإن للرجل كبير الأثر في إغناء المجال الثقافي والأكاديمي، فأضاف إلى رصيده النضال في سبيل الحقوق الثقافية، مقترنا بعمق بالتراث اليهودي المغربي، كما جاء في شهادة محافظة المتحف اليهودي، زهرة رحيل، التي عاشرته على مدى عقد ونصف من الزمن بهذه المؤسسة ذات الإشعاع الدولي. فكان همزة وصل بين المسلمين واليهود، وكان لا يجد غضاضة في الجهر بأنه «يهودي مغربي معادي للصهيونية»، مثلما كان يجهر دائما بان مستقبل اليهودية بالمغرب مسؤولية ملقاة على جميع المغاربة مسلمين كانوا أم يهودا. لقد كان القاسم المشترك بين الاثنين التاريخ النضالي الطويل والدفاع عن هموم الشعب والوطن، والتضحية من أجل نصرة القضايا العادلة، وغزارة إنتاجهما الفكري والسياسي. لكن أيضا جانبهما الإبداعي، فمحمد فرحات كان أديبا لامعا مرهف الحس، وكان شمعون فنانا تقطر أنامله ألحانا جميلة، فلا غرابة أن عاشق التراث يستهويه الطرب الأصيل، من الموسيقى الأندلسية والطرب الغرناطي، إلى درجة أنه «احتج لدى المشرفين على الإذاعة لحذف الحصة المخصصة للموسيقى الأندلسية التي كانت تبث بين الواحدة والثانية ظهرا». العين تبكي والقلب يدمع لفقدان صرحين كبيرين، ولكن الأقدار شاءت أن تختطفهما يد المنون، في وقت ما أحوج البلاد إلى مثل عطاءاتهما، ولكنهما سيظلان حاضران في وجدان الحزب، وفي ذاكرة الوطن. وتكريمهما لن يكون مناسبة للقيام بواجب أني اتجاههما، كما قال نبيل بنعبد الله، فلابد أن يكون لها ما بعدها، والتفكير في الصيغ الملائمة لاستجماع تراثهما والتعريف به، وتعميم الاستفادة منه.