الصحافيون الشرفيون المتقاعدون يسلطون الضوء على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية    المندوبية السامية للتخطيط تتحدث عن الأسعار خلال سنة 2024    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    الكاف يؤكد قدرة المغرب على تنظيم أفضل نسخة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    إحباط محاولة تهريب 9 أطنان و800 كلغ من مخدر الشيرا وتوقيف ستة مشتبه فيهم    مراكش: توقيف 6 سيدات وشخص لتورطهم في قضية تتعلق بالفساد وإعداد وكر لممارستة    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    وهبي: مشروع قانون المسطرة الجنائية ورش إصلاحي متكامل له طابع استعجالي    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    تنفيذا للتعليمات الملكية.. تعبئة شاملة لمواجهة موجة البرد في مناطق المملكة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمملكة المغربية    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    أمريكي من أصل مغربي ينفذ هجوم طعن بإسرائيل وحماس تشيد بالعملية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نبيل بنعبد الله: الفقيدان ساهما في نشر قيم إنسانية نبيلة على مختلف المستويات وشتى الأبعاد
نشر في بيان اليوم يوم 21 - 03 - 2012

الحسين بوزينب: كان شمعون لا يترك اجتماعا نقابيا داخل الكلية أو خارجها إلا وحضره
مصطفى اليزناسني: محمد فرحات أو أناقة الروح
* نبيل بنعبد الله: الرفيقات والرفاق الأعزاء،
حضرات السيدات والسادة،
أيها الأصدقاء الكرام،
ننظم اليوم هذه الندوة الفكرية والثقافية، بمشاركة ثلة من الصحفيين والحقوقيين والأساتذة الباحثين والشخصيات الوطنية، تكريما لروح فقيدي الوطن، الرفيقين محمد فرحات وشمعون ليفي، واستحضارا لخصالهما الإنسانية الرفيعة، ورصيدهما النضالي، الحافل بالتضحية والبذل والعطاء والإبداع، مجددين العهد على المضي، قدما، في المسير الذي نذرا له حياتهما، مسير الدفاع، باستماتة وتفان وإخلاص، عن قضايا الوطن ومصالح الشعب، عن وحدة البلاد الترابية، وسيادتها الوطنية، وهويتها المتعددة الجذور والروافد والمكونات، مسير مناهضة كل أنواع الحيف والظلم والعنصرية، ومساندة كفاح كافة الشعوب من أجل الحرية والتقدم والديمقراطية.
الفقيدان ناضلا معا، لفترة طويلة، خلال الاستعمار وبعد الاستقلال، في حزب واحد، ومن أجل أهداف مشتركة، حيث كانا، كل من موقعه، وعلى طريقته المميزة، مثقفين ملتزمين بالمبادئ السامية والمثل العليا، تعاطيا للكتابة، ومارسا العمل الصحفي، بحذاقة ولغة راقية ليس من المبالغة في شيء القول بأنهما، في الواقع، ما كانا يحرران المقالات والأبحاث وإنما يطرزانها طرزا ما أبدعه. كما أنهما ربيا، تربية حسنة، أجيال من التلاميذ والطلبة والرفاق والرفيقات، وكان لهما فضل كبير، كل بقسطه الوافر، في نشر قيم إنسانية نبيلة على مختلف المستويات وشتى الأبعاد، وخاصة الثقافية منها، التي أولياها جهدا ملحوظا ومثمرا، سواء من خلال أدبيات الحزب، أو على أعمدة صحافته.
ولا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل سيأتي على ذكرها المشاركون في هذه الندوة التكريمية، التي لا ينبغي أن تكون غاية في حد ذاتها، بمعنى أنه لا يتعين أن نتعامل معها وكأنها محطة فريدة للقيام بواجب آني تجاه فقيدينا، إذ لابد أن يكون لها ما بعدها، بأن نفكر في الصيغ الملائمة لاستجماع تراث الفقيدين، والتعريف به، وتعميم الاستفادة منه.
