يتسارع نبض عقارب ساعتي، وينتشي صوت المساء في روحي. ولا أعلم في الحقيقة أي رعشة سبقت رعشة ذاتي أو المشاعر المضطربة في هذا الصمت. ملامح الانتظار على وجه المسافة والتعجب يقطب جبينه فأشعل فتيل قبلته النائمة في روحي منذ سنوات.. وأنا التي أحضرته من أقاصي الصمت والهدوء للصخب ونهاية مكبلة بالبكاء.. ولا زال في القلب أمنية خضراء، وفنجان قهوة وخلوة صامته وغرق من حنيني وضعفي. يجاهر الكأس شفتي أحلامي ويحرض غواية البكاء في روحي ليرتوي من ضياعي حين يقتحمه الفضول وقلبي ينتفض على أنامل الأيام. فترتعد فرائض دهشتي فيسقطني التعب وتفاصيل الغواية في عيناي. فيستفزني الصمت وهدوء تثور أشواقه لتطوي المسافة وتمحو جغرافية المكان.. فيلعق صوت الريح على شفتي، يعارك دهشتي فيفتح في عيني سماءا ثامنة يصعد الوله إليها ولا ينتهي. هل كانت رصاصة الصمت تحتفي بسنين عمري كمكافأة للانتظار؟ ينزعها العمر شكا وتنبت يقينا، يحرقها خطيئة فتسكبه شوقا وعطرا على ناصية وجعي.. وبدم صمتي يتصارع المد والجزر كل مساء وفنجان قهوتي ينتظرني خلسة ويخفي بداخلي صوت نبضه ووقع أنفاسه. يختبئ خلف المسافة وينزوي بدمعي ليحارب ظلي الهارب مني. يحشر أطرافي وسط الموت، يسوق أمنياتي وحلما تلفظه الحقيقة. يقايض شطري وبعضي وعشري يعلق في صوت الأماني فيبكيني الحظ كل حين.. غصة تعصف بالكيان وألم حاد يتغلغل في الصدر والحنجرة، دموع تترقرق دون إذنِي و دونَ اختياري. دموع تَسبِقُني إلى حافة الشعور. ونحن أحياء على كل حال، فلماذا هذا التعب؟ لماذا لا ترسم الحياة على فمي بسمات طويلة كالجداول؟ لماذا لا ترمي همومي في البُحيراتِ كالحَصى؟ وأنا التي تتعلق على قشة الإيمانِ بالله؟ بين التعجب والدهشة يتأرجح الشعور يستفزه الجمود ويقتله التأويل! خيالي يزهر في روحي وتلفظه الحياة. تسرف لحظتها وتقنط العمر ويبقى العراك مع ظني ومشاعري.. يتوازن بين قرب وصد ومزاج يقف على أصبع مكسور. يستمطر الحظ وروحي تمطر عطرها وأحمرها يحتفل بها في خيالي كل مساء. يقارب حسي وإحساسي ليتعلم الصبر. لست كذلك.. لكن فعلا عجزت عن التبرير! إني أتسرب في حضرتي ويشهق وريدي بصوتي و يأخذني فلا أفيق.. يثور وتضج أشواقي، وفي صوتي تفاصيل السكينة. ينازعني الغياب، وشوق الصمت والنافذة والصوت والبكاء، في صدري وقهوتي الباردة وأحلام المساء التي غفت على ذراع العمر.. استفهام غرسته في أضلاعي وما زال يئن من وجعي. إن اختلست جرعة الموت اختلاسا، فقد سقيته من يدي اختياري.. هذا الحنين الذي تحمله أزقة الغربة وميادين الغياب لغته صارخة بالتعب والاشتياق مملوء بشجن عظيم… وأنا ألصق صوري المتشابهة في ذهني على أمل أن أعود.. دائما في كل حلم لي زاوية مختلفة وهدوء يتوهج بالأرق الدائم … حديث الغربة والاغتراب داخل روحي أعظم من غربة المكان … فعلا، كل شيءٍ في هذه الحياةِ مُكلِف، القوةُ مُكلِفة، الجمالُ مُكلِف، والسعادةُ مُكلفة… لا بدَّ أن ندفعَ التكاليف وكفى.. ولغة الفقد ورمزيتها وما تعنيه في روحي يا صديقي مكلف .. عالم كبير ولنا منه الصمت والسكينة، و للحزن الذي يحفر أرواحنا ويقبرنا أحياء .. وإن قاومت صراخي وكبت ذلك النداء العظيم داخلي أعلم يقينا أن الحزن يتنفسني من كل خلية بجسدي وإن تعددت الأحزان في روحي فلها رائحة واحدة (كانت هنا ومضت). وسلام عليها وصمتها ورائحة البكاء في صوتها .. سلام يحمل الأغاني والأماني وينصت لنداء الريح وأنا.. يسكِن نواح أسئلتي، وحزن تعجبي.. يحاكيني غيابي ويبعث في ذاتي الهدوء ليتنفسني المساء حلما وحنينا.. اخترقني وجع الصوت ولم تشطرني الرصاصة وهرعت أبحث عن بقيته.. صوت ظالم !! فقد نبتت في دمي أحلام عذراء مكتملة ونسج على جوانب نبضي فاتنة وألقمتني السكينة ونسيت روحي.. يكتبني المطر والغيم والناي وتفاصيل الهوى في قلب روح لا تهدأ.. من علم القلب الرقيق ونبضه وحنينه في الليالي الباردة .. وأنا استدفىء الصمت الغريب بداخلي وحروف حلمي الهاربة .. إن يكتم القلب الرقيق عذابه وخيول ضياعه الشاردة .. من يسكن الصوت العميق بداخلي وهتاف أمان هادرة.. إني أعدتني بالذي فطر السماء وغيومها وكتب في عيني دمع الحياة.. وآهات قلبي الحائرة .. هي ملاذ روح .. كانت هنا ومضت.