تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟ حسين موهوب.. شطحات الأجساد منذ بواكيره الفنية الأولى في الرسم والتصوير والتلوين، اختار الفنان التشكيلي حسين موهوب (1945 – 2016) المنحى التشخيصي في صياغة اللوحة الذي يؤكد ولعه الكبير بالفنون الإيقاعية كموضوع جمالي وكمصدر للإيحاء والاستلهام والاستيفاء، بل يكشف افتتانه بموضوعة الموسيقى التي لا يتورَّع في نقلها على مسطح اللوحة بأسلوبه التشخيصي الهندسي الذي يستمد طابعه التشكيلي من التناغمات الحسية للخط والشكل واللون، وذلك وفق توليف صباغي دينامي تتفاعل فيه المقطعات المساحية والسطوح المنبطحة والكتل اللونية وخطوط الإحاطة Cernes المميِّزة لأسلوب الرسم لديه.. من يقرأ لوحات الفنان موهوب الأخيرة سَتَشُدُّ بصره تلك الأجساد البشرية المختفية داخل غابة من الخطوط المتشابكة والأشكال المتراكبة والمتحرِّكة على إيقاع حركات الفنان وهو يفرغ شحنات فكره وينقلها إلى مستوى الرؤية عبر الخط المنفلت واللون الاصطلاحي والشكل المسطح.. أجساد موهوب مثل تنقلاته وسفرياته: كائنات هلامية لا مرئية يصعب إبصارها خلال أول وهلة، لكنها موجودة وتمارس حضوراً تعبيرياً ورمزياً داخل ثنايا اللوحة ومطاويها.. أجساد تتبادل المواقع لتنفخ الحياة في المساحات والأشكال التي تكوِّنها. وبقدر ما هي أجساد، هي أيضاً مرائي واقعية عاشها الفنان موهوب إنساناً ومبدعاً يجوب الحواري والأسواق الشعبية والحمامات والإدارات العمومية وغيرها. إنها مواقف ومعاينات يومية تم رصدها بعين ثالثة متأملة تسائل وتنتقد باستمرار وتطرح الأسئلة الضرورية لإعادة تشكيل الواقع المليء بالكثير من التناقض والمفارقات.. عقب التشخيصية الهندسية، عمد الفنان موهوب إلى تكسير أسلوبه التشخيصي الهندسي (الخطي) بلجوئه إلى التجريد القائم على هدم الأشكال والنماذج المرسومة وصارت الأجساد لديه تنمحي وتختفي خلف الخطوط المتشابكة بشكل مكثف يعكس نوعا من الحنين إلى التجريد الذي ميّز بداية الفنان موهوب وعلاقته الأولى بإنتاج اللوحة. في هذه التجربة الصباغية الجديدة/القديمة، بَدَا الفنان متحرراً من صرامة الخطوط وتراص الكتل والبناءات الهندسية، وفي عمقها تبرز تكوينات خطية غليظة ومنثالة وأخرى رقيقة ووادعة، متشابكة وضاربة نحو كل الاتجاهات وكأنها تواقيع وإمضاءات أيقونية سريعة التنفيذ تمتد للمخيلة والجسد في أهم تداعيَّاته وشطحاته المتغايرة.. إن المتلقين للوحات الفنان حسين موهوب الصباغية، سيُلامسون تخلصه من تشخيصية رياضية – من الرياضيات – مُصَمَّتَة لازمت إبداعه طويلا وطبعت انخراطه في تجريدية حركية صَدَّاحَة موسومة بحس غرافيكي فعلاني تقوى تعبيريته على رمزيته، وتشكله ألوان متضادة خاضعة في أغلب البناءات والتوليفات لسلطة السواد وخطوط الإحاطة الغليظة الهاربة والمنفلتة. إنها أيضا مساحات تلوينية غنائية، وحرة شاسعة ترسم هوية أثر اللون.. ولون الأثر في اندغام طيفي نادر يجسد التحوُّل في التجربة ورغبة الفنان في امتلاك التقنية والتحكم في ناصية الصيغة والأسلوب. فضلاً عن التصوير الصباغي الموسوم بالتسطيح والبعد الواحد، دشّن الفنان موهوب تجربة فنية مُغايرة في محاورة المادة المجسّمة والأشكال الفضائية التي أبرزت اهتمامه الجمالي والتعبيري بفن النحت بشكل يستحق الانتباه، حيث يجدر بنا الحديث عن قطعه الحديدية والنحاسية التي أنجزها في فترات إبداعية متنوعة (باريس، مكناس..)، وهي عبارة عن معالجات حجمية تتفاعل فيها الكتل والأحجام على إيقاعات تعبيرية ورمزية متنوِّعة. ضمن هذه التجربة، برز الفنان موهوب كنحات حديد ونحاس، حيث أنجز في فترات متباينة مجموعة من القطع النحتية التي تستمد هويتها الحجمية من رحم التعبيرية الرمزية.. فمنحوتاته، التي تؤرخ لهذه التجربة، عبارة عن معالجات نحتية تتفاعل فيها البنيات والكتل المنحوتة وفق توليفات مركبة صاعدة تقف على حوامل Supports، مشكلة بذلك الفكرة التي ينهض عليها موضوع المنحوتة.. موضوع تجريدي يستعير ملامحه من عناصر عضوية كائنية خاضعة (تشكيليّاً) لمنطق التلاعب بالامتلاءات والفراغات التي لا يتوازن فضاء النحت الحديث سوى بها.. تجربة الفنان موهوب النحتية، حتى وإن لم تعمِّر طويلاً، تبقى محطة مهمَّة في مساره التشكيلي وتكشف عن حبِّه وعشقه لاختراق المادة والسند، بل وتعكس قدرته، كرسام وكنحات، على تطويع خامات الطبيعة وتحويلها من وضع خالصBrut إلى وضع تشكيلي يثير القضايا ويطرح الأسئلة الجمالية والبصرية المفترضة، قبل تحويلها إلى عناصر لتأثيث الفضاء بالمفهوم الإبداعي للعبارة.. مع الإشارة إلى أن الفنان موهوب سبق له المشاركة في معرض الحجَّابات Paravents الأول في المغرب، الذي ضم 55 قطعة فنية، أربعون منها في ملكية الجماع والناقد الفني دانييل كوتورييه المشرف العام على هذا المعرض الأول من نوعه في المغرب وفي العالم العربي. المعرض من تنظيم كوتورييه بتنسيق مع النقابة المغربية للفنون التشكيلية بتعاون مع وزارة الثقافة ومؤسسة مسجد الحسن الثاني في الدارالبيضاء، وذلك بالخزانة الوسائط التابعة للمسجد طيلة الفترة الممتدة بين 01 و17 دجنبر 2012. إعداد: عبد الله الشيخ ابراهيم الحيسن