لا أريد أن أدخل في تفاصيل، فحسبي، في ما يخص سي محمد فرحات، طيب الله ثراه، أنه، وهو الذي حمل دائما هم وطنه وشعبه، وكافح الاستعمار، وناضل على أرض المغرب، وانطلاقا من الجزائر، وعبر إذاعة تيرانا، ومن كل مكان، بما في ذلك من داخل السجن، لما اعتقل بمعية رفيق دربه، الأمين العام الراحل علي يعته.. قلت حسبي أن أشير إلى أن القيمة المضافة الكبيرة التي كان يمنحها لصحيفة «البيان»، على سبيل المثال لا الحصر، من خلال زوايا وأعمدة ارتبطت باسمه، واتسمت كتابتها بلغة منحوتة وحس إبداعي مرهف، بشهادة القراء المغاربة والأجانب، هذه القيمة وازاها تفطنه إلى الإقدام على أن يكون له قصب السبق في صنع أول صفحة تعنى بالإبداع الأمازيغي، وهي الصفحة التي تمكن، عبرها، من رعاية عشرات المبدعين والباحثين، وتوسيع رقعة الانشغال بالثقافة الأمازيغية، والاشتغال عليها، برصانة وجدية لا يزال يستحضرها كثير من المهتمين، وستكون، اليوم، ولا شك، موضوع تذكير.
أما بالنسبة للرفيق شمعون ليفي، رحمه الله، والمعروف بغزارة إنتاجه الفكري، وإسهامه الثري في تحرير الوثائق الحزبية، خاصة في أفق انعقاد مؤتمراته الوطنية لما كان لا يزال ضمن القيادة، وفي مجال الكتابة الأكاديمية، أو الصحفية، وإن كان قلما يوقعها، والذي كان نموذجا للمزج الخلاق بين النظرية والممارسة السياسية، في شتى الواجهات النضالية، بالنسبة للرفيق شمعون ليفي، الذي لم ينل منه لا الترهيب ولا الترغيب، والذي لم يثنه لا العسف ولا التعذيب، حسبي الإشارة إلى ما تميزت به جنازته المهيبة، حيث هب لتشييع جثمانه كل الأطياف الحية من المجتمع المغربي، من أحزاب سياسية، وجمعيات مدنية وحقوقية، وهيئات نقابية وثقافية، وشخصيات وطنية، ومناضلات ومناضلين من مختلف ربوع الوطن، ما شكل إجماعا باهرا على ما يحظى به الفقيد وأعماله من احترام كبير وتقدير فائق.
أجدد ترحيبي بالجميع، والشكر الموصول لكل الأساتذة والأخوات والإخوة المشاركين معنا في هذا اللقاء، والشكر أيضا للسيد مدير المكتبة الوطنية على احتضاننا في هذا اللقاء التكريمي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
‎* الحسين بوزينب:
علاقتي بالزميل المرحوم الأستاذ شمعون ليفي تعود إلى أكتوبر من سنة 1971 عندما عينت أستاذا للغة الإسبانية في ثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء بعد حصولي على الإجازة في هذا التخصص وعمري آنذاك 22 سنة، فلما وصلت أوائل شهر أكتوبر أو ربما أواخر شهر شتنبر إلى الثانوية المذكورة بالدار البيضاء تقدمت إلى الإدارة لاستلام استعمال الزمان المخصص لي فأعطي لي جدولا زمنيا يحمل اسم شمعون ليفي، الذي كان قد انتقل في نفس الأيام للتدريس في كلية الآداب بالرباط. إن تحضير جدول أعمال له في الثانوية يدل على أن مغادرته لها ربما لم تكن منتظرة في تلك الفترة بالضبط، لذلك حضر له الجدول كالعادة.
