حطت رحالها تلك الورقة في أحشائي، ونمت، حتى كدت لا أطيقها من شدة تكورها اللامعقول. كنت أصرخ بشدة حين لا أحس بالألم؛ وحين يأتي الألم أشعر بالنشوة تغمرني؛ كان الأطباء يقولون لي بتعجبٍ: - أنت حامل بورقة صغيرة جداً لا ترى إلا عبر المجهر. قلت لهم: - كيف لا ترونها وأنا أشعر بثقلها في أحشائي وتكورها في زاوية محددة. قالوا لي: - الورقة وزنها أخف من كل شيء ولكن وجودها في الأحشاء ثقلها يقلب كيان الإنسان كله لا محال منه. كانت الورقة التي حملتها في أحشائي حين أرمي بالأوراق التالفة تتحرك. أحس وكأنها غير راضية أن أرمي أخواتها في الحياة التي تنتظرها؛ فكنت أجمع بقايا الورق لكي لا تغضب، وتقلب أحشائي المتعبة. فمهما يكن كانت ورقتي الأولى... عذابي ولذتي التي انهارت بسببها أحلامي كلها، وخرجت بها من انكسارات الحياة. أخبرت قريباتي بحملي الغريب. قلت لهن: - أنا حامل بورقة! اندهشن وقالت إحداهن: - أجهضي هذه الورقة سوف تقتلك. ولكنني لم أفرط بورقتي قط لأنني أحببت كل الآلام التي أشعر بها وأنا أحملها بين أحشائي، فقد كانت تواسيني في ليال قلقي، تحتضن أحشائي بحب حتى نما بيننا حب كبير وجسر من التواصل اللامعقول؛ كنت أسمع نبضات قلبها وهي تقول لي من خلف الحواجز: - أتمنى أن أبقى في أحشائك لكي يظل هذا الجسر بيننا. ابتعت لها أوراقاً كثيرة لكي تلعب بها حين تخرج لعالمنا. وحين جاءت ساعة الخروج كان خروج غير الأجنة الأخرى، لقد رفضت الخروج وساومت القابلة على خروجها. ماذا أقول غير أنها ورقة، فمن ينجب ورقة، سواي؛ لقد خرجت؛ وعندما رأيتها أمامي احتضنتها؛ لم تحملها القابلة إلي كما تفعل مع الأمهات، بل جاءت ورقتي إلي تهمس في أذني قائلة: - ماذا ستسمينني؟ قلت لها من خلف الألم: - سأسميك (فاي) ألا يعجبك هذا الاسم؟ ضحكت ورقتي وهي تقول: - نعم هذا الاسم جميل لأن معناه خالٍ، وأنا ورقة خالية من كل الأفراح. كانت ورقتي حزينة وجهها مليء بالحزن والخوف من شيء كنت لا أعرفه. احتضنتها.. كانت لا تبكي مثل الأطفال حديثي الولادة، لم أسمع صوتها، بل كانت صامتة وحزينة. راحت تحدق في الوجوه التي أحاطتها؛ توقفت بنظرها عند آخر الظلال التي تركت لها ذاكرة مؤلمة. كانت الورقة التي ثم اغتيالها أمام الجميع من دون أن تفرغ صفحاتها من الحبر المؤلم. فهناك من لم يكن راضياً بها رغم أنني كنت أريد ولدا، إلا أن ورقتي هذه لجمالها وروعة نظراتها أحببتها أكثر؛ تشبثت بها يكفي أنها لم تبك كالأطفال لحظة خروجها للحياة، بل راحت تتفرس في وجوه من حولها كأنها تخشاهم وترسم لهم ملامحهم الخبيثة نحوها. نمت ورقتي بين الوحوش، وكنت احتويها كلما شعرت أنها ليست على حالة حسنة؛ كانت الحياة قاسية عليها؛ تشربت الألم، أحسته منذ خروجها إلينا؛ كانت تجمع الأوراق عندما بدأت تسير بخطواتها المتعثرة تلف نفسها بها؛ لقد غرت على ورقتي الصغيرة من تلك الأوراق التي كانت تحيطها بدلاً عني؛ كرهت الورق؛ كنت أرمي بها أو أخفيها عنها؛ وحين تأتي وترى الأوراق قد اختفت كانت لا تبكي بل تصمت، و كان يقلقني صمتها حتى أنني خشيت عليها أن تصاب بالخرس. حين يغادرها النهار وتأوي إلى فراشها تنهمر دموعها وتحتضنها الوسادة لتخرج ورقة كانت تخفيها تحت وسادتها، كانت هذه الورقة التي أنجبتها لا تنام إلا قليلاً، ولا تتحدث إلا قليلاً وعندما كبرت صارت ورقة كبيرة، جميع الأوراق تحبها وتنحني لها احتراماً. صرت أحترم ورقتي أكثر من ذي قبل، وأما عن الأوراق الأخرى فلم أعد أغار منها على ورقتي ولكنني أخشى عليها من الشر المحيط بها فلقد زاد حزنها كلما كبرت تتمنى الرجوع إلى أحشائي). هكذا أخبرتني والدتي عن فصيلتي الورقية. كنت أستمع إليها بنهم عجيب عندما قالت: إنني لم أكن إلا ورقة فأدركت لماذا أحتضن الورق كل ليلة؟ لماذا شربت حليب الورق رغما ًعني ولم أشرب حليبها؟ لماذا قتلوني من دون أن يرحموني بأني ورقة لا تحتمل التمزيق؟ فأنا لم أشرب حليب أمي لأنه جف، والورقة لا تشرب حليباً بل تشرب حبرا. لقد شربت حبراً أسود قبل موعدي، فأنا لم أكن في أحشاء والدتي سوى ورقة أتعبتها في حملي لتسعة أشهر لأخرج وأنغمس في حياة أناس يرفضونني حد القسوة.