مازالت تسكنني طفلة البوريد، ترقص قبالة البحر وصوت رشفتها كغروب الشمس، يدعو جموع الورد لصلاة اللقاء الأولى، يدثر كفها غسق الأحلام، خلف جزر تغتسل منذ أربعين خريفا، لتستفيق بفتور على تراتيل ساقية في منتصف الشوق . ورمق الحدق الساكن على أغصان الغاف يرصد حشرجات الروح، ومياه الأفلاج، وعبير الصحاري هناك على بعد أميال من بحيرة الأمل يهز أغصان الوريد بعينين جائعتين ليستلقي بين أروقة الوقت عساه يحتضن الغمام وعيون السماء لا تتسع لدخاني الداكن ولا لغة الرقص على سرمدية القمر. كان السؤال، كيف تكتب طفلة البوريد الليل؟ أرسم دروبا من مروا في المساء، وإن طفح الليل بسلام، وطفلة البوريد تحتضن رهف الحرير، وصوتها تعلوه بحة التعب كشجون الخريف، لتخضب أنفاس الحياة، عسى الشوق يدغدغ أبجدية بوحها، أو عساه يعري شفاه الصمت، حين يخرج الروح من نازية الرماد، وكل آهاته تريق شهوة القمر. كيف ترسم طفلة البوريد صمتا في طياته معنى الهمس..؟ كيف لا وشغف الوجد الدافئ يؤثث الأحلام، ويقطف براعم اللهفة ليثير قافيتي الكسيرة، وغنج الأسرار الثمانية ، وربما يغتسل من طهر العذارى قبل استيقاظ الليل . رفقا يا زمنا برعشة رمش كان سرمديا، فتعلم لغة النجوم لتولد به الحياة بخافق العمر العليل، كأفق يرتب حجم الشعور، وإن ظل الطريق وسط غبار الألسنة المعقودة، ليقرا تراتيل المساء، وشموع الساكنين شغافنا . لتحمل الحنين على ظهر الوقت، كنشوة تستفيق على همهمات الحلم، لتغتسل من أربعين خريفا، كان يعري نزوة الحرف كل ليل نازق، ويستبيح الأبجدية ليرتب حجم مفردات الشوق بداخلي، وعطر وردة شاردة يعانق بعضه بعضا، كآخر النجمات في قلبي لأعلم أن العمر كالمرسى، وصفعات الأسى موج وطعنات الحزن خرسا … كان السؤال، كيف تجني طفلة البوريد الدفء من غابة تحترق؟ لَو كان لي ألف ساعة في مدارات الليالي، وأقمار تقتفي أثار أقدام، لتطوف بخيال الوقت، وتنقب عن الأحلام الأرجوانية، تلك التي تراود نفسها عن نفسها، فتستجمع فتات العمر المتبقي في لوحة تذكارية، هناك في ذاك الركن البعيد، وجسد الطوفان يبتلع شهوة فكرتي، ويستنطق مآذنها القديمة، ليلهج الروح للمعة ومض، وانبلاج نور وسط الظلام، ينسج من خيال العمر دروبا، وألحانا . تردد مجد أغنية عصية الإيقاع، وتراتيل ساقية في المنتصف، فتنسكب الراحة في عمري، انسكاب شمس النهار على نافذة الصبح الحزين، حتى لا يعتريني خوف، أو رهبة من جهارة . وربما تنبث أشوكا، ونصلا، وتلملم بقايا عطر من عبروا دروب الخيال، كأزهار ندية، أو كغيمة نار تمر بحلمي، تناغش أفكاري من وراء مشكاة، تنير الدرب في التيه بهدوء ساحر، فبيني، وبيني، عمر ضائع، وطريق مسدود، وحلم خائن، يفصل بين ذاتي وأشلائي، من حيث لآلئ الروح تلمع . وللجسد في التيه لغة وأسرار، توقد نيران عمر يحاصر بعضه بعضا، كي لا يطرق أبوابا متخمة بآثار أيدي الغرباء ساعة وساعات، لتسابق طيات الدهر التي تاهت بين زوايا العمر المزدحم، عساني أسقيها صفوا يغسلها، وينقيها من كدر الخوف وأراجيح الحنين . فكيف نترفق بقلب يخفق استجابة للنداء؟ أنا التي تدوس عتبات وعتبات، تنام في حضنها مطايا العابرين قبل أن تتوارى خلف الظل، والروح مني ذائبة تترنح، على وتر كمان يهذي مواويله، وآه ألف آه … بيني وبيني درب جهول، وسلك شائك، وأنفاس متهالكة، وصهيل شفق يفتش في عيون الرمل عن وعد يلملم الأنفاس من لجة التيه، ليقتفي أثار القمر، ويغتال المدى حدسا فيرمم داخلي، وينجلي صوت الحنين كهديل الجراح . فكيف بالأحرى أن تنزل الكلمات مضمار الرقص؟ أحيانا تراني أرتدي الوجه العابس كقلائد ضياء، وكل ساعاتي مكتملة حواسها تعلن البحث عني، وعن ذاتي كمصابة بداء أرق الأحلام، محكومة بمشاعر تدغدغ النبض، لتأتي من جحيم الدمع، ولتشرب من المآسي أكوابا، وفناجين تصدح ، ليفوح عبيرها كشذى نسرين، ويملؤها السكون كسيل جار بين الشهب، تتساقط منه حبات الوجد . كثيرا ما غمست أحلامي في شهاب الزمن، بعد أن منحت نبضي قربانا لمعابد الشوق، عله يروي شجر الغاف ويحكي له ما حملت ضلوعه من أسى كلحن غيم سابح في دهاليز القمر، فوجدت فيه طريقا كنت قد ضيعته، وأنا التي ارتشفت اللهفة عمري، وروحي عبثا، حتى لا أستبق ألسنة الزمن وأغرد على مشجب التمني . فيا ليل ما أشجى دياجيرك، وما أقسى روحك تلك التي توقد شمعة لتربك السؤال على شفاه الناي، وتستجدي عقاربها الكمال بين شظايا النور والصمت كروح تستنهض السكون، وتكدس بالعيون دروبا موصدة لتطارد في جسد القصيد فراشات تحمل تفاصيل ملامحها وخلاصة ضوء ووعد. تنسل خلف أغصان العمر لتتنفس من رنة النور على رصيف الشمس باحثة عن مكمن تتوارى خلف سفوحه طفلة البوريد، وفي كفيها زهرة من حنين تقطع أوراقها دمعة دمعة، ونبوءات روحها كطقوس كل موسم تتساقط متتالية لتبدأ التسبيح وتأذن للرحلة أن تبدأ نحو المجهول.