كانت هذه أول لحظة أكتشف فيها اسم الرجل الذي كان من المفروض أن يدرس مادة الإسبانية التي أسندت إلي في تلك السنة، ولكن يبدو أن شمعون ليفي قرر في نهاية مسار من التردد (كما حكا لي سنوات بعد هذا) أن يلتحق بالجامعة لأنه كان يحمل الشهادة التي تؤهله للتدريس فيها منذ سنة 1958 حيث كان قد حصل على ما كان يسمى آنذاك دبلوم الدراسات العليا، والذي كان يسمح له بشغل منصب أستاذ محاضر، غير أن ارتباطاته المتعددة بمدينة الدار البيضاء كانت تحول دون ذلك الالتحاق بالجامعة أخذا بعين الاعتبار ما كانت تمثل هذه الوضعية من ضياع بالنسبة إليه في مساره المهني. يجب التذكير هنا أن المغرب في هذه المرحلة كان يفتقر إلى حاملي الشواهد العليا ما بعد الإجازة من بين أبنائه، فإذا كان وجوده آنذاك ربحا للثانوي فهو خسارة للجامعة التي كان السواد الأعظم من أساتذتها من الأجانب.
ومن ناحية أخرى كان شمعون ليفي هو الأستاذ المغربي الوحيد الذي يحمل في تخصص اللغة الإسبانية دبلوم الدراسات العليا الذي كان قد حصل عليه سنتين أو ثلاثة فقط بعد الاستقلال، وسيكون على بلادنا الانتظار إلى بداية الثمانينات أو أواخر السبعينات لكي يجد شخص ثاني يحمل هذا الدبلوم.
إضافة إلى هذا، كان هو أول أستاذ مغربي متخصص في اللغة الإسبانية في المنطقة التي استعمرها الفرنسيون (في الثانوي)، وحتى في شمال المملكة، التي خضعت للحماية الإسبانية، كان المغاربة المدرسون للإسبانية في الابتدائي والثانوي قلة قليلة، أتذكر من بينهم الأستاذ محمد بودرة (الذي كنا نناديه دون محمذ والد الدكتور بودرة الرئيس الحالي لجهة الحسيمة...) ودرست عنه في الابتدائي في الحسيمة سنة 1957 وعبد السلام العروسي ودرسني في ثانوية القاضي عياض بتطوان.
إذا لما التحقت بثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء، إضافة إلى استعمال الزمان، ورثت عن شمعون مجموعة من التلاميذ الذين كان قد بدأ يدرسهم سنة أو سنتين قبل أن ألتحق بالمؤسسة، ومن بين التلاميذ الذين ما زلت أتذكرهم وتربطني بهم علاقة ود واحترام سي محمد شفيقي الذي يشغل اليوم منصب مدير الدراسات والأبحاث في وزارة الاقتصاد والمالية وهو أستاذ للاقتصاد في كلية الحقوق بالرباط. ومن تلامذته الذين سأتعرف عليهم في ظروف أخرى عبد الواحد سهيل المناضل في حزب التقدم والاشتراكية. ويونس الطريبق الذي التحقت به في الجامعة لما ولجتها للدراسة سنة 1967 حيث كان يونس في السنة الثالثة وكانت هي السنة الأخيرة (وسأدرس معه في ثانوية محمد الخامس ثم سنذهب معا إلى مدريد لتحضير الدكتوراة في الجامعة المستقلة مدة أربع سنوات)، ومن المداعبات أو المستملحات التي حكى لي إياها بعض الأصدقاء الذين درسوا مع يونس الطريبق الذي كان بدوره رجلا بشوشا وذي نكتة مثله مثل شمعون، أنه كان ليونس بعض التأخر في الدراسة ولم يكن يسعفه الحظ في الحصول على الباكلوريا رغم أن الامتحان كان يجري في دورتين كل سنة كما يعرف من عايش هذه الفترة.
إذا كان شمعون ليفي يجد كل بداية السنة الدراسية أن يونس الطريبق ما يزال معه في القسم وزملائه قد التحقوا بالجامعة، فقال له ذات مرة: أنت اسمك طريبق وبالفرنسية TRIBAK واسمك هذا يدل على أنك ستنتظر ثلاث سنوات كي تحصل على الباكالوريا، وهو ما حدث بالفعل، فبعد ثلاث سنوات حصل على الشهادة والتحق بالجامعة ثم رجع إلى ثانوية محمد الخامس ليدرس بها ثم ذهب إلى مدريد وحصل على الدكتوراه من نفس الجامعة التي حضرت فيها الدكتوراة أي الجامعة المستقلة ثم عاد ليدرس في كلية الآداب بالرباط ليلتقي بشمعون في شعبة الإسبانية... إنها شعبة اختزلت ذلك الانفتاح المغربي بحيث كان يتعايش فيها المغربي المسلم واليهودي مع الراهب الفرنثسكاني الإسباني والأستاذ الفرنسي والإسباني.
