شكل توقيع اتفاقية الحماية بين المغرب وفرنسا سنة 1912 نقطة تحول على مستوى المنظومة التشريعية المغربية، حيث تم الانتقال تدريجيا من تطبيق أحكام الفقه الإسلامي وخصوصا المذهب المالكي إلى قوانين عصرية. ويتعلق الآمر هنا بقوانين أصدرت في عهد الحماية لكنها نسخت بقوانين جديدة, مدونة الأسرة، مدونة التجارة، قانون الشغل، بالإضافة إلى قانون الشركات.بالإضافة إلى قوانين لم يمسها أي تغيير باستثناء بعض التعديلات الجزئية ويتعلق الأمر هنا بظهير التحفيظ العقاري الصادر بتاريخ 09 رمضان 1331 الموافق 12غشت 1913، التشريع المطبق على العقارات المحفظة الصادر بتاريخ 11 رجب 1333 الموافق 2 يونيو 1915 بالإضافة إلى ظهير الالتزامات والعقود موضوع دراستنا. هذا القانون الذي يعد الشريعة العامة لباقي القوانين، حيث إن القاضي في حال لم تسعفه القوانين الخاصة يمكنه اللجوء إليه للبحث عن الحل، تطبيقا للقاعدة الفقهية التي تقضي بأن الخاص يعقل العام.الشيء الذي يفرض عليه أن يكون جامعا مانعا وخالي من النواقص. لكن هذا القانون الذي مر على صدوره 98 سنة بدأ يتعرض لسهام النقد من طرف المهتمين بالمجال القانوني سواء كانوا أساتذة أو قضاة ,أو باحثين... الشيء الذي يدفعنا إلى طرح مجموعة من الإشكاليات حول جدوى هذه الانتقادات. هل فعلا هذا القانون عجوز، هل فعلا هذا القانون أصبح لا يواكب التطورات.هل فعلا هذا القانون يخالف الشريعة الإسلامية .وإن كان كذلك فما هو السبيل والطريق والمنهاج الأصح لتقويمه، هل نغيره جذريا؟ أم نطوره عن طريق بعض التعديلات الجزئية؟ كلها أسئلة سنحاول مقاربتها وفق المنهجية التالية: المبحث الأول: الأصول التاريخية لقانون الالتزامات والعقود ومواضيعه المبحث الثاني: مدى أسلمة قانون الالتزامات و العقود، وكيف يمكن إصلاحه المبحث الأول: الأصول التاريخية لقانون الالتزامات والعقود ومواضيعه المطلب الأول: الأصول التاريخية لظهير الالتزامات والعقود بعد فرض الحماية الفرنسية على الجمهورية التونسية سنة 1881 وشأنه شأن باقي المستعمرات الفرنسية عملت سلطات الحماية على سن ترسانة قانونية (عصرية)، حيث عمدت إلى تحرير مشروع أولي لمجلة الالتزامات والعقود سنة 1897 وأعيدت صياغتها وطبعها سنة 1899 على يد الفقه سانتيانا ذي الأصول الإسبانية والدي ينحدر من عائلة يهودية اختارت تونس موطنا لها، هذا وضمت اللجنة كذلك فقهاء من الزيتونة حيث حرصت الدولة الحامية على التكوين المزدوج للجنة الموكول إليها مهام وضع مشروع المجلة كي لا تتعارض أحكام نصوصها مع الشريعة الإسلامية وبعد نجاح التجربة التونسية التي شكلت مختبر الأبحاث لهذا القانون بالنسبة للتشريع المغربي عملت سلطات الحماية الفرنسية على اعتماد المجلة التونسية للالتزامات مرجعا أساسيا لوضع مشروع ظهير الالتزامات والعقود، مع بعض التنقيحات والتعديلات التي أدخلتها لجنة علمية مشتركة بين الدولة الحامية ونخبة من فقهاء القرويين حتى تتناسب والأعراف. المحلية وهكذا فبتاريخ 12 غشت 1913 صدر أول ظهير للالتزامات والعقود بالمغرب ليحل محل الفقه الإسلامي في تنظيم المعاملات بين المغاربة والأجانب المقيمين بالمغرب، وما لم يرد بشأنه نص خاص يسوغ الرجوع في ذلك للفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية لتعويض هذا النقص. - المطلب الثاني: مواضيع ظهير الالتزامات والعقود في بداية هذا المطلب أرى أنه من الأساسي التمييز بين القانون المدني وظهير الالتزامات والعقود. فمصطلح القانون المدني يضم في ثناياه الالتزامات والعقود بالإضافة إلى مؤسسات قانونية أخرى وبالتالي فظهير الالتزامات والعقود فرع من فروع القانون المدني ولا يمكن للفرع أن يملك أكثر مما يملك الأصل. كما أن المغرب دولة إسلامية وللعلاقة الزوجية قدسية قرآنية ولأن