حركة الربيع العربي، التي انطلقت برياح عاتية، في مشرق العالم العربي ومغربه، في مطلع هذه السنة، أكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن “السلطة السياسية” في أنحاء عربية مختلفة، كانت وما تزال، هي أصل وهوية كل فساد، تعلل ذلك بالقرارات والتصرفات السياسية، للعديد من القادة والمسؤولين الذين أدت تصرفاتهم إلى تخريب المجتمعات وقيمها، وإلى زيادة الفوارق بين الشرائح والفئات. فالسياسة في “الوطن العربي”، لا تنحصر آثارها في المؤسسات الحزبية أو الحكومية أو البرلمانية، أو في القيم والسلوكات، بل تمتد إلى الأفراد والمجتمعات والقطاعات، خاصة وأن فاعليتها في هذا “الوطن” تعتمد على “النخبة” التي تحترف العمل السياسي، والتي تعمل على توزيع الأموال والمناصب والمسؤوليات، المتحكمة في المجتمع، وفي رسم القيم والأخلاق فيما بينها، وهو ما يجعل “الفساد” ابنا شرعيا للسياسة ونخبها وقيمها. وبتجربة الشعوب التي نخرها سوس الفساد، فإن النخبة السياسية “المخدومة” والتي تصل السلطة خارج المشروعية، أو بواسطة انتخابات مزورة، أو في ظل ديمقراطية مغشوشة، تعطي الفساد قدرة على التوالد والتنامي والتجديد، وتزوده “بالآليات” التي تمكنه من فرض نفسه على البلاد والعباد، ليلقي بظلاله على مصالح الناس، أينما وجدوا وكيفما كانت حالتهم الاجتماعية والمادية. إن التمعن فيما حدث في تونس ومصر، وما يحدث في سوريا واليمن وليبيا، والبحرين والأردن، وفي جهات عربية عديدة، يعطي الدليل القاطع، أن سلطة الفساد تتجاوز المنطق والعقل. وبحكم العلاقات التي تفرضها السياسة على نخبها، تصبح المصالح بين أفراد هذه النخب خارج الشرعية والقانون، فعلى يدها أهدرت قيم القانون في العديد من بلدان العالم العربي، والعالم الثالث، وصودرت الحريات العامة، وغيبت الرقابة القضائية والشعبية، وألغيت مؤسسات المجتمع المدني، لتصبح “السياسة” مصدرا أساسيا للفساد، في أصنافه ومستوياته المختلفة. إن اتساع الأدوار الاقتصادية والمالية للفاعلين السياسيين، أدى في العالم الثالث، وفي أقطار عديدة من العالم العربي، مغربه ومشرقة، إلى اتساع مواز لمنظومة الفساد، وبالتالي إلى انهيارات اقتصادية وأخلاقية وسياسية، ما زالت آثارها السلبية جاثمة على الأرض، تكبر، تتسع، وتنشر الخراب والخوف والهلع بين الناس، وهو ما أدى في نهاية المطاف، إلى الإطاحة برؤوس “غليظة” كانت إلى وقت قريب محصنة بجيوش وأسلحة من كل الأصناف. *** لقد كشفت العديد من الدراسات الأكاديمية، أن الفساد الأخلاقي/ السياسي/ الإداري/ المالي، هو فساد مترابط ومتداخل مع ظواهر الإجرام الأخرى، المتصلة بالمجتمع ومؤسساته المختلفة، وأعني بها ظواهر تجارة وتهريب المخدرات وتبييض أموالها، التجارة في الجنس البشري تشغيل الأطفال في مافيات العهارة المنظمة. وكشفت هذه الدراسات أيضا، أنه بسبب التراكم، أصبحت للفساد في العالمين المتقدم والمتخلف على السواء، تقاليده ومؤسساته وسلطاته، لتصبح مكافحته صعبة ومستحيلة في العديد من الدول، إذ بلغ اليأس حدا جعل العديد من الناس، يسلمون بأن المكافحة، لن تكون سوى ضرب من العبث، أو كالاعتراض على قوانين الطبيعة، بعدما أصبح الاعتياد على الفساد، سنة أو نهجا في العيش، وفي المعاملات والخدمات، وفي السياسات، له القدرة أكثر مما للقوانين التي تكافحه أو تنهي عنه. في جهات عديدة من العالم الثالث، ومن العالم العربي، يتداخل الفساد مع القطاعات المنتجة