كل هذا وأنا لم أر بعد هذا الشخص الذي كنت أسمع عنه الكثير وسأنتظر إن لم تخني الذاكرة إلى سنة 1982 لألتقي بشمعون ليفي أول مرة، إثر عودته إلى كلية الآداب بالرباط بعد أن تم فصله عنها كما فصل مجموعة من الأساتذة التقدميين أمثال إسماعيل العلوي ومحمد الناصري وغيرهما بحيث تم تعويضهم بمجموعة من الأساتذة الذين أوتي بهم من مصر وسوريا بالخصوص.
وقد كان سبب فصل شمعون، حسب قرار الفصل الإداري: كونه يهودي وشيوعي، حسب ما حكى لي. ولم تتم إعادته إلى مكانه في الجامعة مع باقي زملائه المفصولين إلاّ بعد أن هدد مسؤولا في الوزارة بنشر القرار المذكور الذي حصل عليه بوسائله الخاصة على أعمدة جريدة البيان بحيث أن الأمر كان سيمثل فضيحة كبرى على كافة الأصعدة.
نظرا لما كان يميز شمعون ليفي من شخصية نضالية وملتزمة وعطف كبير في الوسط الجامعي، فإن عودته إلى حظيرة الجامعة مثلت قوة إضافية لهيئة الأساتذة سواء داخل مجلس الكلية الذي كان يتم انتخابه دائما من لدن أطر الأساتذة المحاضرين الذي كان ينتمي إليه آنذاك، رغم الحملات السرية المضادة التي كانت تحركها بعض العناصر القليلة والهامشية، التي كانت تحاول خلق مجابهة لم تنجح أبدا في التوصل إليها بين الأساتذة، باستعمال الانتماء الديني، ففي إحدى المناسبات التي كان قد ترشح فيها لعضوية الأستاذ المحاضر في مجلس الكلية كل من شمعون ليفي وأستاذ معروف بتوجهه الإسلامي، تم انتخاب شمعون ليفي بأغلبية ساحقة من أصوات الأساتذة، فذهبت إحدى الأستاذات لإذكاء النار بين الأساتذة، فقالت للأستاذ المنافس لشمعون، أنظر إلى هؤلاء الأساتذة الذين فضلوا اليهودي على الشريف...
وقد كان المرحوم ليفي لا يترك اجتماعا نقابيا داخل الكلية أو خارجها إلا وحضره بحيث كان التزامه لا يتراجع أبدا رغم بعد مسكنه في الدار البيضاء، بينما كان كثير من الأساتذة القاطنين في الرباط لا يبالون بهذه الاجتماعات ولا يقتنون حتى بطاقات العضوية.
وعايشت كذلك شمعون ليفي في لجنة ابن رشد في صيغتها الثانية التي جمعتنا مع كل من مصطفى اليزناسني ومحمد الخشاني والمهدي بائس وفريد الدليرو وكريمة بنيعيش كمنسقة للجنة.
إن التجربة الطويلة التي اكتسبها الفقيد في تدريس اللغة الإسبانية في الثانوي مكنته بدون شك من الحصول على مهارة خاصة في تعليم اللغة الإسبانية في المستويات الأولية، كما استطاع أن ينقل هذه التجربة إلى الجامعة لتقوية مستوى الطلبة في هذه اللغة عند التحاقهم بالتعليم العالي، لذلك سنجده دائما يدرس المواد التي تمكن الطالب من اكتساب الأسس الصلبة عند بداية مشواره في التعليم العالي، فكان شمعون ليفي يأخذ على عاتقه تدريس مواد القواعد اللغوية الأساسية من نحو وصرف وما إلى ذلك في السنة الأولى، ولم تكن له أبدا عقدة التدريس في المستويات العليا لأن بعد نظره وشعوره بالأولويات في التكوين كان يجعله يراهن على تكوين الأسس الصلبة قبل المرور إلى البناء في الطبقات العلوية، ونجده في نفس الوقت يشرف على بحوث السنة النهائية من الإجازة خصوصا في دراسة اللهجات. ويساهم بأبحاث علمية جادة بحيث أثْرت أبحاثه اللغوية، خصوصا في ميدان اللهجات، الدراسات اللغوية الخاصة باللهجات المغربية، خصوصا وأن معرفته للعبرية مكنته من توضيح كثير من العناصر العبرية الدخيلة على اللهجات المغربية الدارجة وكذا استنباط شتى العناصر التي تدخلت في تكوين اللغات المغربية. هذا بالإضافة إلى العنصر الإسباني خصوصا في علاقة مع لغة اليهود الإسبانية أو ما يعرف بالحكتية التي كان يتكلمها اليهود في تطوان وطنجة.