العلاقة الزوجية لا تدخل ضمن العلاقات المالية فالمشرع المغربي عكس المشرع الفرنسي نضمها في مدونة خاصة. وهكذا فظهير الالتزامات والعقود يضم كتابين، الكتاب الأول ينضم الالتزامات بوجه عام ويضم 7 أقسام، القسم الأول ينضم مصادر الالتزامات الفصول من 01 إلى 106، القسم الثاني ينضم أوصاف الالتزام الفصول من، 107 إلى 188 أما القسم الثالث فهو ينضم انتقال الالتزامات الفصول من، 189 إلى 227، فيما القسم الرابع ينضم آثار الالتزامات، الفصول من،228 الى305 وينضم القسم الخامس بطلان الالتزامات وإبطالها، الفصول من، 306 إلى 318، كما ينضم القسم السادس انقضاء الالتزامات، الفصول من، 319 الى318 أما القسم السابع والأخير في الكتاب الأول فهو ينضم إثبات الالتزامات والبراءة منها الفصول من399 الى477. أما الكتاب الثاني فهو يضم اثنا عشر قسما ينضم الأول منها البيع الفصول من478 إلى 618 والقسم الثاني ينضم المعاوضة الفصول من619 إلى 625 أما القسم الثالث فينضم الإجارة الفصول من 629 إلى 780 وينضم القسم الرابع الوديعة والحراسة الفصول من 781 الى828 والقسم الخامس العارية الفصول من 829الى 878 وينضم القسم السادس الوكالة الفصول من 879 الى958 أما القسم السابع فينضم الاشتراك الفصول من 909 إلى الفصل 1091 وينضم القسم الثامن عقود الغرر الفصول من 1092 إلى 1097 أما القسم التاسع فينضم الصلح الفصول من 1098 الى1116 فيما ينضم العاشر الكفالة الفصول من 1117 الى 1169 كما ينضم القسم الحادي عشر الرهن الحيازي الفصول من 1171 إلى 1240 أما القسم الثاني العشر والأخير فهو ينضم مختلف أنواع الدائنين الفصول من 1241 إلى 1250. المبحث الثاني: مدى أسلمة قانون الالتزامات و العقود ,وكيف يمكن إصلاحه المطلب الأول: مدى أسلمة ظهير الالتزامات والعقود لمقاربة هذا السؤال أرى أنه وجب أولا التمييز بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي. فالشريعة الإسلامية حسب القاطبي ''إن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا في أفعالهم واعتقاداتهم'' كان ذلك عن المعنى العام للشريعة الإسلامية أما معناها الاصطلاحي الدقيق فهي ليست إلا نصوص القرآن و السنة وما تضمنه من أحكام صريحة.وبهذا المعنى لا يدخل في مفهومها آراء الفقهاء والأحكام الاجتهادية التي استمدوها من فهمهم لنصوص الشريعة التي أرشدت إليها تلك النصوص، فهذه الأحكام والآراء تدخل في مفهوم الفقه الإسلامي الذي هو قائم بلا شك على نصوص الشريعة، والذي لا يسوغ مخالفتها إلا بدليل يرجح الأحد بهذا الرأي دون ذلك. وبتعبير آخر، فالشريعة الإسلامية هي الأحكام الواردة حصرا في القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة. أما الفقه الإسلامي فهو الأحكام الإسلامية التي استنبطها الفقيه من الشريعة الإسلامية. وبمفهوم الموافقة فأحكام الشريعة الإسلامية هي أحكام من النظام العام، أي أحكام الضوء الأحمر فيما أحكام الفقه الإسلامي يجوز التداول فيها وتفسيرها حسب التطورات المجتمعية اعتمادا على الاجتهاد. وبالجوع إلى لجنة إعداد المجلة التونسية نجد أن الفقه، والشريعة الإسلامية كانوا ممثلين بقوة عن طريق التمثيلية العلمية لعلماء الزيتونة,كما أن سافيانا كان يدرك أنه يقتبس قانونا أوروبيا عصريا ليطبقه على بلد مسلم. بالإضافة إلى ذلك فالدولة الحامية تعي جيدا أن أهالي المستعمرات لا ولن يقبلون التدخل في أمورهم الدينية وعقيدتهم الإسلامية لتفادي أي رد فعل يهدد أمنها وأمن جنودها. والدولة الحامية كانت تدرك هذه المسألة حيث قبل تطبيق المجلة التونسية في المغرب عمدت إلى تشكيل لجنة تضم علماء وفقهاء لتفادي ما سبق بيانه. كما أن السلطان بصفته أميرا للمؤمنين لا يمكنه أن يحرم حلالا أو يحلل حراما، ليتضح من كل ما تقدم أن لأحكام التي لا تمس عقيدة المسلم والشريعة الإسلامية هي التي حرص واضعو ق.