والأساسية في الدولة، ويجعل من نفسه منظومة مترابطة ومتداخلة مع ظواهر أخرى، منها – بطبيعة الحال- المحسوبية والزبونية والرشوة والارتزاق والانتهازية... التي أغرقت بلدانا عديدة في براثن التخلف. وحسب منطق الدراسات العلمية والاجتماعية، فإن الفساد عندما يتخذ شكل “المنظومة” يتحول إلى أداة فاعلة للقهر والضعف والهشاشة والتهور، يتحول إلى مرجعية مركزية للتخلف الشامل، الذي يحبط ويقضي على كل إصلاح وعلى كل انتقال. وعلى أرض الواقع، ساهمت “منظومة الفساد” في العالم العربي، وفي العديد من بلدان العالم الثالث، إلى حد بعيد، في إحباط وتآكل المشروعية السياسية، لعلاقة السلطة بالمجتمع، مما أدى إلى فشل مبادراتها الديمقراطية، ومبادراتها في الاستثمار الخارجي، واستئثار جهة أو جهات معينة بالثروة الوطنية والامتيازات الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى تعميق الهوة بين الشعوب وطموحاتها في الانتقال والإصلاح والتقدم. والمفسدون هم أرباب الفساد، هم الصف “القوي” في العديد من البلدان العربية، وبلدان العالم الثالث، الذين يحاصرون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة والحرية ودولة الحق والقانون والمواطنة. هم الذين يدفعون إلى طغيان قانون القوة، بدل قوة القانون، وإلى تمركز السلطة والمال والامتيازات في جهة واحدة، وإلى تغييب المراقبة والمساءلة... وإلى اتساع رقعة الانحلال الخلقي، وإلى توسيع رقعة الفقر والفاقة والقهر والتهميش. المفسدون، هم الذين يجذبون أوطانهم إلى الأسفل لتغرق في تخلفها وتناقضاتها أمام العالم، هم الذين يشكلون قوة خفية قاهرة، تعتمد كل أساليب الاحتيال والقهر والتجاوز والإفساد والاستغلال، من أجل تركيز أنفسهم في القطاعات والمجتمعات، والمراكز والمناصب، وصناديق الثروة والمال، وتعميق الهوة بين أوطانهم والإصلاح والتقدم الحضاري. والمفسدون قبل ذلك وبعده، هم “نخبة” من السياسيين والوزراء والمسؤولين والمقاولين، والمهربين، والجرمين، والمتاجرين في البشر، الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، لا تميزهم عن الآخرين، في الإدارات العمومية، أو في البنوك وصناديق الدولة، والأحزاب السياسية والجماعات المحلية – القروية والبلدية- سوى بقدرتهم على اللصوصية، وعلى صياغة القرارات الفوقية الخاطئة التي تخدم مصالحهم الخاصة، على حساب المصالح العامة، وقدرتهم على احتقار شعور الأغلبية العظمى من المواطنين وامتهانهم واستعبادهم. *** يعني ذلك بوضوح، أن الفساد ليس مقدورا على العالم الثالث، أو على الوطن العربي/ مغربه ومشرقه، كما يدعي ذلك صناعه، بل هو إرادة بشرية تتقصد الفساد والإفساد، ترعاه وتزكيه وتبرره وتدفع به ليكون قدرا محتوما، إنه “صناعة” سياسية، لا أخلاقية يحاول أصحابها من خلالها السيطرة على أكبر قدر من المكاسب الحرام، والامتيازات الحرام، والأموال الحرام والسلط الحرام. والسؤال الصعب الذي يحاصرنا، خارج كل الأقواس: (أية استراتيجية) أية إصلاحات، تخلصنا من هذا الجحيم... حجيم الفساد والمفسدين؟ لا شك، أن انفجار حركات الثورة ضد الأنظمة الفاسدة في العالم العربي هذه السنة، كان نتيجة أولى لما أحدثته منظومة الفساد، من تغيرات. فهل تستطيع هذه الثورات المتلاحقة تنظيف الخريطة العربية من الفساد والمفسدين؟ هل تستطيع حركة الربيع العربي القيام بهذه المهمة الصعبة في التضاريس المحصنة للخريطة العربية؟ ... كيف... ومتى...؟