أما طلبته فكانوا يعزونه بشكل كبير إلى درجة أن إحدى الطالبات من بين المحجبات وهي خائفة على أستاذها اليهودي من أن يحرم من الجنة في الآخرة أرادت أن تنجيه من هذا المصير المفترض لديها فاقتربت منه ذات يوم وقالت له: إنك شخص لطيف وتتكلم العربية بطريقة جيدة ولا ينقصك سوى الدخول إلى الإسلام. بطبيعة الحال لم يغضه الأمر ولم يغضب لما سمعه، بل أجابها قائلا: دعيني أستكمل يهوديتي أولا وبعد ذلك سأتدبر المسألة.
هذا هو عمي شمعون كما كانت تناديه كل من ابنتينا مريم وياسمين عندما كان يزورنا ليشاركنا مائدة الطعام وكان له طلب واحد لزوجتي ربيعة: أن لا تضع الزبدة في ما سنقدمه له من طعام
هذا هو شمعون الذي كان جيراننا في الطابق الثاني، ليس في البيت بل في مكتب الشعبة في الكلية، يزعج سكينتهم الإدارية بصوته المرتفع المدوي خلال الاجتماعات ويطرقون علينا باب المكتب متضرعين منا إجراء اجتماعاتنا بهدوء أكبر،
هذا هو شمعون الذي لم يتخل قط عن مبادئه مهما كلفه ذلك
هذا هو شمعون الذي إذا بدأ بحثا مع طالب أو طالبة تتبعه إلى آخر المطاف ولا يتخلى عنه أبدا
هذا هو شمعون الذي كان يقول لمريم وياسمين «طرق واحد البوسة هن»
ونحن بدورنا اليوم «بغينا أن نطرقل بوسة من هنا»
رحمه الله
أستاذ في شعبة الإسبانية بكلية الآداب بالرباط
* مصطفى اليزناسني:
في البدء كان صوتا سجيا يأتي إلينا عبر المذياع من مكان نقدر أنه بعيدا لكننا لم نكن نستطيع تحديده، يخبرنا بما يجري من حوادث في الوطن المنتفض ضد الاستعمار بعد نفي السلطان محمد بن يوسف والعائلة المالكة، يحلل الأوضاع ويقربنا منها. كان المغرب ممزق الأوصال لا يعرف شماله ما يجري في جنوبه إلا من خلال ما يتسرب من أخبار ينقلها المسافرون وبعدهم اللاجئون الهاربون من بطش القوات الاستعمارية الفرنسية.
كنا آنذاك يافعين نعيش مرحلة تشكل وعينا الوطني الذي ستلعب إذاعة›› صوت الاستقلال الوطني والسلم›› دورا هاما في تفتحه. ولم نكن نعرف آنذاك في شمال المغرب، أن حزبا شيوعيا مغربيا كان منخرطا بقوة في مقاومة الاستعمار بشتى الوسائل، ومنها المقاومة المسلحة، لأن سلطات الحماية الفرانكوية كانت مواصلة حربها على كل ما يمت بصلة للشيوعية والاشتراكية إسبانيا كان أو مغربيا.