ل.ع على تجنب المساس بها، أما الأحكام التي لم يرد بشأنها حكم لا في القرآن أو السنة فيجوز اللجنة اعتماد الاجتهاد والنهل من جميع المذاهب الإسلامية لتحقيق غاية واحدة ألا وهي ضمان التطور ومواكبة العصر دون الانسلاخ عن الهوية الإسلامية، الشيء الذي يؤكده العديد من الخطب الملكية ومواقف الأساتذة والأحكام القضائية. المطلب الثاني: كيف يمكن تطوير ظهير الالتزامات والعقود؟ إذا سلمنا بأن ق.ل.ع هو قانون وجب إعادة النضر فيه لأنه أصبح لا يساير التطورات المجتمعية في جميع ميادين الحياة، على الرغم من أن هذا الموقف فيه نضر.فأي مقاربة وأي منهج يجب إتباعه لإعادة النضر في هذا القانون؟ هل ندخل عليه بعض التعديلات الجزئية؟ أم نعيد بناءه بأسس ومبادئ ونظريات جديدة؟. يقول في هذا الشأن الدكتور أحمد الخمليشي أنه يجب الاكتفاء ببعض الإصلاحات الجزئية ويشاطره الدكتور عبد القادر العرعاري نفس الموقف. وفي نفس الإطار طلبت وجهة نضر العديد من المهتمين بالميدان القانوني فأجمعوا على أن يقتصر التدخل بواسطة تدخلات جزئية. وشخصيا حسب رأييي الجد متواضع الذي قد يصيب أو يجيب، أضن أن من يفكر في أنه يجب إعادة النضر كليا في ق.ل.ع قد جانب الصواب وينوي أن يشل المنظومة القانونية، بل أكثر من ذلك أرى أنه من الجور نعث هذا القانون بالعجوز. فظهير الالتزامات هو الشريعة العامة، وبالتالي فالتفكير في وفق هذا المنحى يستدعي أولا التفكير في الوسائل المادية والفكرية المتاحة. كما أن من شان هذه المنهجية أن تهدد أهم المبادئ التي تساعد على جاذبية القوانين والمقصود هنا. مبدأ تبات واستقرار القاعدة القانونية. كما أن أي تعديل كلي ل ق.ل.ع يستدعي بالضرورة تعديل وتنسيق كلي لكافة القوانين الوطنية المرتبطة به أو التي تحيل عليه. كما أنني أتساءل عن البديل؟ ومن هذا المنبر أدعوا كل من يرى في نفسه الجرأة والقوة الفكرية على أن يهد ويهدم نظرية صمدت لسنين من قبيل نظرية العقد ونظرية الحق أن يعطي البديل بدل الانتقاد من أجل الانتقاد. وفي مقابل ذلك ف:ق.ل.ع ليس هو ذلك القانون المثالي الذي لا يخلوا من النواقص.فهو قانون يحمل ما يحمل من النصوص القانونية التي وجب إعادة النضر فيها. وأقترح في هذا الإطار أن تجتمع لجنة علمية تضم أساتذة القانون المدني بكليات الحقوق، لتعمل على تشخيص الداء واقتراح الدواء، وان ترفعها للبرلمان.ليتم اعتماد اقتراحات السادة الأساتذة في أي مشروع قانون جديد، وهي عملية ليست باليسيرة بل إنها تتطلب رياضة فكرية، وإمكانيات مالية والأهم جرأة سياسية. كما أقترح في هذا الباب التنسيق بين ق.ل.ع وباقي القوانين المرتبطة به لتفادي التناقض الحاصل بين المواد، كما هو الشأن بالنسبة للمادة 85 من ق.ل.ع والمادة الرابعة من مدونة الأسرة. كما أقترح في هذا الباب التنويع في الفقه والتشريع المقارن بدل الاقتصار على الفقه والتشريع الفرنسي والأخذ عنه كل ما نضمه حتى وإن كان لا يناسبنا، ولنا في نضام الشهر العيني الذي اقتبسته الدولة الحامية من أستراليا والذي أثبت نجا عته في مقابل أن نضام الشهر الشخصي أثبت قصوره. ودليلي في ذلك أن المشرع الفرنسي سعيا منه للتقريب بين نضام الشهر العيني ونظام الشهر الشخصي بدأ في إصدار بطاقات عقارية عينية. خاتمة ختاما أعتقد أن ق.ل.ع ليس هو الوحيد الذي مر على صدوره أكثر من 98 سنة .بل ظهير التحفيظ العقاري يشترك معه نفس الوضعية. هذا الأخير هو الآخر يستدعي بعض الإصلاحات لمواكبة العولمة ولتحديث الترسانة القانونية وجعلها أكثر جاذبية, خصوصا أن العقار أصل كل استثمار. وما اقترحته بالنسبة لق.ل.ع أقترحه كذلك لظهير التحفيظ العقاري. * باحث بماستر القانون و الممارسة القضائية - عن موقع maroc droit