بدأت بعض الحركات المسلحة في دارفور تتصرف مع الصراع الدائر بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بما يؤدي بها إلى تخليها عن حيادها المعلن، حيث شكّل ما يسمّى بشركاء مسار دارفور الذي وقع مع الخرطوم اتفاقية جوبا للسلام قوة مشتركة مع عناصر من الجيش لضبط الأمن والسلم في الإقليم. وهي خطوة في ظاهرها الحفاظ على المصلحة العامة، وفي مضمونها يمكن أن تحمل انتهازية كبيرة إذا تطور شكل التعاون بما يتجاوز كثيرا نطاق ولاية شمال دارفور. وفهمت دوائر سياسية هذه الخطوة في سياق براغماتي قد يمهد إلى الانحياز لموقف الجيش على حساب قوات الدعم السريع التي تمتلك حاضنة اجتماعية وعسكرية مهمة في دارفور، أملا في انتزاع مكاسب جديدة، إذا حقق الجيش تفوقا عسكريا لافتا. ورجحت هذه الدوائر أن يكون الغلاف الأمني الذي أسبغته الفصائل المسلحة على تحركها الغرض منه تأكيد حرصها على استمرار اتفاقية جوبا، والتي جنت من ورائها مكاسب مادية عدة ومنحتها مشاركة مريحة في السلطة المركزية، وهو ما جعلها دوما تتهرب من تنفيذ استحقاقات خاصة بالترتيبات الأمنية مع الجيش وتترك الأمر غامضا. ونشرت خمس من الحركات المسلحة أخيرا والموقعة على اتفاق جوبا المئات من المقاتلين على سيارات دفع رباعي لتأمين المؤسسات الحكومية والمنظمات الأممية في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور عقب شعور قادتها بخطورة الفراغ الأمني الذي خلّفته المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع. وتحاول هذه القوة المكونة من حركات: تحرير السودان، والمجلس الانتقالي، والعدل والمساواة، وتجمّع قوى تحرير السودان، والتحالف السوداني، العمل على حفظ الأمن والاستقرار في دارفور، وبث الطمأنينة في أوساط المدنيين ومحاربة الجماعات المتفلّتة التي نشطت في عمليات نهب واعتداءات. وشهدت الفاشر معارك عسكرية واشتباكات دامية بين الجيش وقوات الدعم السريع في أجزاء متفرقة من المدينة راح ضحيتها عدد من المدنيين قبل أن تنجح وساطة قادها والي شمال دارفور نمر عبدالرحمن وقيادات أهلية قبلية ودينية في وقف إطلاق النار. وسادت مخاوف من مساندة الحركات المشكلة لمسار دارفور الجيش إذا احتدمت اشتباكات قائده الفريق أول عبدالفتاح البرهان مع قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أو انتقل جزء من الصراع مباشرة إلى الفاشر، ما يؤثر على التركيبة المجتمعية في الإقليم ودخوله في صراع قبلي، على غرار ما يجري في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، وشهدت أخيرا وقوع العشرات من الضحايا. وكشفت مصادر سودانية ل"العرب" أن الحركات الخمس المتمترسة في دارفور تتكون من موزاييك اجتماعي غالبيته تنحدر من قبائل أفريقية، ويعتبرها الجيش ورقة في يده إذا انتقلت معاركه مع قوات الدعم السريع إلى الإقليم، في استدارة كبيرة، حيث وظف الجيش سابقا قوات الدعم السريع ضد هذه الحركات، واليوم يمكن أن يحدث العكس، أملا في سد بعض الشرايين العسكرية التي يمكن أن تمثل رافدا مهما للجنرال حميدتي. وأشارت المصادر إلى أن قادة الحركات الخمس يراهنون على تحقيق الجيش تفوقا في معارك الخرطوم، ويستعدون للخطوة التالية وهي أن تكون هذه الحركات البديل الجاهز لقوات الدعم السريع من خلال المزيد من التعاون مع المؤسسة العسكرية وتسهيل عملية الدمج فيها بعد شعورها أن الطريق بين البرهان وحميدتي وصل إلى منحدر خطير. وحافظ العديد من الحركات المسلحة في غرب على مسافة بين الرجلين وهي تنتظر لحظة الحسم لتقرر مصيرها النهائي، لأنها لن تستطيع البقاء طويلا على حافة الحياد، بينما غالبية قادة الولايات الخمس في دارفور ينتمون إلى هذه الحركات، وحاكم الإقليم هو رئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي، أي يدينون رسميا بالولاء إلى مجلس السيادة الانتقالي الذي يرأسه البرهان. ونأت قوات الدعم السريع عن إثارة إشكالية موقف الحركات المسلحة وارتاحت لإعلانها الحياد، وإن كان يبدو حيادا إيجابيا، أي يحمل بذور تأييد للجيش، كي لا تفتح جبهة جديدة في توقيت تنصبّ فيه جهودها على حسم المعارك بالخرطوم. وذكر الباحث السوداني محمد تورشين أن الحركات المسلحة ليست في وضع جيد، ويصعب إعلانها الانحياز إلى قوات الدعم السريع حاليا، لأن من يحدد عملية دمجها في القوات النظامية هو الجيش الذي يفرض شروطًا عامة للدمج والتسريح، كما أن هذه الحركات لديها حسابات معقدة تجعلها غير قادرة على إعلان انحياز واضح لهذا الطرف أو ذاك الآن، وتدرك أن الأمر قد تكون له تبعات سياسية وأمنية عليها مستقبلاً. وبدأت المعارك الجارية في الخرطوم ترخي بظلال قاتمة على إقليم دارفور، وهو ما ظهرت تجلياته في الجنينة عبر اشتباكات متكررة بين قبائل أفريقية وأخرى عربية، ويمكن أن يتسع نطاقها وتعيد شبح الحرب الأهلية إلى الواجهة، مع حدوث تباين في التحالفات السابقة، وأماكن تمركز الحركات الناشطة في الإقليم. وما يعزز إمكانية ميل الحركات الخمس أو على الأقل بعضها إلى الجيش أن بينها من يتبنى أفكارا إسلامية وظل يخفيها فترة طويلة، فحركة العدل والمساواة التي يرأسها جبريل إبراهيم، وهو أيضا وزير مالية في الحكومة السودانية الحالية، تردد كثيرا أنه أحد الأذرع العسكرية للجبهة الإسلامية التي أسسها الراحل حسن الترابي. وقد تتكشف معالم هذا الولاء قريبا عندما يتأكد أن فلول نظام الرئيس السابق عمر البشير وجماعة الإخوان يلعبان دورا محوريا في تحريض الجيش ضد قوات الدعم السريع، لأن العمق الإستراتيجي لقادة العدل والمساواة يتمركز في دارفور. كما أن تلميحات أخيرة حملتها تصريحات لجبريل إبراهيم نفسه أفادت بعدم وقوف حركته مكتوفة الأيدي، ما يفتح الباب لمشاركته مباشرة في الصراع للحفاظ على مصالحه السياسية انحيازا لتوجهات أيديولوجية أخفاها السنوات الماضية عندما تأكد أن الحركة الإسلامية تواجه تطويقا أمنيا وسياسيا ولم تعد مؤثرة في المشهد الرسمي، فعدد كبير من الأحزاب والقوى المدنية رفض عودة قادتها إلى الساحة.