تلكم صفحات هامة من التاريخ النضالي لمحمد فرحات المغترب طوعا لعدة سنوات في تيرانا عاصمة ألبانيا للقيام بمهمة إعلامية في فترة دقيقة من تاريخ المغرب، دعما لقضية وطنه وأيضا لقضايا التحرر الوطني للشعوب المستعمرة المناضلة من أجل استقلالها. ولعل من الضروري التذكير بأن تيرانا التي ليست موسكو ولا براغ كانت آنذاك عاصمة لأفقر بلدان المنظومة الاشتراكية، وأن الحياة بها لم تكن سهلة.
لن أعرف من هو صاحب الصوت الذي كان يأجج ويذكي فينا الحماس منبئا بنهاية الاستعمار في المغرب وبسقوط النظام الاستعماري في العالم، إلا بعد انضمامي إلى الحزب بعد مروري فترة بحلقة دراسية كان ينشطها قيادي ومثقف شيوعي بارز هو المرحوم الدكتور هادي مسواك، وكان ذلك في بداية الستينيات بعد محاكمة الحزب الشيوعي المغربي ومنعه.
كان أول لقاء بيننا صدفة أثناء مروره ذات يوم بالرباط وكان من قدمني إليه المرحوم يوسف ليفي وذلك بمكتبة ‹›الكتاب›› لصاحبها المرحوم بشير عواد والتي كانت آنذاك المكتبة الوحيدة في المغرب التي تجلب منشورات ماسبيرو والمنشورات الاجتماعية وبالتالي فإنها كانت معبرا ضروريا لكل من يرغب في اقتناء الكتب الصادرة عن تلك المؤسستين، وكان من بين روادها المعتادين بعض الزعماء السياسيين التقدميين وبطبيعة الحال بعض من رجال المخابرات.
ورغم أني كنت عند ذلك اللقاء الأول حديث الالتحاق بصفوف الحزب فقد كنت أعرف عن سي محمد فرحات ما كان شائعا بين المناضلين عن مكانتة كقيادي من الأوائل عرف سجون الاستعمار والملاحقات والنفي والاغتراب، وأدى لوطنه وحزبه خدمات جلى والتقى بكبار المناضلين والقادة الشيوعيين.
أول ما يفاجئك في شخص سي محمد فرحات وهو المناضل الصلب، هدوءه وشفافيته ولباقته ولطفه وحسه المرهف وهي صفات تحببه اليك منذ اللحظة الأولى وتشدك إليه. لم يكن تاريخه النضالي الطويل والحافل حاجزا بينه وبين من كانوا يخطون خطواتهم الأولى في تنظيمات الحزب، لأنه كان بسيطا في اعتزازه بنفسه متواضعا في كبريائه.
وحيث أن نشاط الحزب كان غير علني بسبب المنع، فإن فرص اللقاء بيننا كانت في البداية قليلة، اذا ما استثنينا دورات اللجنة المركزية وذلك بعد التحاقي بها ضما في مرحلة أولى ثم انتخابا فيما بعد. وكانت تلك الاجتماعات أيضا فرصة للقاءات حميمية على جانبها في بيت أحد الرفاق بعد انتهاء الأشغال.
لم يتأتى لي أن أنعم بصداقته ورعايته الموصولتين إلا بعد التحاقي بالدار البيضاء، بعد أن طلب مني أستاذنا فقيد الوطن سي علي يعتة أن أنضم إلى أسرة جريدة الحزب ‹›الكفاح الوطني›› فقبلت على الفور، لأن سي علي لم يكن ليرفض له طلب، رغم أنني لم أكن قد تخرجت من معهد صحافة أو مارست مهنة كانت علاقتي بها تقتصر على ما نشر لي من مراسلات وما كنت أترجمه من دراسات المرحوم الأستاذ عزيز بلال عن السوق الأوروبية المشتركة. لذا كان علي أن أطلب النصح والمساعدة ممن لهم خبرة بالعمل الصحافي وكان أول من لجأت إليه من الرفاق سي محمد فرحات الذي مارس الصحافة الإداعية في بودبست وتيرانا والمكتوبة في منفاه بالجزائر. فهو من أحاطني منذ أن حللت بالدار البيضاء بعطفه وكرمه فاتحا لي داره ومتتبعا وموجها بخبرته وتجربته خطواتي الأولى في ذلك المجال.
أّذكر أني زرته قبل أن أتحمل مسؤولية رئاسة تحرير الصحيفة وبي ما بي من الهواجس ليقيني بصعوبة المهمة، فكان حديثه إلي مطمئنا مقنعا ومحمسا، ومنذ ذلك الحين تعودت أن أطرق بابه ليس فحسب لأستفيد من معرفته وحنكته، أو لأتقاسم معه ما كان يجمع بيننا من الشغف بالآداب ولكن أيضا لأنني كنت أجد في بيته وكذلك في بيت أخينا الأكبر المرحوم سي عبد السلام بورقية بعض العوض عن عائلتي الصغيرة التي كانت آنذاك ولمدة طويلة تقيم خارج الوطن.
وبطبيعة الحال لم يكن العمل سهلا آنذاك بالجريدة التي كان يديرها باقتدارفقيد الوطن أستاذنا المرحوم سي علي يعتة إذ أنها لم تكن تتوفر على مطبعة خاصة وعلى طاقم من الصحفيين المهنيين وإنما تعول بالأساس على تلة من قياديي الحزب وبعض مناضليه الذين يشكلون هيئة التحرير، وفي المقابل كان كل هؤلاء كتابا من صنف نادر وكان أحدهم محمد فرحات الأخ الأكبر الذي لم يبخل يوما علي بتشجيعه ودعمه وهو الصحفي اللامع والكاتب المجيد المتضلع في اللغتين العربية والفرنسية، صاحب الأسلوب المتين في رشاقته والرجل الذي تسعفه العبارة فتنساب دقيقة أنيقة وكأنها نحتت نحتا.
سي محمد فرحات كان شبيها في هدوءه ووداعته بمدينته متشبعا بأجوائها وهي التي وهبت المغرب عددا غير قليل من المبدعين المرموقين في مجالات شتى، أعني الصويرة المدينة المنفتحة على البحر وعلى الجنوب والتي امتازت عبر الأزمنة بتعايش المغاربة في وئام واحترام متبادل رغم اختلاف الأعراق والديانات. فلا غرابة أن يذكر حرصه على الدقة والجودة بمهارات صناعها ومبدعيها. وبقدر ما كان ابن بيئته الصويرية الطيبة الأصيلة، بقدر ما كان متشبعا بالقيم التقدمية والأخلاق النضالية التي تلقنها في حزبه وعمل طيلة حياته على إشاعتها بسلوكه وعمله.
من فضائل فقيدنا على الأدب المغربي، وهو الذي كانت له سعة اطلاع على الآداب العالمية ومتابعة مستمرة لكل جديد في دنياها، أنه كان ومذ كانت للحزب صحافة، من المكتشفين والمشجعين للأدباء الشباب الذين أصبح البعض منهم من الشعراء والكتاب المرموقين وهو ما قام به سي محمد فرحات أيضا في فترة لاحقة بالنسبة للغة الأمازيغية التي كان سباقا إلى فتح أعمدة جريدتة ‹›البيان›› لمبدعيها وكتابها الباحثين في شتى مجالات المعرفة.
لم يكن محمد فرحات الصحفي المناضل والأديب اللامع التي كانت أجيال من القراء تتشوق إلى مقالاته فقط، بل كان أيضا مدرسة للصحافة الملتزمة والأدب الرفيع.
وليسمح لي أهله ومحبوه أن أ ضيف أن هذا الأخ الأكبر والرفيق القيادي والصديق كان بالنسبة لي أيضا معلما على مستوى العلاقات الإنسانية، وقد لمست بحكم قربي منه عدة سنوات صدق وعمق وغنى وقوة حبه لذويه وومحبته للرفاق والأصدقاء، ما يجعلني لا أجد وصفا مختزلا لصفات فقيدنا أصدق من قولة سان جون بيرس: ‹›لا أناقة ولا غنى إلا أناقة وغنى الروح›› وكم كانت تلك الروح غنية أنيقة.
فطوبى لحزب يزخر تاريخه بمثل هؤلاء الرواد الكبار وشكرا لكم أيها الحضور الكريم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.